حلّ البرلمان بعد تصويته لصالح إلغاء التدابير الاستثنائية: منعرج خطير أم بداية مخرج؟


2022-03-31    |   

حلّ البرلمان بعد تصويته لصالح إلغاء التدابير الاستثنائية: منعرج خطير أم بداية مخرج؟

بعد ثمانية أشهر من “تجميده” و”تعليق أشغاله” باسم الحالة الاستثنائيّة، قرّر رئيس الدولة، مساء يوم 30 مارس، حلّ مجلس نواب الشعب. إعلانٌ جاء، في استعادة لمشهديّة 25 جويلية، في اجتماع مع القيادات الأمنيّة والعسكريّة، بعد يوم سياسيّ تسارعتْ فيه الأحداث بشكل مثير. فقد عقد مجلس نواب الشعب جلسة عامّة على الفضاء الافتراضي، هي الأولى منذ إغلاق قصر باردو بالقوّة العسكريّة، إذا ما استثنينا الجلسة الاحتفائية بالذكرى الثامنة للمصادقة على الدستور في جانفي الماضي. اكتست هذه الخطوة أهمية بالغة، ليس فقط من ناحية الحضور، الذي تجاوز الأغلبية المطلقة للنواب وشمل قوى سياسية ساندتْ بشكل أو بآخر إعلان 25 جويلية، ولكن أيضا من ناحية مخرجاتها، إذ شملت المصادقة على قانون ينهي العمل بالتدابير الاستثنائيّة. خطوة استبقَها سعيّد بالسخرية والوعيد، ثمّ حاول تعطيلها عبر التشويش على بعض التطبيقات الإلكترونية التي تتيح الاجتماع عن بعد، قبل أن تطلب وزيرة العدل ليلى جفال فتح بحث ضد النواب المشاركين في الجلسة بتهمة “تكوين وفاق قصد التآمر على أمن الدولة الداخلي”، وصولا إلى إعلان الرئيس حلّ البرلمان باسم “الحفاظ على وحدة الدولة”. واللافت أن سعيّد اتخذ قرار الحلّ والذي كان قبل يوميْن، ممنوعا بنصّ الدستور. وكان معظم المشاركين في الجلسة النيابيّة، بدءا برئيسها طارق الفتيتي، قد أجابوا على مخاوف الانزلاق نحو “تنازع الشرعيات”، بأنّ هدفهم هو المساهمة في الوصول إلى مخرج، يؤدّي إلى إجراء انتخابات سابقة لأوانها. فهل يمكن أن يكون حلّ البرلمان بداية حلحلة للأزمة، أم أنّ سعيّد سيواصل فرض مشروعه الشخصي على الجميع؟ 

تسونامي في المياه الراكدة

بتصويت 116 نائبا، صادقت الجلسة العامّة على مقترح قانون يتعلّق “بإلغاء الأوامر الرئاسيّة والمراسيم الصادرة بداية من تاريخ 25 جويلية 2021”. يتكوّن المقترح من فصليْن، الأوّل ينهي العمل بجميع الأوامر والمراسيم الصادرة منذ إعلان الحالة الاستثنائيّة، ويخصّ بالذكر الأمرين الرئاسيين اللذين تضمّنا تعليق اختصاصات مجلس نواب الشعب، والتمديد في التدابير الاستثنائية، والأمر 117 المؤرخ في 22 سبتمبر 2021، والذي علّق معظم أبواب الدستور وأرسى تنظيما جديدا للسلط، والمرسوم عدد 11 لسنة 2022 الذي حلّ المجلس الأعلى للقضاء وأسّس مجلسا مؤقتا مكانه. أمّا الفصل الثاني، فينصّ على نشر القانون في الرائد الرسمي للجمهورية التونسية وفي الموقع الإلكتروني للمجلس، وتعميمه “بكل وسائل النشر الممكنة”، وعلى دخوله حيز النفاذ “بداية من لحظة التصويت عليه” من الجلسة العامّة للبرلمان. بهذا الشكل، اعتبر النواب أنّ القانون نافذ حتى إن لم يختمه رئيس الدولة طبق الفصل 81 من الدستور. لكن، في ظلّ احتكار رئيس الدولة السلطة التنفيذيّة وسيطرته على القوتين الأمنيّة والعسكريّة، لم يكن هذا النصّ لينتج آثارا قانونيّة في الواقع، باستثناء مواصلة البرلمان اجتماعاته الافتراضيّة، ودفاعه عن شرعيّته الدستوريّة والديمقراطية.

أهمّية جلسة 30 مارس لم تكن تشريعيّة، بقدر ما هي سياسيّة. إذ كانت تعني عودة مجلس نوّاب الشعب، سياسيّا، كمصدر شرعيّة منافس لرئيس الدولة. فقد اقتصر الدفاع عن شرعية البرلمان، منذ 25 جويلية، على أحزاب التحالف الثلاثي الذي كان يقوده، والمتكوّن من حركة النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة. أمّا بقيّة القوى السياسيّة، ورغم انتقال معظمها تدريجيا إلى معارضة سعيّد وتدابيره الاستثنائيّة، إلاّ أنّها لم تحاول لا الالتقاء مع بعضها ولا لعب ورقة البرلمان، حيث ظلّت الانقسامات السياسيّة ما قبل 25 جويلية على حالها. 

جاءت خطوة الجلسة العامّة بعد بيان صدر عن 27 نائبا، ينتمون إلى حزبي التيار الديمقراطي وتحيا تونس، وكتلتي الإصلاح والوطنيّة، دعوا فيه إلى “عقد جلسة عامّة تشاورية لنقاش الحلول الدستورية الممكنة لوضع حدّ للإجراءات الاستثنائيّة”، وصولا إلى حوار وطني يؤدي إلى انتخابات تشريعيّة ورئاسيّة سابقة لأوانها. ما جمع هؤلاء النواب، بغضّ النظر عن اختلاف مواقفهم مما أسموها لحظة 25 جويلية، هو تحميلهم الأغلبية الحاكمة قبلها مسؤولية تردّي الأوضاع، وفي الوقت ذاته، معارضة استغلال سعيّد الحالة الاستثنائيّة للعودة إلى الحكم الفردي وفرض مشروع البناء القاعدي.

وشدّد هؤلاء النوّاب، في تصريحاتهم الإعلاميّة، على اشتراط عدم ترؤّس راشد الغنوشي، وبدرجة أقلّ سميرة الشواشي (قلب تونس) للجلسة. ولئن سمح ترؤّس الجلسة من طرفِ طارق الفتيتي، النائب الثاني لرئيس المجلس والمنتمي إلى كتلة الإصلاح، في حضور أكثر من 120 نائبا، فإنّ صدور الدعوة عن اجتماع لمكتب المجلس ترأسه الغنوشي، ساهم على الأرجح في تردّد عدد آخر. كما لم يكتفِ الحزب الدستوري الحرّ بمقاطعة الجلسة، وإنما طعن استعجاليا في قرار مكتب المجلس، وهو ما رفضته الدائرة الاستعجالية بالمحكمة الابتدائية بتونس لعدم الاختصاص، قبل أن تتوجه زعيمته عبير موسي إلى القضاء الإداري، في إطار صراعها مع سعيّد على “رأس مال” العداء للنهضة. هذه الأخيرة، التي لا يزال حزبها يتصدّر استطلاعات الرأي للانتخابات التشريعيّة، أعلنتْ مباشرة مساندتها لحلّ البرلمان مع المطالبة بانتخابات تشريعية سابقة لأوانها في أجل أقصاه 90 يوما، طبقا للدستور.

“أنا الدستور”، ما دامت القوة المسلحة معي ؟

تحرّك البرلمان بعد ثمانية أشهر من تعليقه، نجح على الأقلّ في دفع رئيس الدولة إلى ردّ الفعل ومراكمة المزيد من الأخطاء. فبعد أن دعا يوم 26 مارس النواب إلى الاجتماع “في مركبة فضائية”، عاد بعد يومين وخصّص اجتماع “مجلس الأمن القومي”، بتركيبة غير مكتملة، للتعليق على اجتماع مكتب البرلمان وتعداد “الحجج القانونيّة” لعدم شرعيّته. حتّى أنّه اعتبر أنّ عدم تجديد تركيبة البرلمان في مستهلّ الدورة البرلمانية (أي في أكتوبر الماضي، وقد كان البرلمان مجمّدا)، ينزع الشرعيّة على المكتب. كما لم يتردّد سعيّد في وصف الجلسة العامّة المبرمجة بأنها “انقلاب”. وكرّر سعيّد أنّه لم يحلّ المجلس، واكتفى بتجميده، “التزاما بالدستور”.

لكنّ الدستور نفسه أصبح بعد يومين فقط، أي بعد ساعات قليلة من التئام الجلسة العامّة للبرلمان رغم محاولات منعها، يتيح حلّ البرلمان. اعتمد سعيّد على الفصل 72 منه، الذي ينصّ على أنّ “رئيس الجمهورية هو رئيس الدولة، ورمز وحدتها، يضمن استقلالها واستمراريتها، ويسهر على احترام الدستور”. مرّة أخرى، اختار سعيّد إطار مجلس الأمن القومي، أو بالأحرى اجتماعًا مع القيادات الأمنية والعسكريّة، ليعلن حلّ البرلمان. ومرّة أخرى، تلاعب بالدستور وناقض نفسه، بل حذَف من الفصل 72 عند تلاوته ما لا يخدم تأويله، وهو واجب “السهر على احترام الدستور”. 

يبقى أنّ نقاش تأويل سعيّد للدستور لا معنى له، لأنّه ببساطة قادر على إلباس النصّ الدستوري أيّ شيء يريده، وفرض تأويله على الجميع، لا باسم شرعيّته الانتخابية التي لا معنى لها خارج إطار الدستور، وإنما اعتمادا على ولاء القوات الأمنية والعسكريّة له. بل أنّه لم يتردّد، في نفس الكلمة التي استند خلالها إلى الدستور، إلى اعتبار أنّ سيادة الشعب (التي يجسّدها ويحتكر التعبير عنها سعيّد) أعلى مرتبة من الدستور. فما كان يعيق حلّ البرلمان ليس الموانع الدستوريّة، بل حسابات سعيّد السياسيّة، إذ استغلّ “التجميد” لإيهام الخارج قبل الداخل بأنّه لم يخرج عن الدستور، وللتمطيط في الفترة الاستثنائيّة إلى غاية تنزيل مشروع البناء القاعدي على الأرض. لا فرق هنا إذا كان سعيّد يناور عن وعي، أو أنه يصدّق تأويلاته على تناقضاتها، فالنتيجة واحدة.

لكنّ الفرق، هذه المرّة، هو أنّ سعيّد انتقل من الفعل إلى ردّة الفعل، وبطريقة انفعاليّة. فما يدلّ عليه التضارب في التأويلات في غضون يومين، هو أنّ حلّ البرلمان لم يكن مطروحا على طاولة سعيّد قبل يوم الجلسة. إعلان حلّ البرلمان في اجتماع مع القيادات العسكريّة والأمنية، وأمر النيابة العمومية بملاحقة النواب المشاركين في الجلسة العامّة بتهمة “تكوين وفاق للتآمر على أمن الدولة”، هي قِطَعٌ إضافيّة تتجمع لتؤكد، لمن لم تتضح له الصورة بعد، أنّنا بصدد انقلاب مكتمل الأركان. للمفارقة، أكّد سعيّد، بتعامله مع الجلسة البرلمانيّة على أنّها “محاولة انقلابيّة فاشلة”، أنّ ما فعله كان… انقلابًا ناجحا. يأتي هذا، في الأسابيع الحاسمة للمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، التي إن لم تكلّل باتفاق، سيصبح من الصعب جدا تسديد الالتزامات المالية للدولة مع مُقرضيها في الخارج.

“الحلّ في الحلّ” ؟

يبقى أنّ حلّ البرلمان كان مطلب قوى عديدة، وبالتحديد الاتحاد العامّ التونسي للشغل. فقد لخّص الأمين العام للاتحاد العامّ التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، في حوار له على إذاعة موزاييك يوم 29 مارس، المخرج من الأزمة، في عبارة “الحلّ في الحلّ”. لكنّ الطبوبي قصَد “الحلّ” الذي ينتج عنه المرور مباشرة إلى انتخابات سابقة لأوانها، بدل انتهاج أسلوب “النفاق”، في إشارة ضمنيّة إلى خيار سعيّد القاضي بتجميد المؤسسة التشريعية واحتكار كلّ السلطات إلى أجل غير مسمّى، وفي الأثناء، التلاعب بقواعد اللعبة وفق إرادته المنفردة. 

لكنّ حلّ البرلمان، مع الحفاظ على خارطة الطريق التي تتضمن عرض مشروع دستور جديد على الاستفتاء في 25 جويلية، وترحيل الانتخابات التشريعية إلى 17 ديسمبر، بشروط يتحكّم فيها سعيّد وحده، لن يغيّر شيئا. وقد أصرّ سعيّد في كلمته على أن المواعيد التي ضبطها لن تتغيّر، ملوحا بإقصاء معارضيه من العملية الانتخابيّة. إذ صرّح في الكلمة ذاتها بأنّه “لن يعود إلى الانتخابات من يحاول الانقلاب والعبث بمؤسسات الدولة”. فأي عودة إلى الديمقراطيّة هذه، التي يتحكّم في شروطها وموعدها وقانونها وحتّى في حقّ المشاركة فيها، لاعب واحد؟  

لقد أثبتت نتائج المشاركة في الاستشارة الوطنية عدم انخراط الشعب في مشروع سعيّد، إذ لم تتجاوز المشاركة، رغم كلّ المجهودات المبذولة، نصف مليون شخص. وبيّنت الأشهر الثمانية الماضية عجزه عن مقارعة التحديات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، التي لا يقاربها سوى من منظار المؤامرة. فإذا كان ضعف الحصيلة الاقتصاديّة والاجتماعية أبرز عوامل هشاشة الديمقراطيّة، فها نحن نسرع بخطى حثيثة نحو انهيار اقتصادي واجتماعي، وفي الآن ذاته، هدم كلّ المكتسبات الديمقراطية للعشرية الفارطة. الفرق، هو أن إعادة بناء الاقتصاد، في أحيان كثيرة، أسهل من إعادة بناء الديمقراطية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أجهزة أمنية ، البرلمان ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني