حالة الاستثناء: بين صعوبة العودة إلى الجمهورية الثانية، وخطر القفز إلى (لا)جمهورية ثالثة


2021-08-27    |   

حالة الاستثناء: بين صعوبة العودة إلى الجمهورية الثانية، وخطر القفز إلى (لا)جمهورية ثالثة

مرّت أربعة أسابيع منذ إعلان رئيس الجمهورية حالة الاستثناء، دون أن يفصح عن خارطة طريق ولا حتّى عن أفق زمني لها، رغم الإلحاح الداخلي والخارجي على ذلك. اكتفى سعيّد بتمديد تعليق أعمال البرلمان إلى أجل غير مسمّى، وأحال من ينتظرون خارطة طريق إلى ”كتب الجغرافيا“، مشدّدا على أن الطريق الوحيدة التي يسلكها هي تلك التي ”خطّها الشعب التونسي“. يصعب الجزم إن كان تكتّم ساكن قرطاج ناتجا عن غياب تصوّر واضح للخطوات القادمة، أم على العكس، عنصرا من استراتيجية جاهزة يجري تطبيقها على مراحل. فرغم أنّ سعيّد لا يزال يصرّ على أنّه بصدد تطبيق الدستور، توجد شكوك قويّة حول نيّته الانتقال إلى جمهورية ثالثة وفق ”البناء الديمقراطي الجديد“ الذي بنى ”حملته التفسيريّة“ عليه. 

شكوك لا يبدو أنّها تثير ريبة الكثيرين، سواء لدى الجماهير التي لم تفقْ بعدُ من نشوة إخراج حركة النهضة من الحُكم، وترى في نزاهة سعيّد ضمانة كافية لعدم الانحراف، ولا لدى جزء كبير من النخب التي تحمّل دستور 2014 والنظام السياسي المنبثق عنه مسؤولية تأزّم منظومة الانتقال الديمقراطي، ولا تدرك أنّ فتح باب تغيير الدستور، بوجود لاعب وحيد يحتكر السلطة والدعم الشعبي، هو أشبه بفتح صندوق باندورا. 

”لا رجوع إلى الوراء“: الإجابة التي تبقي الغموض على حاله 

في خطاباتِه الأخيرة، كرّر رئيس الجمهورية لاءاته الثلاثة: لا حوار، لا خارطة طريق، وخاصّة، لا رجوع إلى الوراء. ولئن كانت هذه اللاءات الثلاث إجابة مباشرة على حركة النهضة ومطالبها المتمثّلة في حوار سياسي حول خارطة طريق، بالإضافة إلى عودة البرلمان، فإنّها تكاد تكون في الوقت ذاته المؤشرات الوحيدة المتوفّرة حول نوايا سعيّد للفترة القادمة.

تعدّدت القراءات والمضاربات حول نوايا رئيس الجمهورية، ومحاولات فكّ شفرتها، وصولا إلى من استنتج منها ”نصف خارطة طريق“ قوامها تعليق العمل بالدستور الحالي وإصدار تنظيم مؤقت للسلط ثم عرض مشروع دستور جديد على الاستفتاء. وإن كان هذا السيناريو ما يزال واردا، إلاّ أنّ المعطى الوحيد إلى الآن، هو أنّ حالة الاستثناء ستتواصل على الأقلّ أشهراً أخرى. تأكّد ذلك مع تمديد تعليق أشغال البرلمان ليس لشهر ثان وحسب، وإنّما ”إلى غاية إشعار آخر“. فلعلّ أوضح ما في شعار ”لا رجوع إلى الوراء“، هو استحالة عودة البرلمان بنفس تركيبته ورئاسته إلى الاشتغال. وبما أنّ حلّ البرلمان مرتبط دستوريّا بشرط عجزه عن منح الثقة إلى حكومة، فإن السيناريوهات التي تحافظ على شعرة معاوية مع الشرعيّة الدستوريّة، محدودة. الأوّل ما يقترحه الأستاذ سليم اللغماني، وهو إرجاع البرلمان فقط للتصويت على منح الثقة للحكومة الجديدة، مع توصية من رئيس الجمهورية بعدم منحها، مما يفتح الباب الدستوري أمام حلّ البرلمان وإجراء انتخابات سابقة لأوانها. لكن لا يبدو أن سعيّد يميل إلى هذا المخرج. أمّا السيناريو الثاني، فهو انتظار حدوث تغييرات جوهرية في تركيبة البرلمان، عبر قرارات باتّة من محكمة المحاسبات بإسقاط القائمات المتورطة مثلا في تمويل أجنبي، ينتج عنها انتخابات جزئية وتغيير رئاسة المجلس. أهمّ إشكال هنا هو الوقت، الذي سيستغرق على الأقلّ أشهرا عديدة. يبقى أنّ احتمال القطع مع الشرعيّة الدستوريّة ليس مستبعدا، إمّا بعرض تعديلات عليها مباشرة على الاستفتاء، ودون المرور بالبرلمان كما يشترطه النصّ الدستوري، أو، وهذا الأخطر، إنهاء العمل بدستور 27 جانفي 2014 والانتقال إلى تأسيس جديد.

نحو تنظيم مؤقت للسلط؟

ممّا يدفع نحو تغليب فرضية صياغة دستور جديد، الأخبار المتواترة حول اشتغال مصالح رئاسة الجمهورية على نصّ يتضمّن تنظيما مؤقّتا للسلط. كان سعيّد قد أشار هو نفسه إلى تنظيم مؤقت للسلط عند تبريره لبعض ممثلي المنظمات الوطنية تطبيق الفصل 80، قبل أن يؤكّد مستشاره وليد الحجّام الأمر في أحد تصريحاته. في العادة، إصدار تنظيم مؤقت للسلط يعني تعليق، أو حتى إنهاء العمل بالدستور، مثلما حصل في المرسوم عدد 14 لسنة 2011 ثمّ القانون التأسيسي عدد 16 لسنة 2011. أمّا حالة الاستثناء، فلا تحتاج مبدئيّا إلى نصّ ينظّم السلطات خلالها، عدا الفصل 80 نفسه، الذي يقوم على فكرة تركيز السلطة بين يديْ رئيس الجمهورية لاتخاذ التدابير اللازمة لمواجهة الخطر الداهم. لكنّ فلسفته تقوم أيضا على أن تزول التدابير الاستثنائيّة بزوال أسبابها، أي أن لا تدوم أكثر من اللازم، وعلى وجود مؤسستين بإمكانهما ردع أي انحراف بحالة الاستثناء، وهما البرلمان والمحكمة الدستوريّة.

في المقابل، ربّما تكون إشارة سعيّد لتنظيم مؤقت للسلط، بالتوازي مع تشديده على أنه بصدد تطبيق الدستور، تعني أنّه لا يجود تعارض في ذهنه، بين إصدار تنظيم مؤقت للسلط، والبقاء تحت الفصل 80، أي، شكليّا، داخل الشرعية الدستورية. وفق هذه القراءة، قد يكون مثل هذا النصّ ضمانة تعطى مقابل استمرار حالة الاستثناء لأشهر طويلة، في غياب سلطات مضادّة، أي أنّه، في هذه الحالة، سينظّم على الأخصّ العلاقة بين رئيس الجمهوريّة والحكومة الجديدة التي سيعيّنها ”في غضون أيّام“.

أمام تكتّم رئيس الجمهورية عن نواياه، واكتفاؤه بالإحالة إلى الشعب وإرادته و”الطريق التي سطّرها“، ليس أمامنا سوى وضع فرضيات وتأويلات. يبقى أنّ سعيّد، إذا ما كان صادقا في تمسّكه بالشرعيّة الدستورية، مطالب، على الأقلّ، بتقديم إجابة واضحة حول مصير دستور 2014. 

الكلّ يسارع لإعلان وفاة دستور 2014… إلاّ رئيس الجمهورية

منذ الأيام الأولى بعد إعلان رئيس الجمهورية حالة الاستثناء، تعالتْ الأصوات التي أعلنت نهاية الجمهورية الثانية، معظمها فرحا وبعضها خوفا. كما لم تتردّد إحدى القنوات التلفزيّة في اختيار ”الجمهورية الثالثة“ كعنوان لتغطيتها للتطورات في تونس. ترسّخ الانطباع أكثر في الأسابيع الماضية، إذ يبدو وكأن نسبة كبيرة من الرأي العامّ، وصولا إلى النّخب السياسيّة بل وحتّى الحقوقية، قبلت نهاية الجمهورية الثانية، إن لم يكن بحماس لافت، فبقناعة أن لا بديل عن ذلك. في المقابل، ورغم أنّ بعض الناشطين البارزين في حملته التفسيريّة يرون في اللحظة الراهنة فرصة تطبيق مشروع البناء القاعدي الجديد الذي التقوا حوله عبر تغيير دستوري، لا يزال رئيس الجمهورية يشدّد على أنّه لم يخرج عن الشرعيّة الدستوريّة. 

سهولة القبول بنهاية الجمهورية الثانية لدى فئات واسعة من النخب، قبل أن يحسمها سعيّد نفسه، لا يمكن تفسيرها فقط بالزلزال السياسي لليلة 25 جويلية، وموجة التهليل الشعبي التي صاحبته. وإنما هي نتيجة خطاب كان مؤثّرا منذ سنوات وأصبح مهيمنا في الأشهر الأخيرة، يحمّل دستور 2014 مسؤوليّة التأزّم والشلل السياسي، بلغ حدّ المطالبة بوضع دستور جديد. فقد تشكّلت في الفترة الأخيرة مجموعات ومبادرات في هذا الاتجاه، منها تلك الداعية إلى مسيرات نهار 25 جويلية. ساهم بعض أساتذة القانون في هذه الجوقة، فاختلط النقد العلمي للنص الدستوري، وهو ضروري، بالموقف السياسي الذي يحمّله أوزار نخب سياسيّة كانت ستنتج ذات الأمراض مهما تغيّر النظام السياسي. كما تبنّت بعض الأحزاب، سواء من الوافدة حديثا على المشهد البرلماني أو التي تراجع دورها السياسي بعد انتخابات 2019، المطلب ذاته، دون أن ننسى، طبعا، رئيس الجمهورية الذي بنى حملته التفسيريّة على فكرة تغيير النظام السياسي.

لقد ترسّخ انطباع في الفترة الأخيرة، يقوم على أنّ دستور 2014 وضعته حركة النهضة لتضمن بقاءها في الحكم. انطباع تكرّر في خطاب زعيمة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي، التي تختزل الثورة وما تلاها، بما فيه الدستور، في ”حكم الاخوان“، وتكرّر دائما أنّها تملك مشروع دستور بديل، وكذلك في خطاب رئيس الجمهورية قيس سعيّد، الذي اتهم خصومه، والمقصود طبعا حركة النهضة، بأنهم ”وضعوا الدستور على المقاس“.

إلاّ أنّ جذور هذا الانطباع أقدم من ذلك، إذ تعود إلى أول انتخابات عرفتها الجمهورية الثانية والتي أفرزت فوز نداء تونس في التشريعيّة وزعيمه الباجي قائد السبسي في الرئاسيّة. هذا الأخير كان، كلّما شدّد على التزامه بالنصّ الدستوري، يصرّ دائما على التذكير بأنّه لم يشارك في صياغته، وأنّ حركة النهضة هي التي كتبته. اختزال مجانب للحقيقة، ليس فقط لأن السبسي نفسه كان له دور في بعض توافقات اللحظة الأخيرة، وإنّما خاصّة لأنّ نوّاب المعارضة صلب المجلس الوطني التأسيسي، وحتى عدد من نواب أحزاب الترويكا، فرضوا على حركة النهضة التنازل في معظم النقاط الخلافيّة. لكنّ اختفاء معظم هذه الأحزاب من المشهد البرلماني، وقصر ذاكرة الكثيرين، والانطباع السلبي جدّا الذي بقي من سنوات الترويكا ومن المجلس الوطني التأسيسي، بالإضافة إلى بقاء حركة النهضة في السلطة بغضّ النظر عن تراجعها الانتخابي المستمرّ، كلّها عوامل ساهمت في ترسّخ فكرة أن دستور 2014 هو دستور النهضة. وبما أنّ 25 جويلية يعني لدى معظم التونسيين قبل كل شيء إخراج حركة النهضة من الحكم، يصبح من الطبيعي، وفق هذا المنطق، أن يقترن ذلك بنهاية ”دستورها“ و”جمهوريتها“. 

الدستور البديل، ”ملكيّة جمهوريّة“ باسم تجذير الديمقراطية ؟

واهم من يعتقد أنّ صياغة دستور جديد، إذا ما قُبر دستور 2014، ستكون بطريقة ديمقراطيّة، عبر جمعيّة تأسيسيّة، أو حتّى بأي صيغة فيها الحدّ الأدنى من المداولة أو التشاركيّة. فلا موازين القوى السياسية والشعبيّة تسمح بهذا، ولا شخصيّة سعيّد نفسه تميل للحوار والنقاش والتفاوض. البديل سيكون إذن، على الأرجح، عرض مشروع دستور جديد جاهز على الاستفتاء. 

قد يرى البعض في الاستفتاء آلية ديمقراطيّة، وضمانة ليكون الدستور الجديد تعبيرا مباشرا عن الإرادة الشعبية، لا على توافقات الأحزاب في غرف مظلمة. لكنّ إرادة الشعب لا يمكن أن تختزل في مجرّد التصويت بنعم أو لا على نصّ جاهز، لم تخضع صياغته لنقاش ولا تبادل رؤى، وإنّما فقط إلى رؤية وتصوّر شخص واحد، بغضّ النظر عن المشروعيّة والشعبيّة التي قد يحظى بها. بل أن هذه الشعبيّة قد تُحوّل الاستفتاء إلى اقتراع على الشخص، لا على النصّ. فحتّى إذا افترضنا حسن نوايا رئيس الجمهورية وتشبّثه بالديمقراطية، وهو ما لا يمكن التسليم به لأي شخص مهما بدا صادقا، فإن الدساتير توضع لكي تدوم، ولكي تتداول على تطبيقها النخب السياسية، وهو ما يفرض وضع ضمانات مؤسساتية تحمي الديمقراطية مهما كان من في السلطة. تعويض دستور 2014 بدستور جديد يُعرض مباشرة على الاستفتاء، يعني أنّنا سننتقل من دستور جاء كثمرة لصراع مجتمعي وسياسي مضنٍ، فعكسه بثرائه الحقوقي وبضماناته الديمقراطية، كما بثرثرته الهووية وتناقضاته، إلى دستور يعبّر عن إرادة شخص واحد تماهى معه الشعب في لحظة معيّنة.

ربّما لا يرى البعض في ذلك خطرا، مستشهدين بمثال الجمهورية الخامسة الفرنسيّة التي جسّد دستورها إرادة شارل دي غول، قبل أن ينال موافقة واسعة عند استفتاء الفرنسيين، فأنتج استقرارا لم تعرفه الديمقراطية الفرنسية من قبل. لكن، وبغضّ النظر عن تقييم مدى ديمقراطيّة دستور 1958 الذي لا يزال محلّ جدل سياسي وفقهي في فرنسا ذاتها، فإنّه لم يكن مجرّد تعبير عن إرادة دي غول. فقد فرض عليه آخر برلمانات الجمهورية الرابعة ضوابط، منها ما تجاوزه الجنرال بعد ذلك بسنوات عبر الاستفتاء الذي أقرّ انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، ومنها ما بقي، وهو حقّ البرلمان في سحب الثقة من الحكومة، وهذا التوازن هو ما أنتج النظام ”شبه الرئاسي“ كما نعرفه. كما أن المشهد السياسي في فرنسا حينها كان يضمّ أحزابا قويّة، سواء في اليمين أو في اليسار، وقوى مجتمعيّة لم يكن بالإمكان القفز فوقها. فأخطر ما في سيناريو تغيير الدستور اليوم في تونس، هو ليس مجرّد الخروج على الشرعيّة، وإنّما القفز في المجهول في ظلّ موازين قوى مختلّة تماما لفائدة شخص واحد، سياسيّا وشعبيّا. وضعيّة كهذه، مهما كانت نوايا الشخص صادقة، يصعب جدّا أن تنتج بناء ديمقراطيّا جديدا.

ربّما أقرب ما في مثال الجمهورية الخامسة الفرنسية لسيناريو جمهورية ثالثة تونسيّة، هو توصيف فرانسوا ميتران حين كان معارضا، لنظامها السياسي بالملكيّة الجمهوريّة، قبل أن يستوي هو نفسه على عرشها. سعيّد لا يخفي ميله للنظام الرئاسي، فالبناء الديمقراطي القاعدي الذي يقترحه، أين يصطفى أعضاء البرلمان عبر القرعة، من بين ممثلي المعتمديات المنتخبين وفق الاقتراع على الأفراد، ويخضعون إلى آلية ”سحب الوكالة“ إذا توفّر عدد معيّن من الناخبين، يقوم كذلك على رئيس جمهورية منتخب مباشرة من الشعب، بيده السلطة التنفيذية. وبالإضافة إلى الألغام التي يحتويها الاقتراع على الأفراد، من إذكاء للنعرات القبليّة، ومزيد تصدير البارونات المحليّة في المشهد السياسي، فإنّ امكانيّة ”سحب الوكالة“ من شأنها مزيد إضعاف المؤسسة البرلمانية مقابل رئيس الجمهورية، إذ يسهل تحويل الرصيد الشعبي لرئيس الجمهورية إلى سيف دمقليس على رقاب كلّ النوّاب. أي أنّ مثل هذا النظام سيكون أقرب إلى الرئاسويّ، وهو حال الغالبية الساحقة من الأنظمة السياسية التي ادّعت أنّها رئاسية. فالنظام الرئاسي الوحيد تقريبا الذي أنتج ديمقراطية مستقرّة، هو النظام الأمريكي، القائم على برلمان قويّ وتوازن بين السلطات يصعب جدّا استنساخه.

إنّ خطر الخروج عن دستور 2014 لا يقتصر على التراجع في منسوب الديمقراطية والنزوح نحو الحكم الفردي. إذ أنّ النصّ البديل قد يتضمّن كذلك تراجعا في الحقوق والحريات، ولعلّ إشارة رئيس الجمهورية مؤخرا إلى تناقضات الفصل السادس من الدستور، الضامن لحريّة الضمير، والذي لو ”اجتمعت كلّ المحاكم الدستورية في العالم لما استطاعت تطبيقه“ بحسب تعبيره، مؤشّر على أنّ تغيير الدستور، إذا ما حصل، لن يقتصر على النظام السياسي. كل هذا، دون نقاش ولا أخذ وردّ، عبر استفتاء محسوم النتيجة سلفا. فإذا كان نقد ديمقراطية الجمهورية الثانية بوصفها ”اجرائيّة“ مشروعا، فإن القول بأنّ آلية الاستفتاء كفيلة بضمان الطابع الديمقراطي للجمهورية الثالثة ليس إلاّ إغراقا في الاجرائيّة.

ألا يزال إنقاذ الجمهورية الثانية ممكنا؟

إنّ وجود مزاج شعبي قوي يطالب بتغيير النظام السياسي ليس مبرّرا كافيا للانزلاق في هذا التمشي. فالجماهير التي تطالب اليوم بنظام رئاسي، معظمها خرج في ساحة القصبة في الأشهر الأولى بعد سقوط بن علي يطالب بمجلس تأسيسي ونظام برلماني. في الحالتين، هي ردّة فعل عاطفيّة تُحمِّل النظام السياسي مسؤولية بؤس الواقع، فتميل تلقائيا للمطالبة بتغييره. ربّما كانت هذه الموجة من بين نقاط تشابه كثيرة بين لحظة جانفي 2011 ولحظة جويلية 2021. لكن يوجد فرق جوهري، هو أن كل الأوراق اليوم، على الأقلّ داخليّا، مجتمعة في يدٍ واحدة، وأنّ الشارع متناغم مع من في السلطة ومستعدّ لتسليمه كلّ شيء. الخطاب الذي يعتبر أنّ لا خطر أبدا على الديمقراطيّة، بما أنّ الشارع قادر على الدفاع عنها، لا يسيء فقط قراءة موازين القوى، وإنّما ينبني أيضا على منطق ثنائي، يميّز فقط بين الديمقراطية والدكتاتورية، فلا يرى الفضاءات والاحتمالات الواسعة بينهما. هذا المنطق يجيز كل الاختزالات، فيقصي إمكانية التراجع في منسوب الديمقراطية بناء على الإقرار بصعوبة العودة إلى دكتاتورية ما قبل 2011، ويستنتج من النقد المشروع للجمهورية الثانية، نفي صفة الديمقراطية تماما عنها، وبالتالي نفي خطر التراجع الديمقراطي.

إنّ مغامرة الخروج من الجمهورية الثانية لا تحمل فقط خطر التراجع في منسوب الديمقراطية والحقوق والحريات، رغم أنّه لم يكن كافيا بالمرّة إبانها. وإنّما من بين مخاطر هذا السيناريو إضاعة البوصلة، مرّة أخرى، وتوهّم حلّ المعضلات الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية بمجرد تغيير النظام السياسي. أزمة الديمقراطية التونسية لا تتأتى من نظامها السياسي ولا من دستور 2014، وإنّما من هشاشة الأعمدة التي تقوم عليها. فالأحزاب السياسيّة تشكو، بالإضافة إلى ضعف شعبيّتها وانتشارها، من ثقافة الزعيم الأبدي، وغياب أي ديمقراطية داخلية، وتمويلات مشبوهة دون أي رقابة ناجعة. أمّا القضاء، ودون السقوط في منطق التعميم والشيطنة، فقد عوّض تبعيّته للسلطة التنفيذية بالخضوع لمراكز النفوذ السياسي والاقتصادي، فكرّس إفلاتها من العقاب. كذلك الإعلام، وبالذات التلفزي، الذي حاد عن وظيفته وتحوّل إلى أداة بيد مالكيه لعقد الصفقات السياسيّة. كل ذلك يُضاف إلى غياب العمق الاجتماعي للديمقراطية، التي لم توفّر إجابات لانتظارات الناس، ولم تُساءل الخيارات الاقتصادية والجبائيّة الكبرى، وأخضعت السياسات الاقتصادية إلى شروط الجهات المقرضة، وجعلت المسألة الاجتماعية على هامش النقاش السياسي. هذه العلل لا تُحلّ بتغيير الدستور والنظام السياسي، ولا بوهم بناء ديمقراطية بدون أحزاب.

قد يعتبر البعض أنّ الدفاع عن دستور الجمهورية الثانية هو من قبيل التشدّد العلاجي مع جسد ميّت لا محالة. لكنّ هذا القبول بالأمر الواقع، قبل أن يقع أصلا، هو الذي من شأنه أن يشجّع رئيس الجمهورية على المضي قدما في مشروع التأسيس الجديد. فإذا كانت هنالك فرصة لتصحيح المسار، فهي تقوم على تصويب النقاش في اتجاه تشخيص دقيق للأمراض، وفتح ملفات الاصلاح في أفق زمني معيّن، يعود بعده السير العادي للمؤسسات، وإن بتركيبة مغايرة. وإذا كانت هنالك ورقة يمكن التشبث بها، فهي دستور 2014.
إنّ الدفاع عن دستور 2014 ليس إعلاء للتحليل القانوني مقابل السياسي وتشبثا بالشكل مقابل الجوهر. فلئن كانت القاعدة القانونية، في معظم الأحيان، ترجمة لموازين القوى التي سادت إبّان صياغتها، فإنّ للقانون أيضا دورٌ في الحدّ من سلطة الطرف الأقوى، سواء في المجال الاجتماعي أو السياسي. ما حصل يوم 25 جويلية لا يجب أن يدفعنا إلى استبعاد البعد القانوني تماما تحت ذريعة طغيان الطابع السياسي على اللحظة. على العكس، التحليل السياسي الذي يظهر معه الانخرام التام في موازين القوى، هو الذي يقودنا إلى التشبّث أكثر فأكثر بالإطار الدستوري.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، محاكم دستورية ، البرلمان ، سلطات إدارية ، أحزاب سياسية ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني