عند الساعة السابعة من صباح نهار السبت 5/9/2015 فتح حرش بيروت أبوابه ليستقبل اللبنانيين دون قيد أو شرط وذلك بعد إتفاق بين جمعية "نحن" ومحافظ بيروت زياد شبيب. وكان هذا الاخير قد وعد منذ حوالي الشهر بإعادة فتحه أمام الناس بعد سنوات من الوعود التي كانت تطلقها بلدية بيروت دون ان تسعى عملياً لتحقيقها.
لكن قد ظن الناس ان الخامس من أيلول هو نهار "عودة الحق الى اهله" بإستعادة اهالي المدينة لآخر المساحات الخضراء والمتنفس الوحيد لهم الاّ انه لم يكن كذلك. اذ تبيّن ان الحرش سوف يستقبل زواره كل سبت فقط من الساعة السابعة صباحاً وحتى السابعة مساءً ولأجل غير محدد.
أما السبب فيرجعه محافظ بيروت زياد شبيب في اتصال مع "المفكرة القانونية" الى النقص في الامكانيات لدى بلدية بيروت حيث قال: "تبلغ مساحة حرش بيروت نحو 333000 متراً وهي مساحة كبيرة تحتاج الى عمال وموظفين للاهتمام به ولا يوجد أعداد كافية لهذا الأمر. كما أنه غير مجهز حالياً حيث لا يوجد حمامات وينقصه العديد من الأمور اللوجستية وغيرها من الأمور".
يرفض شبيب اعتبار فتح الحرش مرة واحدة في الأسبوع بمثابة الفترة التجريبية للناس وانما يصرّ على ربط الامر بنقص الإمكانيات وان الأمر سيستمر على هذا النحو الى حين تأمين كل المستلزمات التي تمكن البلدية من فتحه على مدار الأسبوع.
من ناحية أخرى يرفض شبيب إعطاء تاريخ زمني محدد لهذه "الجزئية" في فتح الحرش ويكتفي بالقول: "لقد وعدتكم بفتحه في الخامس من ايلول وقبلها تلقيتم العديد من الوعود التي لم تصدق معكم لذا لن أعطي وقت محدد ربما لن ألتزم به".
بدوره يرفض المدير التنفيذي لجمعية "نحن" محمد ايوب اعتبار فتح الحرش مرة في الأسبوع بمثابة تجربة ويصر على أنه لن يغلق مجدداً أمام الناس. وسيكون هذا الأمر على نحو تدريجي بداية كل نهار سبت، من ثم كل نهاية أسبوع ليصار فيما بعد الى فتحه على نحو دائم. وعن ذلك قال:"ان هذا الإتفاق تم تماشياً مع مقدرة البلدية على الإهتمام بالحرش، وهي الآن بصدد تجهيز نفسها فهناك نقص ان بجهاز الإطفائية أو عدد العمال الخ. والى ان ويحل هذا الموضوع وتسد جميع الثغرات والنواقص، سيتم فتح الحرش على نحو تدريجي فالبلدية لا تملك بعد الخبرة اللازمة لإدارته وبهذه الطريقة يحاولون اكتساب المهارة اللازمة لذلك".
اذاً منذ الصباح بدأ عدد كبير من المتطوعين في جمعية "نحن" ينتشرون داخل الحرش بهدف المساهمة في التنظيم ولمساعدة الزوار على تعلم أصول التعامل مع مساحة عامة مثل "حرش بيروت".
عند باب المنتزه يقف عدد من المتطوعين ببزة صفراء حتى تتمكن من تمييزهم. يوزعون على الزوار منشور جمع مجموعة من القواعد على الزائرين الالتزام بها اثناء تواجدهم في الحرش. وتتضمن هذه اللائحة سلسلة من الممنوعات منها منع دخول السيارات والدراجات على انواعها الى الحرج؛ منع دخول الباعة المتجولين؛ منع لعب الكرة للمحافظة على المغروسات؛ منع الصيد وإدخال السلاح على أنواعه؛ منع دخول الادوات الحادة والمسببة بالحريق. بالإضافة الى ذلك، يمنع التدخين في كافة اشكاله كما انه ممنوع تسلق الأشجار. وطبعا يمنع رمي النفايات أرضاً وانما توزيعها مفرزة في الأماكن المخصصة لها. وقد طلب من الزائرين الابلاغ عن المخالفات الى موظفي الحرش.
ومن المتطوعين يتحدث سهيل سعادة الذي انتظر طويلاً هذه اللحظة: "أنا اسكن على مقربة من الحرش وقد أصبح عمري 24 سنة وأمضيت معظم طفولتي أسال والدي لماذا لا يمكنني الدخول الى هنا والآن تحققت أمنيتي. هنا عالم آخر مختلف كليا وجدت فيه حقاً كان مسلوباً منا. لم أصدق بأنني سأتمكن يوما ما من الدخول الى هنا دون الحاجة الى رخصة او هوية أوروبية او سن معين".
أما عن دوره كمتطوع فقال: "ان دوري يكمن بتأمين نوع من الانضباط داخل الحرش. فقد وضعت جمعية "نحن" بالتعاون مع محافظ بيروت سلسلة من القواعد تتضمن بعض الممنوعات وذلك للمحافظة على الحرش وحتى يتعود الناس عليه وكي لا يكون لدى البلدية حجة لاغلاقه من جديد".
قبل الدخول الى "الحرش" عليك أولاً أن تبرز بطاقة الهوية عند الباب، صحيح انه لن يطلب منك شروط معينة كان تكون أوروبياً أو تخطيت الثلاثين من عمرك ولكن عدم إمتلاكك لهوية او أوراق ثبوتية تعرف عنك، هو أمر سيحول دون تمكنك من الدخول. هذا الطلب على بساطته قد يجعل المواطن يشعر للوهلة أنه في صدد الدخول الى إحدى مؤسسات الدولة لاتمام معاملة رسمية، او انه يهمّ في عبور الحدود الى بلد آخر الا ان "أيوب" ينظر الى الأمر من ناحية إيجابية فيضعه في خانة "الامنيات" من جهة والإسهام في إحصاء عدد الزوار من جهة اخرى.
داخل الحرش عالم آخر تماماً لا يشبه المدينة الاسمنتية خارج أسواره بشي. أشجار الصنوبر الشهيرة تنتشر أمام ناظريك على جانب طريق رملي فيما ترتفع يافطات على الطرفين تذكر انه "ممنوع الصعود على التلال". خطوات قليلة الى الداخل حيث تجد ما يسمى بالمدينة الخضراء التي هي كناية عما يشبه خيم مصنوعة من القش اليابس محاطة ببعض الشجيرات فيما اليباس يضرب جنباتها ومع ذلك هناك لوحة تشير الى انه يمنع الدخول اليها. تم انشاء هذه المدينة في 13 تشرين الثاني 2006 بحضور السيد جان بول هوشون، رئيس المجلس الاقليمي لمنطقة الايل دو فرانس الا انه بعد مرور كل هذه السنوات لم يبقى من المدينة الخضراء غير اسمها.
ساعات الصباح الأولى كانت قاحلة من ناحية عدد الزوار بينما الحضور الطاغي كان لحراس بلدية بيروت الذين كان سلوكهم يشي بعدم رضا البلدية عن "افتتاح الحرش". اذ انه على الرغم من عدد الزوار الذي كان قليلاً نسبياً الا ان هؤلاء لم ينفكوا عن الاستعراض والتصرف على نحو يظهر وكأنهم يحاولون السيطرة على وضع أمني ما. كما كانوا يسيّرون آلياتهم بسرعة داخل الحرش ذو الأرضية الرملية ولا يكترثون بالغبار المتطاير في الأجواء حتى يشعر المرء وأنه يكاد يختنق في مساحة قصدها ليتنفس بعيداً عن إزدحام المدينة. هذا الامر دفع بسيدة كانت تسير وابنتها التي لا تتعدى سنواتها الأربعة الى ان تسرع بالسؤال عن أقرب طريق للخروج من الحرش لانها عاجزة عن متابعة سيرها في هذه الاجواء.
الا ان الغبار لم يؤثر على جورج يواكيم، فهو قد انتظر بفارغ الصبر افتتاح الحرش ليراه عن قرب. أتى جورج من منطقة الأشرفية لزيارة المكان وعلى الرغم من كبر سنه الا انه لم يسبق له ان زاره من قبل. وقال:"قرأت خبر فتح الحرش بالجريدة وكنت اظن انه لا يوجد هنا سوى بعض أشجار الصنوبر الا انني تفاجئت بتنوع الأشجار والنباتات المكان حقاً رائع وبديع. انا معتاد على السير على الكورنيش البحري ولكن طالما انه فتح سآتي دائما وآمل أن يتم فتحه يوميا وليس لنهار واحد في الأسبوع".
لم ينتبه كريم الى لوحة كتب عليها "ممنوع السير على الغازون" فهو لا يجيد قراءة العربية بل راح يطير طائرة على البطارية لتركض خلفها ابنته الصغيرة التي لا يتعدى عمرها الثلاث سنوات. بدت سعيدة وهي تقفز للأعلى محاولة ان تمسك بالطائرة وهو كان فرحاً بها. وعن وجوده في الحرش قال:"هذه ليست المرأة الأولى التي آتي الى هنا. ففي كل عام تتم احتفالات داخل الحرش ويدعونني فآتي. لكنني سعيد انه بات مفتوح أمام الناس اذ لا يوجد غيره في بيروت".
على احدى المقاعد الاسمنتية، يجلس سامي كنعان، يدخن سيجارته ويرميها أرضاً لاحقاً. هذه ليست المرة الأولى التي يدخل فيها الى الحرش بل هو من رواده الدائمين. وعن الأمر تحدث قائلاً: "انا أملك اشتراك في الحرش منذ عهد المحافظ ناصيف قالوش. هناك 200 شخص في لبنان لديهم هذا الامتياز. أمضي الوقت أبحث عن بقايا السجائر وألمها لأضعها في سلة المهملات". يبدو كنعان غاضباً ويعبر عن استياءه من اعادة فتح الحرش أمام الناس. ويضيف: "ان فتحه يوم بالأسبوع هو مجرد تجربة للناس وإذا لم تسير الأمور على ما يرام سيعودون الى إغلاقه. وهذا أفضل لأنه سرعان ما سيتحول المكان الى مكب للنفايات. الحرش هو مكان للرياضة والمطالعة والاسترخاء وهو لن يبق كذلك سيتحول الى مزبلة".
في الواقع لا تبدو حجة التجهيزات وتأمين العمال والمعدات مقنعة لكثيرين من الناس لاسيما وان بامكان "بلدية بيروت" تمويل هذا المشروع نظراً لما تملكه من مال. وبالتالي فإن "الحديث عن فترة تجريبية" تبدو أكثر إقناعاً علما أنه في المنطق والقانون من واجب الناس اختبار الأوصياء على البلدية وتقييم مقدرتهم في الاشراف على الحرش وليس العكس. وعليه فإن شعور المواطن اللبناني بإستعادة حقه في "حرش بيروت" يبقى منقوصاً الى حين جعل الدخول اليه يوميا دون قيد او شرط.
الصورة من أرشيف المفكرة القانونية، تصوير علي رشيد