حرب التيار الوطني الحرّ ضدّ تحقيق المرفأ (2): ملامح التسوية السياسية


2022-10-05    |   

حرب التيار الوطني الحرّ ضدّ تحقيق المرفأ (2): ملامح التسوية السياسية

فور الانتهاء من الانتخابات النيابية، اختار التيار الوطنيّ الحرّ مقاربة مختلفة في قضية تفجير المرفأ. فبعدما كان حريصا على إعلان تمسّكه بحماية التحقيق فيها، بات خطابه يتمحور حول مظلومية توقيف مدير عام الجمارك “بدري ضاهر”. وقد بلغ هذا الخطاب أوجّه في الذكرى الثانية للتفجير في 4 آب 2022 ومن بعدها حيث طغت قضية الموقوفين عليه في موازاة تهميش ذاكرة الضحايا تماما. ولم ينقضِ شهر من هذه الذكرى إلا وتبلورت أهداف واضحة لهذا الخطاب بلغت أوجّها مع بروز بدعة تعيين قاضٍ ثانٍ (القاضي الرديف) للنظر في الطلبات الملحّة ومنها طلبات الموقوفين بإخلاء سبيلهم. ومن الجدير ذكره أن هذا الانزلاق في الأولويات والخطاب ليس جديدا بل نكاد نشهده بصورة منتظمة في مجمل الحالات التي قد تجد قوة سياسية مصالحها في تناقض مع حقوق الضحايا أو سير العدالة. وغالبا ما تكون الوصفة الفضلى التشكيك بآليات المحاسبة والقضاء والعمل على إبراز مظلومية المدعى عليهم في موازاة افتعال انقسامات ذات طابع فئوي وطائفي في مقاربة القضية، انقسامات تطغى على ذاكرة الضحايا وتكاد تطمسها تماما.

وفي حين تناولت الحلقة الأولى من هذا المقال الخطوات المتّبعة لقلب الذاكرة والتشويش على المسؤوليات، نوضح هنا الملامح والمعطيات التي يستشفّ منها أن هذه الخطوات أتت خدمة لغايات متعددة في إطار تسوية سياسية (المحرّر).

كما سبق بيانه في القسم الأول من هذا المقال، ثمّة إشارات إلى أن قلب الحقائق والمسؤوليات الحاصل مؤخرا في خطاب التيار الوطني الحرّ أتى ضمن تسوية سياسية. فما هي هذه الإشارات؟ وما هي ملامح التسوية التي نستشفّها منها؟ وقبل المضي في عرض هذه الإشارات، لا بدّ من التذكير بأن الحديث عن تسوية سياسية فرض نفسه منذ بدأ الثنائي استخدام أدوات سياسية بهدف إزاحة المحقق العدلي طارق بيطار عن ملف التحقيق. وقد بلغ هذا التوجّه ذروته مع تعطيل الحكومة بقرار من وزراء الثنائي إلى حين إزاحة بيطار، حيث فهم آنذاك أن الثنائي لا يتردد في اعتماد الابتزاز السياسي، مع ما يتيحه من مُساومات وتسويات، لتحقيق هذه الغاية. وفعليّا، لم تعد الحكومة للاجتماع إلا بعد تعطيل بيطار عن العمل تبعا لتعطيل النصاب في الهيئة العامة لمحكمة التمييز. وما زاد من مشروعية المخاوف من حصول “تسوية” هو اعتياد القوى السياسية المهيمنة على لغة المساومات وعلى تغليب المصالح الآنية والفئوية والبراغماتية على المبادئ والمصالحة العامة. وقد برز هذا التخوّف بشكل خاصّ بعد لقاءات البطريرك الراعي مع الرؤساء الثلاثة بعد مقتلة الطيونة في تشرين الأوّل 2021 وتصريحاته. كما برز في كانون الأوّل بمناسبة نظر المجلس الدستوري في الطعن المقدَّم على قانون الانتخابات النيابية. كما عاد وبرز بمناسبة اقتراح وزير العدل هنري خوري بإنشاء هيئة اتهامية خاصة بالمجلس العدلي.

فما هي أهم الإشارات المسجلة أخيرا بمناسبة مبادرتي “القاضي الرديف” و”تعديل مرسوم التشكيلات القضائية” في هذا الخصوص؟  

1- فحوى كتاب وزير العدل: صلاحية تتعدى النظر في طلبات إخلاء السبيل

عند مطالعة الاقتراح الذي قدمه وزير العدل في حكومة تصريف الأعمال هنري خوري إلى مجلس القضاء الأعلى بتاريخ 5 أيلول 2022، سرعان ما نلحظ تباينا بين أسبابه الموجبة (تمكين الموقوفين من تقديم طلبات إخلاء سبيل في ظلّ تعذّر قيام المحقق العدلي الأصيل بمهامه) ومضمونه والذي يتمثل في منح المحقق العدلي المزمع تعيينه صلاحيات تشمل ليس فقط النظر بهذه الطلبات إنما أيضا “معالجة الأمور الضرورية والملحة ومنها الدفوع الشكلية على سبيل المثال”. وقد نبّهت المفكرة القانونية انطلاقا من ذلك إلى أن الصلاحية المقترحة ستشمل بالضرورة النظر في دفوع المدعى عليهم (غير الموقوفين) وطلباتهم ومنها دفوع الوزراء الخمسة السابقين بإسقاط الملاحقة ضدهم لانتفاء صلاحية القضاء العدلي والتراجع عن مذكرات التوقيف الصادرة بحقهم. كما قد تشمل جمع المعلومات وحفظ الأدلة والكشف عن أسباب التفجير تسهيلا لقبض تعويضات التأمين، وصولا إلى إنجاز التحقيق الذي هو الآخر يصبح ملحا وبخاصة في حال مرور مزيد من الوقت على تعطيل بيطار. وما يؤكد ذلك أنه ليس لوزير العدل أصلا أن يحدّ من صلاحيات محقق عدلي في قرار تعيينه، إذ أن هذه الصلاحيات المحدّدة في القانون لا يمكن الحدّ منها إلا قانون. بمعنى أن بإمكان أي محقق عدلي معين أن يدعي أن صلاحياته شاملة وأن يفسر قرار تعيينه على هذا الوجه معتبرا أي شرط غير قانوني بحكم الساقط. ومن هذه الزاوية، بدا بوضوح أن من شأن هذا المقترح في حال الأخذ به أن يفتح الباب ليس فقط أمام الإفراج عن المدير العام للجمارك بدري ضاهر وسواه من الموقوفين الذين قد يهمون هذه الجهة السياسية أو تلك، بل أن يؤدي عمليا إلى نزع ملفّ المرفأ برمّته من بيطار وأن يحقّق للثنائي علاوة على ذلك ما لم تنجح عشرات دعاوى الرد والنقل والمخاصمة المقدمة بحثّ منه في تحقيقه.

وتأكيدا على هذا البعد التسووي، يجدر التذكير بمساعي وزير العدل للوصول إلى نتائج مشابهة، وبخاصة مقترحه السابق بإنشاء هيئة اتهامية للنظر في الطعون المقدمة ضد قرارات المحقق العدلي، والذي أتى كمبادرة تسووية لإقناع الثنائي بالعدول عن تعطيل الحكومة. آنذاك، رفض الثنائي السير بهذا المسعى. وفي حين أن الثنائي لم يعلّل رفضه، عزته “المفكرة” إلى أن المقترح يبقى قاصرا عن تحقيق نتيجة فورية وبخاصة في ظل نشوب نزاع محتمل حول كيفية تشكيل الهيئة الاتهامية.

2- مبادرة بو صعب و”سلّته”:

الأمر الثاني الذي نستشفّ منه بصورة أكثر وضوحا بوادر تسوية هي المواقف المعلنة حول مبادرة نائب رئيس مجلس النواب الياس بو صعب بزيادة عدد غرف محكمة التمييز يكون رئيسها مسلما إعمالا للمناصفة بين المسلمين والمسيحيين في الهيئة العامة لمحكمة التمييز.

وفي حين أن المبادرة تتّصل في ماهيتها بصلب المساومات التي تتقنها السلطة السياسية الحاكمة (المحاصصة الطائفية في تقاسم الوظائف والمراكز وتاليا النفوذ)، فإن بو صعب أدلى في 6 أيلول وبمناسبة زيارته للقصر الجمهوري بتصريح شديد الوضوح لا يترك مجالا للشكّ في هذا الخصوص. فبعدما حمّل المجلس الأعلى للقضاء ورئيسه القاضي سهيل عبود، مسؤولية عدم البت باتخاذ قرار في تشكيل هيئة محكمة التمييز، أعلن بو صعب أن من شأن ذلك أن “يؤدّي إلى عرقلة العديد من المواضيع والملفات والحلول”. وإذ سألته مراسلة عن “الوساطة التي (كان يقوم) بها مع الرئيس بخصوص المراسيم المجمدة؟” أجاب بو صعب: “أخذت جواباً من الرئيس بري، وكل هذه السلة بتنحلّ مع بعضها البعض. اليوم اللي معرقل الموضوع -هو الكلام اللي بلشت في قبل شوي- المجلس الأعلى للقضاء لأنه هيدا واحد من الأمور الموجودين بهيدي السلة”. ولا أظن أن هذا التصريح يحتاج إلى كثير من التعليق لإثبات وجود مساعٍ لإنجاز تسوية واسعة، يشكل تحقيق المرفأ أحد بنودها فقط من دون أن نعلم جيدا سائر المواضيع التي تشملها.

وقد تأكد ذلك في خضمّ المؤتمر الصحافي الذي عقده رئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل في 28 أيلول 2022 والذي شنّ فيه هجوما ضدّ رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود على خلفية رفضه المضي في تعيين قاض ثان في الملف. وقد جاء حرفيا في هذا المؤتمر: “الفاضي عبود يمتنع عن دعوة الهيئة ولا يقرّ التعيينات … بحجة عدم الإخلال بالتوازن الطائفي بالرغم من أنه عرف أن هناك قبولا سياسيا وطائفيا وتم تأمين التوازن من خلال مرسوم نافذ ومقبول ونحن قبلنا وتنازلنا فقط لسير العدالة”. وعليه، يظهر بوضوح شديد هنا أن باسيل لا يقرّ فقط أن مسألة عدد غرف محكمة التمييز خضعت لمساومات سياسية، بل أنه يعتبر ضمنا أن هذه المسألة هي في عمقها مسألة تقررها هذه المساومات ويقتصر دور مجلس القضاء الأعلى على تكريسها. ولعل هذا الموقف خير تعبير عن تصورات القوى السياسية لسطوتها على التعيينات والتشكيلات القضائية وتاليا القضاء، بما يناقض تماما مبادئ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء وقانون تنظيم القضاء العدلي على حدّ سواء.  

إلى ذلك، تسجّل إشارات عدة على حصول تسوية حول مسألتي “القاضي الرديف” و”تعديل مرسوم التشكيلات القضائية”، أهمها حماسة عضو مجلس القضاء الأعلى حبيب مزهر المحسوب على ثنائي أمل حزب الله لتعيين قاض ثانٍ وفق ما نسبته إليه جريدة الأخبار، وتنامي الخطاب النقدي لأداء بيطار في موازاة تنزيه الثنائي عن أي مسؤولية في تعطيل التحقيقات وأخيرًا المبادرة التشريعية التي قام بها عدد من نواب التيار الوطني الحر في 29 أيلول والتي تمثلت في إعادة إحياء اقتراح وزير العدل بإنشاء هيئة اتهامية تكون بمثابة مرجع استئنافيّ لقرارات المحقق العدلي المتصلة بطلبات إخلاء السبيل أو مذكرات التوقيف. ومن شأن هذا الاقتراح في حال الأخذ به أن يتيح إبطال هذه القرارات من دون أن يقوم له أي أثر في إعادة سير التحقيقات. وسنعلق على هذا الاقتراح الذي يأتي كمحاولة أخيرة لضرب التحقيق على حدة.  

خلاصة

بالخلاصة، يتضح أن ثمة إشارات واضحة تنمّ عن مساومات سياسية جارية على قدم وساق في قضية المرفأ ومن ضمنها مسألتي القاضي الرديف وتعديل مرسوم التشكيلات القضائية، وهي مساومات لا تنحصر في هذه القضية إنما تتعداها لتشمل بنودا كثيرة، من بينها مسألة “المراسيم المجمدة” ومسائل أخرى ما تزال مكتومة، وفق منطق السلّة المتعارف عليه في اللعبة السياسية اللبنانية. فلنراقب. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، أحزاب سياسية ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، مجزرة المرفأ



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني