حزب الرئيس سعيّد: صراعات السلطة داخل حلقات المتطوّعين


2022-05-23    |   

حزب الرئيس سعيّد: صراعات السلطة داخل حلقات المتطوّعين
تصوير: أحمد زروقي

تبرز “اللاّ حزبية” بوصفها كلمة مفتاحية في خطاب الرئيس قيس سعيد وأنصاره. ودعاة “العصر الجديد” لا يفكّرون في تأسيس حزب أو حركة سياسية، لأن الأحزاب اقترنت بفساد منظومة التمثيل الديمقراطي وهي ظاهرة عتيقة ستُقبل الإنسانية جمعاء على تجاوزها. ولكن هذا الحزب غير المفكّر فيه دَخل سباق نوايا التصويت لدى شريحة لا بأس بها من الناخبين. وقد كشف أحد استطلاعات الرأي لشهر ماي الجاري أن حزب الرئيس قيس سعيد حصد المرتبة الثانية في نوايا التصويت بنسبة 26.2%، متأخرا قليلا عن الحزب الدستوري الحر الذي حصد 29.9% من نوايا التصويت.

داخل حلقات الأنصار، تبدو فكرة ميلاد حزب سياسي مقترن باسم الرئيس مغرية ومُربكة في آن. ففي الوقت الذي اتجه البعض نحو تشكيل حركة أطلقوا عليها “حراك 25 جويلية”، وهي امتداد لحزب “حركة شباب تونس الوطني” الحاصل على التأشيرة القانونية منذ سنة 2019، أبدى البعض الآخر رفضا لتحزيب لحظة 25 جويلية 2021. ومع اقتراب المواعيد الانتخابية يزداد التساؤل حول التركيبة السياسية والاجتماعية المحيطة بالرئيس. ماهي سرديتها التنظيمية؟ كيف تتشكل العلاقات داخلها؟ ماهي علاقتها بالسلطة وأجهزة الدولة؟ يسعى هذا المقال إلى الخوض في هذه الأسئلة من أجل محاولة إدراك أبعاد ظاهرة “اللاحزبية” التي يبشر بها الرئيس وأنصاره…

متطوعون ومُفسّرون وتكنوقراط

إن الإمساك بالتركيبة المُناصرة للرئيس سعيد لا تبدو عملية سهلة، لأنهم يستعرضون أنفسهم بوصفهم أفرادا وليس “تنظيما سياسيا”. إضافة إلى أن علاقتهم بالمشروع الأصلي متفاوتة، وتجاربهم الاجتماعية والسياسية أكثر تفاوتا. كذلك علاقتهم بمواقع الحكم ومراكز النفوذ متباينة.

قبل صعوده إلى سدّة الحكم بأشهر قليلة، أعطى قيس سعيّد لشركائه في المشروع وأنصاره صفة “المتطوّعين” وقال إنه لن يجازيهم بشيء عند وصوله إلى قصر قرطاج. ومنذ 25 جويلية الفارط أصبحت الكثير من وسائل الإعلام تُطلق على البعض منهم صفة “عضو/ة الحملة التفسيرية للرئيس قيس سعيد”. كذلك فَضّل البعض منهم أن يعطي لنفسه صفة “متطوع في المجتمع الأهلي” على غرار ما ذهب إليه أحمد شفتر في أحد حواراته الأخيرة.

لا تلوح هذه التركيبة متجانسة ولكن يمكن على الأقل أن نميّز إجرائيا بين ثلاثة خطوط أولية، لا تخلو نفسها من تباينات. الخطّ الأول يُجسّده من يطلقون على أنفسهم “أبناء المشروع”، وهي النواة الأولى التي تشكلت في فيفري 2011 حول ما يعرف بـ”قوى تونس الحرة”، وتربط بين عناصرها علاقات جامعية قديمة تعود إلى الحركة الطلابية في سبعينات القرن الماضي، يُضاف إليها مجموعة شبابية أفرزها الزخم الثوري لسنة 2011. وتُعرّف هذه التركيبة نفسها بأنها: “تتشكل من تكنوقراطيين تقدميين يعملون داخل المؤسسات العمومية والخاصة وكذلك من مثقفين ثوريين ومعطلين عن العمل من حاملي الشهادات العليا ومن غيرهم من المهمّشين النوعيّين والاجتماعيين والعناصر التقديمة والديمقراطية”.[1] وعلى المستوى الفكري، تَعتبر هذه النواة نفسها أنتلجنسيا “التأسيس الجديد” لأنها الأقرب في نظرها إلى روح المشروع الأصلي، ويُمثلها أساسا رضا شهاب المكي وأحمد شفتر وسنية الشربطي. ويفضّل هؤلاء عموما الاحتفاظ بصفة “المتطوعين” التي أسندها إليهم الرئيس قيس سعيد.

الخط الثاني تُجسّده أساسا المجموعات التي التحقتْ بالحملة الانتخابية للرئيس سعيد سنة 2019 التي باتت تعرف بـى “الحملة التفسيرية”. وتتكون هذه التركيبة أساسا من طلاب الرئيس القدامى وزملائه الجامعيين، وبعضهم الآخر انتظم في موجة “التنسيقيات” التي يعتبرها “المؤسسون” انحرافا بالمشروع. ومعظم الوجوه المعبّرة عن هذا الخطّ لا تملك تجربة ومعارف سياسية كبيرة، ولكنها تعيد إنتاج خطب الرئيس بصيغ مختلفة، وكانت الأقرب إلى تقلّد المناصب والوظائف منذ صعود الرئيس إلى سدة الحكم بوصفها احتياطي طبقة “التكنوقراط” الجديدة المُوالية للرئيس.

في الآونة الأخيرة، برَز الخطّ الثالث الذي يدفع نحو تحزيب “المسار” من خلال ما يعرف بـ”حراك 25 جويلية”. ويُبدي هؤلاء سلوكا حزبيا من خلال فتح مقرّات وتأسيس مكاتب محليّة وجهوية ولكنهم يعتبرون أنفسهم “مشروعا”، وهذه الصيغة الجديدة عبّر عنها كمال الهرّابي، الكاتب العام الوطني لحراك 25 جويلية، قائلا: “على الورق نحن حزب ولكننا مشروع يستلهم مبادئه من أفكار الرئيس”. هذا الاتجاه الباحث عن استثمار المزاج العام المؤيد للرئيس جعله عرضة للتشكيك والتخوين من قبل “أبناء المشروع” وأعضاء “الحملة التفسيرية”. وقد كشفت مسيرة 08 ماي المؤيدة لقرارات الرئيس عن وجود صراعات بين المجموعة المنتسبة إلى “حراك 25 جويلية” وبين بقية المجموعات التي ترفض وجود ممثلين رسميين لمسار 25 جويلية، وقد وصل هذا الصراع إلى حدود التشابك بالأيدي وتبادل الشتائم.      

داخل السلطة وخارجها: مُعادلة “العصر الجديد”

جلّ المجموعات المتبنّية لمشروع الرئيس تتحصّن بمنطق “الزهد السياسي” وتسوّق لنفسها كحالة سياسية خالية من مطامع الحُكم ورهاناته. هذا الإعلان الطّهوري يردّده الجميع تقريبا. سبق وأن صرّح أحمد شفتر قائلا: “أنا متطوع ولا أطلب سلطة القرار وأشفق على حال مُتحمّل المسؤولية”. أيضا قال كمال الهرّابي: “لا نسعى إلى مواقع في السّلطة ولا نطلب أيّ شيء”.

هذا التعفّف الخطابي لا يصمد كثيرا أمام السلطة كظاهرة تاريخية تقوم على دينامية الصراع والتقاء المصالح وحروب المواقع والنفوذ. السلطة الجديدة لا تقف خارج هذا المنطق رغم الهالة الأخلاقية التي يضفيها عليها الرئيس وأنصاره. منذ وصول الرئيس إلى سدة الحكم في أكتوبر 2019، بدأت تظهر ملامح الصراع بين “حَمَلة المشروع” وجزء من الفريق الإداري الجديد الذي انتدبه الرئيس لإدارة ولايته. كانت رئيسة الديوان السابقة نادية عكاشة أحد العناوين الكبرى لهذا الصراع، حيث اعتُبرت دخيلة على المشروع وتطمح إلى عزل الرئيس عن رفاق الأمس. وقد قال عنها مؤخرا أحمد شفتر “إنها لم تكن يوما ضمن مشروع البناء الديمقراطي”. في ذلك الوقت، استبطن “المتطوّعون” أن هناك اتّجاها تكنوقراطيا يهدف إلى إزاحتهم. ومنذ 25 جويلية، شكّلت حركة تنصيب بعض الولاة والمعتمدين دليلا على أن أبناء المشروع أنصفتهم التدابير الاستثنائية وبدأوا يتسللون إلى مراكز الحكم. وعلى الأرجح تركوا بصماتهم في الكثير من التعيينات الأخرى، بخاصة في الدواوين الوزارية.

مع اقتراب المواعيد الانتخابية وخاصة الانتخابات التشريعية المُبرمجة ليوم 17 ديسمبر 2022، بدأ يظهر الصراع حول التمثيل السياسي لمشروع الرئيس. وتحت حجية رفض الوسائط والامتيازات، تجري عملية قطع الطريق أمام ولادة جسم سياسي كبير يستحوذ على كامل الغنيمة من “مسار 25 جويلية”. وفي الأثناء، تسعى مختلف الحلقات التي تدور في فلك الرئيس إلى بناء استراتيجيات امتلاك السلطة وبناء قوة سياسية ذات نفوذ وهيمنة داخل دوائر الحكم وفي المجتمع. وباستثناء وحدة الولاء للرئيس، لا تستعرض هذه المجموعات رؤيتها للمشروع بنفس الآليات التحليلية والخِطابية.  

رغم خطاب “الزهد السياسي”، فإن الصراع على السلطة سيكون أحد أبرز العناصر التي ستُشكل علاقة هذه الحلقات ببعضها. ولن يصمد التطوّع كثيرا أمام إغراءات التعيينات وإسناد الوظائف والمناصب. وهو مآل موضوعي طالما أن هناك إرادة نحو تحطيم مؤسسات التعاقد السياسي والاجتماعي باسم رفع الوصاية. ولكن طيلة هذه المرحلة التي تُعتبر في نظرهم انتقالية وبداية طريق “البناء الجديد” فإن جميعهم يسعى إلى الإعلاء من قُطبيّة الرئيس الذي أصبح يجسد السيادة الشعبية. وهذا الاتجاه لا يختلف عن رؤية كل الشعبويات لدور الرئيس في السلطة. هذه الظاهرة يصفها فرانسوا دوبيه قائلا: “الفكر الشعبوي يلغي التوتّرات الديمقراطية باسم أغلبية أصبحت الشعب، ويطالب بسلطة قوية فاضلة وقادرة على التصرف: سلطة متجسدة في رئيس”.[2]

طراز تنظيمي جديد

لا تعبّر المجموعات المرتبطة بالرئيس عن المسألة التنظيمية بنفس القدر من الوضوح. ولكن هناك خطاب تنظيميّ أصبح يتكرّر في وسائل الاعلام في الآونة الأخيرة ويُعبّر عنه بشكل نسقي أحمد شفتر، المحسوب على النواة الأولى لـ”التأسيس الجديد”. يستعرض هذا الخطاب التنظيمي نفسه بوصفه “نظرية جديدة في التنظيم” تنهل إبداعيتها من تجاوز الظاهرة الحزبية وكل الأجسام الوسيطة بين الدولة والمجتمع. ولكن ما هو البديل التنظيمي لأشكال المأسسة التنظيمية “القديمة”؟ يجيب أحمد شفتر: “نحن متطوّعون نشتغل داخل محليّاتنا ونتشكّل تلقائيا ولا نتنظّم إلا بالقوانين التي تسمح بها الدولة” و”المشروع هو مداولات مواطنيّة بين مجموعات داخل المحليّات يجمع بينها الكثير من المشترك”.  

حسب هذا التوصيف، فإن المشروع التنظيمي القادم لا يملك خطّا سياسيا وفكريا مركزيّا يُنظّم جهود ومصالح ورهانات منخرطيه، وإنما هي حالة من التشظي التنظيمي التي تواكب خصوصيات الالتقاءات المحليّة. بشكل أو بآخر، ستكون “المجموعات المحلية” العماد الأساسي للتنظيم الجديد. ولكن إلى حدّ الآن لا يجيب المبشّرون بهذا الطراز عن أشكال التنسيق بينها، شكل القيادة الجديد، آليات التنافس وإدارة الاختلاف داخلها. وباستثناء تشبّعها بالروح المحليّة، لا تعطي المقاربة الجديدة ملامح أخرى حول هذه المجموعات. وهذه الشخصية المحليّة المثالية يختصرها أحمد شفتر قائلا: “ابحث عمن يريد أن يذهب بك في محليّتك لخلق حلول للتنمية”.

هذا الطراز التنظيمي يعفي نفسه من الامتيازات والوساطة والوصاية، هذا الثالوث التنظيمي الجديد المحرّم، ويعتبر نفسه حالة من التنادي التلقائي المجرّد من أي منفعة باستثناء الهمّ التنموي. ولكنّه في الوقت نفسه يتماهي مع النظام السياسي الذي تريد سلطة التدابير الاستثنائية فرضه. نظام يقوم على سلطة تشريعية نابعة من القاعدة يجسدها مجلس تشريعي وطني وسلطة تنفيذية فوقيّة يمثّلها رئيس الجمهورية. وهذه الفكرة عبّر عنها أحمد شفتر قائلا: “بناء السلطة التنفيذية من فوق إلى تحت وبناء السلطة التشريعية من تحت إلى فوق”. وهو ما يعطي فكرة أوليّة عن هذه “المجموعات المحليّة” وعلاقتها بالسلطة التنفيذية، فهي الوسيلة الأساسيّة لإنتاج الهيمنة المحليّة وإعادة تشكيل المجال السياسي وفقا لرهانات المشروع الرئاسي الذي يتجه نحو إلغاء التمثيليات السياسية والمدنية المنافسة، لصالح ثمثيليّات جديدة يُسوَّق لها بوصفها “لقاءات تطوعية” و”إبداعية جديدة”.


[1]  من هي قوى تونس الحرة؟ منشور بتاريخ 27 /02/ 2011

[2] فرانسوا دوبيه: علم اجتماع الشعبوية (ضمن مؤلف جماعي، عودة الشعبويات أوضاع العالم 2019، إشراف برتران بادي ودومينيك فيدال، ترجمة نصير مروة، مؤسسة الفكر العربي، 2019، ص: 94).

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، حريات عامة والوصول الى المعلومات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني