حكومة نجلاء بودن في تونس: بين حدود السياسة والإدارة


2021-10-25    |   

حكومة نجلاء بودن في تونس: بين حدود السياسة والإدارة

بعد مرور أكثر من شهرين ونصف من بداية العمل بالأحكام الاستثنائيّة في تونس، تمّ الإعلان عن حكومة جديدة برئاسة الجامعيّة المختصّة في مجال الجيولوجيا “نجلاء بودن” صبيحة يوم الحادي عشر من أكتوبر. تقترب هذه الحكومة من حيث الشكل من حكومات المراحل الانتقاليّة في تونس، خصوصا حكومتيْ “محمد الغنوشي” و”الباجي قائد السبسي” سنة 2011 أو حكومة “المهدي جمعة” سنة 2014. ولعلّها تبدو للوهلة الأولى حكومة تكنوقراطيّة بامتياز، إلأّ أنّها لا تخلو من بُعد سياسيّ وإن باحت بغير ذلك في العلن. إذ أن هندستها لم تخرُج عن طوع بنان البيروقراطية التقليديّة وكذلك عن الدوائر المُضيّقة للقرار في قصر قرطاج.

 

أجنحة الحكومة الثلاثة

لاتزال المعلومات شحيحة حول الطريقة التي تمّ بها اختيار أعضاء هذه الحكومة، ولعلّ الوقوف على حيثيات صيرورة تشكيلها من الصعوبة بمكان، نظرا إلى وجود جملة من العوائق البنيويّة المرتبطة بفهم طبيعة المجال السياسيّ في تونس بعد إعلان التدابير الاستثنائيّة يوم 25 جويلية. وهو ما يدفعُنا إلى نوع من التنسيب في التحليل. إلاّ أنه من الواضح هنا أنّ رؤية قيس سعيّد الخاصّة وتصوّره لطريقة عمل الحكومة ودورها التسييري، هي التي عكست “فلسفة” هذه الحكومة في النهاية. يمكن أن نقرأ جزءا من طرح قيس سعيّد في هذا الموضوع عند سؤاله في حواره اليتيم مع التلفزيون العموميّ التونسي إثر الانتخابات عن دواعي اختياره للمدير الجديد لمعهد الدراسات الإستراتيجيّة التابع للرئاسة، فأجاب بأنه قد اختار شخصيّة إداريّة ليكوِّن مجموعة من فرق العمل ويشرف على عمليّة التّسيير. انعكس نفس هذا التصوّر للمناصب لاحقا في اختيار رئيس الحكومة السابق “هشام المشيشي”، الإطار الإداريّ السابق في وزارة الداخليّة الذي تمّ تعيينه كمستشار قانوني لدى رئاسة الجمهورية ثمّ اختير كوزير للداخلية في حكومة إلياس الفخفاخ قبل توليه رئاسة الحكومة. وقد تواصل نفس النهج مع اختيار رئيسة الحكومة الحاليّة “نجلاء بودن” الآتية من أروقة وزارة التعليم العاليّ. يتّضح هنا أنّ فكرة سعيّد في العمل الحكومي تنحصر في جانب التسيير أو التصرّف ولا تتعدّاها إلى طرح الاستراتيجيات والبدائل، ناهيك عن التمتّع بقدر معقول من الاستقلاليّة. فكرة أكّدها رئيس الجمهوريّة خلال عديد المناسبات، وليس آخرها خطابه الأخير أثناء تنصيب الفريق الحكومي الجديد معتبرا أن تشكيل الحكومة ليس أمرا مهما في حد ذاته وأن دواليب الدولة قد استمرّت في العمل حتّى مع عدم وجودها.

من ناحية الشكل، تمّ اتخاذ قرار تشكيل الحكومة بطريقة أحاديّة، فلم يتمّ التشاور حتى مع الهيئات غير الرّسميّة التي تمثّل كافة الأنساق الفرعيّة سواء الاجتماعيّة منها أو الاقتصاديّة أو السياسيّة كما جرت به العادة في فترات الانتقال السياسيّ. غير أنّ هذه الحكومة تحتوي رغم ذلك على ثلاثة أضلع رئيسيّة يُمكن رسم خطوطها بشكل واضح.

تشكّل دائرة البيروقراطيّة الإداريّة الضّلع الأوّل وتشمل أساسا عددا من الكوادر العُليا السابقة في الإدارة وهي ممثّلة، إضافة إلى رئيسة الحكومة، في عدد من وزارات السّيادة (وزير الشؤون الخارجيّة والهجرة والتونسيّين بالخارج وكاتبة الدولة المكلّفة بالتعاون الدّولي ووزيرة الماليّة) فضلا عن عدد من الوزارات المحوريّة مثل وزارة الفلاحة التي يقودها “محمود إلياس حمزة” الرئيس الأسبق لمؤسسة البحث والتعليم العالي الفلاحيّ ووزارة التجهيز التي شغلتها الوزيرة سارة الزعفراني المديرة العامة السابقة لوحدة متابعة إنجاز مشاريع الطرقات السيارة صلب الوزارة، ووزارة النقل التي شغلها ربيع المجيدي الإطار السابق برئاسة الحكومة.

ثاني أضلع هذه الحكومة هي الدائرة التكنوقراطيّة من غير المنتمين للإدارة العموميّة وتضمّ عددا من المختصّين والأساتذة الجامعيّين في عدد من المجالات من بينها أساسا القانون (وزير الشباب والرياضة “كمال دقيش” المُختصّ في القانون الرّياضي، وزيرة البيئة “ليلى الشيخاوي” المختصّة في قانون البيئة والماليّة العموميّة والعضوة السابقة في هيئة مراقبة دستورية مشاريع القوانين و”عماد مميش” وزير الدفاع المختصّ في القانون الخاصّ) إضافة إلى وزير تكنولوجيات الاتصال نزار بن ناجي ووزير الاقتصاد والتخطيط “سمير سعيّد” الذي ترأّس سابقا شركة الحصن للاستثمار بعُمان ورئاسة مجلس إدارة البنك التونسي الكويتيّ قبل تعيينه على رأس شركة “اتّصالات تونس”. وقد يعكس تعيين هذه الشخصيّة الأخيرة التي عُرفت بتجربتها الكبيرة في التعامل مع رأس المال الخليجي توجّه الحكومة الواضح في محاولة جلب الدّعم المالي والاستثماري من بعض دول المنطقة مثل السعوديّة والإمارات بعد التوتّر الأخير مع المؤسسات الماليّة الدوليّة.

أمّا ثالث أضلع التشكيلة الحكوميّة، وهو أكثرها أهميّة وإن كان أقلّها حجما من حيث عدد الوزراء فيشملُ دائرة المشروع السياسيّ لقيس سعيد. إذ يضمّ تحديدا ثلاثة وزراء: توفيق شرف الدّين الذي يعود لتولّي حقيبة الداخليّة، وهو محام ومدير الحملة الانتخابيّة لقيس سعيّد في انتخابات 2019، ومالك الزاهي وزير الشؤون الإجتماعيّة، النقابي، سليل عائلة سياسيّة ونقابيّة من منطقة قفصة وهو كذلك منسّق الحملة الانتخابيّة لقيس سعيّد في ولاية منوبة. ويُمكن أن نضمّ إلى هذه الدّائرة وزيرة العدل الحاليّة “ليلى جفّال” التي شغلت سابقا منصب وزيرة أملاك الدّولة زمن حكومة هشام المشيشي قبل أن تتم إقالتها في جانفي الماضي بسبب قربها من سياسات القصر في زمن تنامي الخلاف بين رأسيْ السلطة التنفيذيّة.

تنبعُ أهميّة هذه الدائرة في أنّها أداة رئيسيّة لدى سعيّد في برنامج إحكام سيطرته على المفاتيح الأساسيّة للدولة. فتوفيق شرف الدين سعى في فترة تولّيه لوزارة الداخليّة إلى الدفع بالقيادات الأمنيّة الأكثر ولاء للرئاسة لتولّي المناصب الحسّاسة داخل الوزارة مما عجّل بعزله من المنصب، وتؤشّر عودته بعد فترة من تولّي الإطار الأمني “رضا الغرسلاوي” تسيير الوزارة إلى عزم سعيّد حشد المؤسّسة الأمنية لخدمة مشروعه السياسيّ بشكل مباشر والبدء في عمليّة “تصفية” معاقل معارضيه داخل المؤسّسة. أمّا تعيين كمال الزاهي على رأس الشؤون الاجتماعيّة، وهو من الشخصيّات التي تمتلك علاقات وثيقة بالاتحاد العام التونسي للشغل ولديها القدرة على ربط التواصل معه في الملفّات الاجتماعيّة، فيندرج ضمن تقليد سياسيّ درجت عليه الحكومات السابقة في ضمان تمثيليّة للطرف النقابيّ داخل الحكومة. علما وأن الزاهي قد لعب دورا في التنسيق بين الاتحاد ومنظمات المجتمع المدني ورئاسة الجمهوريّة في فترات سابقة. ويبقى أمام الوزير الجديد جملة من التحديات في فترة تتميّز بحالة من الفتور بين الاتحاد ورئاسة الجمهوريّة، خاصّة وأن المنظمة الشغيلة تعتبر من المؤسسات الوسيطة القليلة التي ظلت تمتلك القدرة على الوقوف أمام مشروع سعيّد بشكل جديّ. كما يندرج تعيين “ليلى جفال” القاضية السابقة على رأس العدل، والمقرّبة بدورها من الرئاسة، ضمن مشروع سعيّد في إعادة تنظيم التوازنات داخل السّلطة القضائيّة والحدّ من استقلاليّة المجلس الأعلى للقضاء بدعوى مكافحة الفساد في القطاع القضائي (وهي النقطة التي أشار إليها سعيّد بشكل مطوّل في خطابه الأخير).

في المجمل، لا تخلو هذه الحكومة من مراكز قوى سياسيّة، بل كان لبعض أعضائها انتماءات حزبيّة في زمن النظام السابق (وزير الشؤون الدينية على سبيل المثال) وإن صُوّرت إعلاميا بأنها حكومة تكنوقراط. إلا أنّ تركيز القدرة السياسيّة في دائرة ضيّقة حول صانع القرار واعتمادها بشكل كبير على الولاء، يدفع إلى التساؤل عن موقع هذه الحكومة في البناء السياسيّ وعن مدى قدرتها على تنفيذ السياسات العامّة وسط السياج الشائك من الصلاحيّات المقيّدة الذي تمّ تحديده في الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021.

 

جدل الصلاحيّات ومستقبل العمليّة السياسيّة

ما من شكّ في أن تعيين الحكومة كان استجابة للضغط الخارجيّ أساسا. كما استمرّت عمليّة التعويم المقصود من خلال عدم الدفع ببرنامج واضح يمكن قياس مؤشّرات العمل الحكومي من خلاله. من الأرجح إذن أن قيس سعيد كان يعمد إلى التريّث بشكل أكبر قبل الإعلان عن هذه التشكيلة للتحكّم أكثر في الإدارة، وليس فقط بسبب ما ظلّ يردّده دائما حول “الفرز” بين أصفياء مشروعه ومعارضيه. كما من المتوقّع أن تخضع الحكومة لتأثير مجموعة من المستشارين لدى الرئاسة. ومن المعلوم أن جزءا من الوزراء أتى من نفس دوائر هؤلاء المستشارين حسب ما يستدرك عدد من المراقبين. تُطرح هنا إمكانية العودة الفعلية للتقليد السياسيّ المقيت المتمثل في “حكومة تخطيط” داخل القصر و”حكومة تنفيذ” خارجه، وهو نمط الحكم الذي ساد في أواخر عهد دكتاتورية بن علي بالتحديد، والذي حاول رئيس الجمهورية السابق “الباجي قائد السبسي” إحياءه من دون جدوى. أمّا داخل الحكومة نفسها، وكما تمّ الإشارة إليه في القسم الأول، فستحظى المجموعة الثالثة التي يُصطلح على تسميتها ب “المجموعة السياسية” بفُرص التواصل والتنسيق بشكل مباشر مع رئاسة الجمهوريّة، وهو الأمر الذي سيحدّ من نفوذ رئيسة الحكومة على هذه المجموعة ويكرّس لتراتبية موضوعية بين وزراء الجسم الحكوميّ الواحد، تُقاس بمقدار درجة القرب من القصر وتوجّهاته.

فضلا عن هذه الأدوات السياسيّة العمليّة، تخضع الحكومة في تسيير الأعمال إلى عديد القيود التي وضعها الأمر الرئاسيّ عدد 117 لسنة 2021. إذ هي “تسهر على تنفيذ السيّاسة العامّة للدولة طبق التوجيهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهوريّة”. وهذا ما يؤكّده الفصل 18 من هذا الأمر والذي يجعل الحكومة مسؤولة أمام الرئيس الذي يستأثر بالاختصاصات التي كانت موكولة لرئيس الحكومة حسب الفصل 92 من دستور جانفي 2014، وهي إحداث وتعديل وحذف الوزارات وكتابات الدولة وضبط اختصاصاتها وصلاحياتها وإقالة عضو أو أكثر من أعضاء الحكومة أو البتّ في استقالته والتعيين والإعفاء في جميع الوظائف العليا (الفصل 12 من الأمر الرئاسي). وعليه، يتبقّى لرئيسة الحكومة فقط مهمة تنسيق الأعمال والتصرّف في دواليب الإدارة لتنفيذ التوجّهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهوريّة ونيابته عند الاقتضاء في رئاسة مجلس الوزراء (الفصل 19) والتأشير على الأوامر الرئاسيّة ذات الصبغة الترتيبيّة مع عضو الحكومة المعنيّ (الفصل 6). يبدو هذا النمط المركّز من حصر السلطات لدى رئيس الجمهوريّة نوعا من ردّة الفعل تجاه ما شهدته تجربة الرئاسة مع حكومة “هشام المشيشي” سابقا من تجاذبات واختلاف والحرص على عدم خروج الشخصيّة التي تم اختيارها لرئاسة الحكومة عن الإطار الذي رُسم لها. كما لا تُخْفى نيّة قيس سعيّد في ترسيخ مشروعه السياسيّ الخاص بعدم تخصيصه لوزارة مختصّة في الشؤون المحليّة. فالمجالس البلديّة باتت الحصن الأخير الذي ما تزال الأحزاب السياسيّة ممثلة فيه وهي مجالس تتعارض مع مشروع قيس سعيّد.

بالتوازي مع المسار الحكوميّ يلوح في الأفق مسار سياسيّ وقانونيّ آخر سينبني على حوار وطني مع عدد من الفئات، حسب ما أكد عليه قيس سعيد في محادثاته مع الأطراف الأجنبيّة وكذلك في خطاباته مؤخرا. كما أشار الفصل 22 من الأمر الرئاسي عدد 117 إلى تولّي رئيس الجمهوريّة إعداد مشاريع تعديلات متعلّقة بالإصلاحات السياسية بالاستعانة بلجنة يتمّ تنظيمها بأمر رئاسي، قبل عرضها على الاستفتاء الشعبيّ. لذا يُرجّح أن تخضع هذه المشاريع إلى نقاش اجتماعيّ حيالها، بناء على تصريحات عدد من ممثلي التنسيقيات الذين أكدوا على فكرة التواصل الشعبي حيال الإصلاحات السياسية والاجتماعيّة القادمة. إلا أنّ الغموض المقصود والمتواصل في طبيعة المشاركين في هذا الحوار والنقاط التي سيتطرّق إليها يجعلُ من إمكانيّة أن يكون هذا الإطار مجرّد تزكية لخيارات تمّ إعدادها مسبقا قائما بشكل كبير. ولا يعسرُ على المراقب للساحة السياسيّة حاليّا أن يلاحظ إفراغا موضوعيّا لنشاط الأحزاب والناشطين السياسيين والاجتماعيّين التقليديين مقابل صعود واضح للتنسيقيّات المساندة لمشروع رئيس الجمهوريّة واستحواذها المتنامي على المشهد بل وحتى استقطابها لشريحة لا بأس بها من الشباب المنتظم في الأحزاب سابقا. هذه الهيمنة التي يتمّ التأسيس لها بالتدريج سواء في البنى الفوقيّة على مستوى مؤسسات الدولة (وربما سنشهد قريبا تواجدا لافتا لأنصار قيس سعيد على مستوى الولاة) وكذلك على المستوى القاعدي اجتماعيّا وسط تراجع غير مسبوق لصوت القوى التقليديّة، وغياب ملحوظ للرقابة الاجتماعيّة الحيّة وتغييب بعض الأطراف التي لا يرضى عنها الرئيس عن المشاركة في الحوار، سيجعل من المسار كلّه عملية فرض أمر واقع تحت غطاء تشاوريّ شكليّ جدا. ولن يكُون الإستفتاء الشعبيّ -والحالة تلك- سوى أداة لمباركة خيارات الشخص، أكثر منه تعبيرا ديمقراطيّا عن تمثّل المشروع.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

سلطات إدارية ، أحزاب سياسية ، عدالة انتقالية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني