محامون تحت الوصاية القسم الثاني: حجج السّلطة دفاعًا عن قتل الحرّية


2023-07-21    |   

محامون تحت الوصاية القسم الثاني: حجج السّلطة دفاعًا عن قتل الحرّية

تبعًا للدّعاوى المقدمة ضد مجلس نقابة محامي بيروت، اختار المجلس طريقة هجينة في الدفاع عن قراره. فبدل أن يردّ على حجج القانون بحجج مماثلة، اختار أن يحصر دفاعه بتقديم حجج أمكن تصنيفها ضمن خانة “حجج السّلطة” أي الحجج التي تستمدّ شرعيتها من السلطة لأنّها سلطة، بمعزل عن مدى انسجامها مع قواعد المنطق أو القانون. وتتميّز هذه الحجج من هذا المنطلق عن حجج المنطق والقانون والتي خلا دفاع النقابة منها. 

أفعال السلطة في المرصاد

وما أن أصدر ائتلاف استقلال القضاء (والذي تشكّل “المفكرة” أحد مكوّناته) في 20 آذار بيانًا اعتراضيًّا أسف فيه من أن يتمّ المسّ بجوهر الحرّية تحت غطاء تنظيمها وبخاصّة في هذه الظروف، تمّ استدعائي شخصيًّا للاستماع من مجلس النقابة، وهو استدعاء يستشفّ منه وجود نوايا بإخضاعي لتحقيق قد ينتهي بالشطب. فكأنّما المجلس أراد وأد الاعتراض وهو في المهد من خلال استخدام وسائل السّلطة ضدّي ومن خلالي ضدّ أيّ محامٍ تسوّل له نفسه الاعتراض علنًا على هذا القرار. وقد شكّلت هذه التصرّفات كافّة مؤشّرًا على الأسلوب الذي اختارتْه النقابة في مواجهة الاعتراض عليه، وهو أسلوب الردّ على الحجج القانونية بأفعال سلطة، وبكلمة الردّ على الاحتجاج على الانتقاص من الحرّيات والحقوق بمزيد منه. 

وقد ترافق  هذا الاستدعاء للأسف مع حملات تهويل شنّها مجهولون على مجموعات محامين على واتساب، ضدّي وتضمّنت اتهامات غير صحيحة مع التهديد بمزيد من “الفضائح” (وهو الأسلوب النموذجي المعتمد في التهويل). لم أستطِع تحديد مصدر هذا التهويل لكن يسجّل أنّ المجلس المسؤول عن السهر على آداب المهنة لم يعِرْ هذه المخالفة الجسيمة أيّ اهتمام، كأنّما كرامتي مستباحة ولا تستوجب أيّ حماية. وقد تأكّد الدافع إلى استدعائي في مضمون التحقيق معي (وقد حصل في ظلّ الخصومة القضائية معي ومع حجب حقي في الاستعانة بمحامٍ) والذي تمحور حول موضوع “تنظيم حملة ضد النقابة للتشكيك بدورها الوطني”. وهو الأمر الذي عملتُ على دحضه على طول التحقيق مذكّرًا أنّي كنت في معرض الاحتكام للرأي العامّ دفاعًا عن حريّتي وعن حقّي في ممارسة مهنة المحاماة ضدّ ما اعتبرته تهديدًا لهما من دون أن يكون لديّ أيّ نية في استهداف النقابة التي أحرص على انتمائي إليها أو أشخاص القيمين عليها. وإذ انتظرت إبلاغي قرارًا بعدم الشطب نظرًا لخلوّ ملف التحقيق من أي مخالفة في ختام الجلسة، أرجأ المجلس اتخاذ قراره إلى ما بعد صدور قرار الهيئة المختلطة لدى محكمة الاستئناف في بيروت الناظرة في الطعن في قرار النقابة، حيث قرر عدم الشطب مع إصدار توصية للنقيب لم أتبلّغ فحواها بعد. وعليه، تمّ وضعي بنتيجة ذلك طوال فترة المحاكمة أمام الهيئة المُختلطة تحت سيف مُصْلَت بإمكانية الشطب من دون أن يعني ذلك بالضرورة إبراء ذمّتي من أي ملاحقة تأديبية نهائيًا.  

ولم يقتصر هذا الأمر على التخاطب في الفضاء العام أو الإجراءات الحاصلة ردًّا عليه، بل انسحب أيضًا على التخاطب أمام القضاء. وهذا ما يظهر من اللائحة المبرزة من النقابة ردًا على الطعن الذي قدّمته، حيث اعتبرت أنّ توصيفي للقرار بالاعتباطي أو بالتعدّي يشكّل استفزازًا للنقابة ويجدر شطبه، وأنّه لا يحقّ لي تقديم دعوى ضدّ النقابة من دون إذن مسبق منها، وأنّه ليس لي صفة الطعن، وكلّها حجج سلطة. في المقابل، خلتْ اللائحة تمامًا من أيّ إجابة في المضمون على الأسباب التي أثرتُها في سياق المطالبة بإبطال القرار، كأنّما ليس عليها أن تجادلني أو تناقشني بشيء. وقد تكرّر الأمر نفسه في المرافعة: فلئن ترافعت خلال 10 دقائق إثباتًا لتعارض القرار مع نصوص ومبادئ قانونية، أخذت مرافعة أحد أعضاء المجلس شكلًا سلطويًا جاز وضعه ضمن أسلوب “النَهْر” عن المنكر، حيث ردّد أكثر من مرة “لا نسمح لأحد أن يقول إنّ النقابة سقطت” (علمًا أنّي كنت قلت إنّ مجلس النقابة سقط في امتحان فحوص مبدأ التّناسب وهو تعريب لما يسمّى Test of proportionality). الأمر نفسه حصل في الدعوى التي قدّمها إثنا عشر زميلًا حيث بقي الجواب الأوحد على حججهم القانونية هم أيضًا مجرّد حجج سلطة. وعليه، وإذ عمد القيّمون على النقابة إلى استخدام أدوات السلطة في وجهي استدعاءً ومرافعةً، فإنّهم امتنعوا عن تقديم حججهم ومُستنداتهم ووضعها موضع مناقشة كما تفترض أدبيات المهنة (يراجع على سبيل المثال النظام الداخلي لنقابات المحامين في فرنسا) لينحُوا على العكس من ذلك إلى التعامل معي كسلطة تحقّق وتنهر وتلاحق بمنأى عن أيّ نقاش لا داخل المحكمة ولا خارجها وبما يهدّد استقلاليّتي كمحامٍ وقدرتي على الدفاع بطمأنينة عن نفسي ومن دون الخوف من عواقب هذا الدفاع.  

شيطنة الحرية الإعلامية مقابل إعلاء شأن الرقيب عليها

حجج السلطة هي الأخرى برزتْ في خطاب النقيب وأعضاء مجلس النقابة ردًّا على الانتقادات الواسعة التي طالتْ قرارهم، والتي توسّعت تبعًا لاستدعائِي. وقد تمثّلت هذه الحجج عمومًا في شيطنة الحرّية الإعلاميّة من خلال استعراض مجموعة من القصص عن سوء استخدام “حفنة من المحامين لا يتعدّى عددهم عدد أصابع اليد الواحدة” (العبارة للنقيب) للحريّة، ممّا سبّب “فوضى” كبيرة تفرض تقييد حرّيات المحامين كافّة. وعليه، تمّ اختزال الغاية من الظهور الإعلامي للمحامي بالدعاية لشخصه واجتذاب زبائن على حساب زملائه وإفشاء أسرار التحقيق وإعطاء معلومات أو استشارات مغلوطة والتأثير على مسار المحاكمات. هذا فضلًا عن قصص لا أعرف مدى صحّتها بشأن نشوب نزاعات عنيفة بين المحامين على الهواء. ولم يخفِ النقيب في إحدى إطلالاته تبرّمه من المحامين الذين يتظاهرون أو يقتحمون دوائر رسمية، آملاً أن ينتهي القرار إلى حصر عمل المحامي داخل المحاكم. في المقابل، خلا خطاب القيّمين على النقابة من أيّة إشارةٍ إلى إيجابيات الحرّية أقلّه على صعيد الدفاع عن الحقوق والحرّيات أو بناء الثقافة الحقوقية أو دعم القضاء المستقلّ أو مكافحة الفساد أو فضح الحيل وسوء النية والنقص في التشريع بهدف تصويبه. وقد اقترنتْ شيطنة الحرّية على هذا الوجه مع إعلاء شأن نقيب المحامين الذي سيتولّى “مشكورًا” (العبارة وردت في لائحة نقابة المحامين في الدعوى المقدّمة ضدّ قرارها) تنظيم حرّية المحامين من خلال منح الإذن المسبق أو حجبه. فهو “الأب الصالح” لجميع المحامين والمنتخب منهم جميعًا. ولم يجد النقيب حرجًا في توصيف نفسه وتوصيف أعضاء النقابات بـ “المقامات” التي يستتبع التطاول عليها عقوبات تأديبية (محكمة، 15 نيسان 2023). 

استدعاءُ دعمِ السلطة السياسية 

وإذ بقي مجلس النقابة على هذا المنوال في سياق استعراض سلطته ردًّا على الانتقادات التي واجهتْه، سرعان ما برز توجّه إلى استدعاء رموز من السلطة السياسية الحاكمة. وقد برز هذا التوجّه في الندوة التي دعتْ إليها لجنة الحرّيات في نقابة المحامين في تاريخ 10 أيار 2023 أي قبل يوميْن من صدور قرار الهيئة المختلطة لدى محكمة الاستئناف، وقد حملتْ عنوان: “الحقّ والحرّية قيمتان وجوديّتان مسؤولتان”. ويكشف تنظيم هذه الندوة أنّ القيّمين على النقابة رأوا أنّ أفضل ردّ على الانتقادات التي واجهتهم يكون في إعلان انسِجامهم وتماهِيهم الكليين مع أعيان السلطة الحاكمة في كيفيّة مقاربة الحق والحرّية. تأكّد ذلك في هوية المدعوين، حيث لم يُدعَ إليها أساتذة جامعيّون في المادة الدستورية أو في مادة الحريات العامّة، لم تُدعَ إليها منظمات حقوقية، بل فقط ثلاثة وزراء هم تباعًا وزراء العدل هنري خوري والثقافة محمد مرتضى والداخلية بسام المولوي (مثّله محافظ بيروت مروان عبود)؛ وهم يمثلون قوى سياسية وطائفية مختلفة. هذا من دون أن ننسى أنّهم سجّلوا خلال ولايتهم القصيرة رصيدًا بستدلّ منه استعدادهم لاستباحة الحرّية. من هذه الأفعال والتصريحات، التأييد الضمني الذي عبّر عنه مرتضى للاعتداء على الكاتب سليمان رشدي، وتعميم المولوي بشأن منع أي تجمّع أو نشاط يتّصل بالمثلية (وهو تعميم أصرّ المولوي على مواصلة تنفيذه رغم قرار مجلس شورى الدولة بوقف تنفيذه)، وأخيرًا التعميمان اللذان أصدرهما وزير العدل في 24 نيسان 2023 وأخضعا حرّية القضاة في التعبير والسفر والتواصل مع الهيئات خارج القضاء لآلية الإذن المسبق. 

كما تأكّد تماهي القيّمين على النقابة مع أعيان السلطة في فحوى المحاضرات التي تمّ إلقاؤها والتي تبدّى مضمونها مُنسّقًا مُسْبقًا إلى حدّ التطابق، حيث ذهبتْ كلّها إلى التسويق لضرورة تقييد الحرّيات في الظروف الحاضرة بالنظر إلى مخاطرها. وهذا ما اختصره نقيب المحامين ناضر كسبار في قوله “كمّ من الجرائم ترتكب باسم الحرّية؟” واللافت إنّه رغم توسّطه قوى السّلطة والتماهي معها، فإنّ النقيب لم يجدْ حرجًا في توصيف الانتقادات الموجّهة ضدّ قرار مجلس النقابة في تقييد حرّيات المحامين بأنّها تدخّل في القضاء من شأنه التأثير على مآل الحكم في الطعون المقدّمة ضدّه ومسّ باللامساواة بفعل امتياز من له إمكانية اللجوء إلى الإعلام على حساب الآخرين الذين قد يكونون أقلّ قدرة منه. سعى النقيب بذلك هنا أيضًا إلى إبراز الأضرار التي تتأتّى عن التداول في القضايا العالقة وتأثيرها على القضاء، متناسيًا أنّه كان في تلك اللحظة بالذات مُحاطًا بأعيان السلطة السياسية الحاكمة الذين أتوا يدعمون تقييد الحرية وتاليًا قراره المطعون فيه ويحذّرون الناس من التذمّر من هذا التقييد. كما تناسى في تلك اللحظة أنّ الهيئة المختلطة التي ستصدر حكمها تضمّ عضويْن من مجلس النقابة مما يولّد وضعية لا مساواة فاقعة لصالح هذا المجلس. تناسى في تلك اللحظة أنّ النقابة ليست معدومة الوسائل والإمكانات وأنّ النقاش العلني في القضايا العالقة أمام القضاء بهدف صناعة رأي عامّ حولها هي وسيلة مشروعة (فضلًا عن كونها علنية) للجميع بما فيهم النقابة الاشتراك فيه تبيانًا لسدادة وجهة نظرها ودحض وجهات النظر المقابلة. والأهمّ تناسى أنّه لا مجال لمقارنة تأثير التداول العلني في القضايا أو خطورتها بالاستقواء الحاصل مع أعيان السلطة الحاكمة أو بالتدخّل المُستتر في الغرف المُظلمة ترغيبًا أو ترهيبًا أو تواطؤًا والذي هو بالضرورة وسيلة غير مشروعة لم يأتِ النقيب على ذكرها قط طوال الندوة. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني