حاكم مصرف لبنان يتصيّد حصانة مطلقة


2022-04-05    |   

حاكم مصرف لبنان يتصيّد حصانة مطلقة
رسم علي نجدي

مع جلاء تداعيات الانهيار المالي والنقدي في لبنان، رُفعت العديد من الشكاوى والإخبارات إلى القضاء بحقّ حاكم المصرف المركزي رياض سلامة، على خلفية المخالفات التي ارتكبها بهذه الصفة والتي كانت “المفكرة القانونية” وثقت جزءاً كبيراً منها[1]. وما إن رُفعت الدعاوى ضدّ سلامة حتى أثار فريق الدفاع عنه حجج الاستهداف والمؤامرة إلى جانب كمّ كبير من الحصانات المستمدّة من نصوص قانونية عدّة. وفي حين أنكرتْ هيئات قضائية عديدة في أكثر من قرار تمتّع سلامة بأيّ حصانة قانونية، نقضت محكمة التمييز في 15/9/2021 جزئياً هذا التوجّه لتمنح سلامة حصانة خارقة بكلّ ما يتّصل بمخالفة أحكام النقد والتسليف أي بالكمّ الأكبر من المخالفات المعزوّة له، حصانة قوامها أنّ جواز ملاحقته يبقى وقفاً على طلب منه. هذا ما سنحاول تفصيله أدناه.

هيئات قضائية تُسقط حصانات سلامة الوهمية

كما سبق بيانه، أنكر عدد من القضاة والهيئات القضائية تباعاً تمتّع سلامة بأيّ حصانة حيال مُداعاته قضائيّاً على خلفية عمله كحاكم مصرف لبنان. ومن أبرز هؤلاء، رئيس دائرة تنفيذ بيروت (فيصل مكّي) الذي ردّ[2] في تاريخ 2/12/2020 الاعتراض المقدّم على قراره[3] بالحجز على أموال سلامة. ومنهم أيضاً النائبة العامّة الاستئنافية في جبل لبنان (غادة عون) التي بيّنت في أكثر من مطالعة عدم تمتّع سلامة بأيّ حصانة. يضاف إليهما قاضي التحقيق في جبل لبنان زياد مكنّا في قراره الصادر في تاريخ 5/3/2021 بردّ[4] دفوع الحصانة المقدّمة من سلامة والهيئة الاتّهامية في جبل لبنان (برئاسة القاضية أميرة شحرور وعضوية القاضي جوزف تامر والقاضية هبة هاشم) التي صدّقت هذا القرار في تاريخ 19/5/2021. كما يجدر التذكير بالقرار[5] الصادر عن القاضية المنفردة الجزائية في بيروت لارا عبد الصمد في تاريخ 14/4/2021 والذي ذهب في الاتجاه نفسه. وقد هدفت الدعاوى المقامة ضدّ سلامة عموماً إلى تحميله مسؤولية التّداعيات الناجمة عن إخلاله بموجباته الواردة في قانون النقد والتسليف بحقّ المودعين. ومن أبرز الموجبات التي ادّعي عليه بالإخلال بها، موجب امتناع مصرف لبنان من إقراض القطاع العام إلّا في ظروف استثنائية وحالات الخطورة القصوى ( المادتان 90 و91 من قانون النقد والتسليف). 

وللإحاطَة بذلك، سنتناول أدناه الحصانات التي أثارها سلامة وأسباب استبعادها كما وردتْ في هذه القرارات. وسنعمَد في هذا الصدد إلى تصنيف الحصانات التي أثارها ضمن ثلاث فئات: حصانة مطلقة لا يمكن لأيّ كان تجاوزها، حصانة إجرائيّة لا يمكن تجاوزها إلّا بإذن مسبق من مجلس الوزراء، وأخيراً حصانة عبثية وقوامها عدم جواز ملاحقة الحاكم إلّا بطلب شخصي منه. وقد تصدّت عموماً الهيئات القضائية لهذه الحصانات وفق ما نبيّنه تباعاً أدناه.

الحصانة الأولى المُدلى بها وهي الحصانة المطلقة، استمدّ سلامة التذرّع بها من كونه رئيساً لهيئة التحقيق الخاصّة وفق قانون مكافحة تبييض الأموال والإرهاب، حيث جاء في المادة 12 من هذا القانون أنّ “يتمتع كل من رئيس “الهيئة” (حاكم مصرف لبنان) وأعضائها والعاملين لديها أو المنتدبين من قبلها بالحصانة ضمن نطاق عملهم”. وقد برّر سلامة ذلك بأنّه “يوجد تشابك في صلاحيات الحاكم كحاكم وكرئيس لهذه الهيئة” وأنّ حصانته كرئيس للهيئة تلازمه كحاكم “في أيّ موقع كان فيه ليتمكّن من ممارسة كافّة المهام المُلقاة عليه بحرية تامّة وبعيداً عن أسباب الضغط والتأثير أو الملاحقات التعسّفية بحقه”. وقد أجمعت الهيئات القضائية على ردّ هذه الحصانة على خلفيّة أنّ الأفعال المدّعى بها تخرج تماماً عن مهامّ هيئة التحقيق الخاصّة التي تستفيد وحدها من هذه الحصانة ذات الطابع الوظيفي. فـ “لا يُمكن بأيّ شكل من الأشكال توسيع نطاق الحصانة المقرّرة له (سلامة) كرئيس هيئة التحقيق الخاصّة، لأنّ الحصانة تشكّل استثناءً على القاعدة العامّة ولا يجوز التوسّع في تفسيرها”… “فالحصانة لا تعني انعدام المحاسبة أو استحالة التقاضي والذي يُعتبر مبدأً دستورياً، بل هي فقط تعني الخروج عن الطريق العاديّ والعامّ للمحاسبة بل سلوك طريقٍ خاص له” (المقاطع مأخوذة من قرار القاضية عبد الصمد ونجد تعليلاً متقارباً في القرارات القضائية الأخرى). وقد أضافتْ القاضية عبد الصمد أنّ أيّ حصانة مطلقة لا تشير إلى باب من أبواب المحاسبة تكون خارقة للدستور والمواثيق الدولية.

أمّا الحصانة الثانية المُدلى بها فتمثّلت بالمادة 61 من نظام الموظفين التي تمنع ملاحقة الموظفين العامّين في الجرائم الجزائية الناتجة عن الوظيفة إلّا بعد الحصول على إذن مسبق من الإدارة التي ينتمون إليها. وقد استبعدتْ الهيئات القضائية المذكورة هذه الحصانة على اعتبار أنّ حاكم مصرف لبنان “لا يدخل ضمن فئة الموظفين الخاضعين لنظام الموظفين وضمناً لأحكام هذه المادة وأنّه لا يجوز التوسّع في تطبيق المواد الخاصّة بالحصانة لاعتبارها استثناءً على قاعدة المساواة أمام العدالة التي هي أحد مظاهر مبدأ المساواة أمام القانون المنصوص عليه في المادة 7 من الدستور” (المقطع مأخوذ من قرار القاضي زياد مكنّا ونجد تعليلاً متقارباً في القرارات القضائية الأخرى). وقد أضاف القاضي مكنّا في قراره ما معناه “أنّ الطابع الاستثنائيّ للحصانة يوجب أن يرد نصّ صريح بشأنها كما يجب أن يحدّد القانون المرجع الذي يجب الاستحصال منه على الإذن بالملاحقة، حيث لا يمكن (بغياب نصوص كهذه) خلق حصانات بالاستنتاج وإيلاء مراجع معيّنة صلاحية منح الإذن غير المشترط أساساً لصحّة الملاحقة”. فضلاً عن ذلك، ذكّر القاضي مكنّا بالمادة 13 من قانون النقد والتسليف التي أشارت صراحةً إلى أنّ المصرف المركزيّ لا يخضع لقواعد الإدارة وتسيير الأعمال والرقابات التي تخضع لها مؤسّسات القطاع العام. كما استند مكنّا للمادة 26 من القانون نفسه والتي تشير إلى أنّ الحاكم يتولّى أوسع الصلاحيات في إدارة المصرف المركزي الذي يمثله ويرأسه، ممّا ينفي اعتباره موظفاً مرؤوساً.

تجدُر الإشارة في هذا الخصوص إلى أنّه تعيّن على القاضية عبد الصمد عند النظر في هذا الطّلب أن تتصدّى فضلاً عن ذلك للتعميم الصادر عن النائب العام التمييزي غسّان عويدات بما يتّصل بالدّعاوى المباشرة المقامة ضدّ الموظّفين العامّين والذي أثاره سلامة تأكيداً على حصانته. ففي حين طلب عويدات في تعميمه إحالة جميع الشكاوى المباشرة ضدّ كلّ من يحوز على صفة موظف عام إلى النيابة العامّة قبل القيام بأي إجراء سنداً لما جاء في المادة 61 من نظام الموظفين، ردّت القاضية عبد الصمد عليه في متن قرارها، مؤكّدة أنّ القانون لا يُعطي أيّ صلاحية لعويدات بإصدار تعاميم لقضاة الحكم بخاصّة أنّ النيابة العامّة هي خصمٌ في الدّعوى العامّة ولا يحقّ لها أن تعمّم على قضاء الحكم ما يجب فعله. وقد اعتبرتْ تبعاً لذلك أنّ القول بعكس ذلك يعني أنّ استقلالية السلطة القضائية “زالت من جذورها”.

تتأتّى الحصانة الثالثة التي أثارها الحاكم (وهي أغرب الحصانات المُدلى بها)، عن المادة 206 من قانون النقد والتسليف التي تنصّ على أنّ مخالفات هذا القانون تلاحق “أمام المحاكم الجزائية وفقاً للأصول العاجلة وتُقام الدعوى من قبل النيابة العامّة بناء لطلب المصرف المركزيّ”. وقد أثار سلامة هذه الحصانة أمام قاضي التحقيق في جبل لبنان زياد مكنّا ولاحقاً أمام الهيئة الاتّهامية في جبل لبنان ومحكمة التمييز، طالباً من هذه الهيئات ردّ أي دعوى ضدّه شكلاً لعدم ورود أيّ طلب من المصرف المركزي بملاحقته.

صدر أوّل القرارات بردّ هذه الحجّة عن القاضي مكنّا. وقد عمد الأخير وصولاً إلى ذلك إلى تفسير ما ذهبت إليه المادة 206 ضمناً من خلال مادّة أخرى هي المادة 20 من قانون أصول المحاكمات الجزائية والتي تنصّ على “أنّه لا تجري الملاحقة في الجرائم المصرفية الناجمة عن مخالفة قانون النقد والتسليف إلّا بناء على طلب خطّي من حاكم مصرف لبنان”. فوفق مكنّا، إنّ هذه المادة الأخيرة هي التي تنظّم إمكانية مباشرة الدعوى الجزائية ضدّ الحاكم وهي تفرض ردّ الادّعاء بها من قبل سلامة طالما أنّ الجرائم المدّعى بها بحقّه لا تدخل ضمن تعريف الجرائم المصرفية وأنّه “لا يتصوّر منطقاً تعليق الملاحقة الجزائية على طلب حاكم مصرف لبنان الذي هو الشخص الملاحق”. وقد أضاف مكنّا إلى ذلك وجوب تفسير أيّ استثناء على المبدأ العام الذي يتمثل في حقّ النيابة العامّة في الملاحقة أو حقّ المتضرّر في تحريك الدعوى العامّة بصورة ضيّقة. وفي حين أيّدت الهيئة الاتّهامية قرار مكنّا في هذا الخصوص، عادت محكمة التمييز لتنقُضه في اتّجاه منح سلامة هذه الحصانة “العبثية” وفق ما نسهب في تبيانه أدناه. 

محكمة التمييز تمنح سلامة حصانة عبثية

كما سبق بيانه، أصدرت الغرفة الجزائية الثالثة لدى محكمة التمييز في تاريخ 15/9/2021 (برئاسة القاضية سهير الحركة وعضوية المستشارين إلياس عيد ورلى أبو خاطر) قرارها بخصوص الطعن الذي تقدّم به حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وكان الأخير قد طلب نقض القرار الذي صدر عن الهيئة الاتّهامية في جبل لبنان والقاضي بتصديق قرار ردّ الدفوع الشكلية التي تقدّم بها سلامة والذي أصدره قاضي التحقيق زياد مكنّا. وقد انتهتْ محكمة التمييز إلى قبول طعن سلامة واعتبار دعوى الحق العام بحقّه غير محرّكة أصولاً في ما خصّ جرائم قانون النقد والتسليف بعدما أخذت بما أسميْناه أعلاه بالحصانة العبثية، في حين ردّت الطّعن في سائر الجهات الأخرى مؤيدة بذلك ما ذهبت إليه مجمل الهيئات القضائية المذكورة أعلاه.

ففي حين طعن سلامة أمام هذه المحكمة بإهمال دفْعه المتّصل بالمادة 206 من قانون النقد والتّسليف والذي يمنع ملاحقة المخالفات عليه أمام المحاكم الجزائيّة إلّا بناء لطلب المصرف المركزيّ، استجابتْ محكمة التمييز له مُوسّعة إطار تطبيق هذه المادة لتشمل جميع المخالفات الواردة في قانون النقد والتسليف (ومنها الموجبات المترتّبة على الحاكم) وجميع الأشخاص الذين قد يرتكبونها بمن فيهم هذا الأخير. ولهذه الغاية، اعتبرتْ أنّ “المادة 206 … لم ترد ضمن الباب المتعلّق بالتنظيم المصرفي تحديداً، بل في ختام الأبواب كافّة التي شملها القانون، ومنها الباب المتعلّق بالمصرف المركزي، فيكون هذا النص منطبقاً على كلّ ما شمله القانون من قواعد وأحكام، من دون تفرقة بينها في هذا الإطار”. كما اعتبرتْ أنّ “قانون النّقد والتّسليف لم يفرّق لجهة الملاحقة بين المصارف والمؤسّسات المالية وبين أيّ من المخالفات المرتكبة في ما يتعلّق بالمصرف المركزي نفسه والعاملين فيه، ما يستتبع القول بأنّ أيّ ملاحقة في شأن قانون النقد والتسليف تستوجب طلباً من المصرف المركزي”. وتبعاً لذلك، أوقفتْ هذه المحكمة ملاحقة سلامة بكلّ ما يتّصل بمخالفة هذا القانون. 

يستدعي القرار ملاحظات عدّة أبرزها الآتية:

أوّلاً، أنّه يشكّل تفسيراً عبثيّاً للمادّة 206 من قانون النقد والتسليف

بالعودة إلى الغاية من هذه المادة، نلحظ أنّها وردتْ ضمن باب العقوبات الجزائية وهدفتْ إلى تعليق ملاحقة المخالفات على هذا القانون بطلب يرد من المصرف المركزي، على اعتبار أنّه السلطة الناظمة للقطاع المصرفي والمشرفة عليه وفق هذا القانون بالذات. من هذا المنطلق، يجد اشتراط الملاحقة بورود طلب من هذه السلطة ما يبرّره بما لديها من صلاحية ومعرفة واختصاص في هذا الخصوص، على نحو يضمن متانة الملاحقة ويحدّ من الملاحقات غير الجدّية أو التعسّفية.

إلّا أنّ محكمة التمييز نحتْ في تفسيرها لهذه المادة في اتّجاه يلامس العبثية وذلك لأسباب ثلاثة:

  1. أنّها تجاهلتْ تماماً الغاية من هذه المادة وسبب وجودها لتتمسّك بحرفيّتها، وفق ما نستشفّه من إعلانها أنّ النص لا يفرّق بين المصارف والمؤسّسات المالية والعاملين فيه،
  2. أنّها بذلك وصلتْ إلى نتيجة مؤدّاها أنّ لا مجال لملاحقة سلامة عن أيّ مخالفة لقانون النقد والتسليف إلّا بطلب منه. وهي نتيجة ترشَح عن تضارب مصالح فاقع بحيث سيتعيّن على سلامة على ضوئها تجاوز ذاته في اتّجاه المطالبة بملاحقة نفسه، كلّما استشعر أنّه خالف قانون النقد والتسليف بما يتعارض مع أبسط قواعد المنطق وفق ما ورد في القرار الصّادر عن القاضي مكنّا،
  3. 3.     أنّ المادة وردت في نهاية الباب الرابع المتعلّق بـ “العقوبات” والذي هدف إلى فرض عقوبات جزائية على مجموعة من المخالفات المنصوص عليها في موادّ مختلفة من قانون النقد والتسليف. وفي حين تشمل أغلب هذه المخالفات جرائم مصرفية ترتكبها المؤسّسات المالية المرخّصة أو الأشخاص غير المرخّص لهم، فإنّ المخالفة الوحيدة المعزوّة للحاكم والمشمولة في هذا الباب هي قيامه بأعمال مصرفية بعد سنتين من تاريخ انتهاء وظيفته في المصرف المركزي (المادة 194)، وهي مخالفة ليس بإمكان الحاكم أن يرتكبها إلّا بعد تركه منصبه المذكور. وعليه، فإنّ سياق النص يؤكّد أنّ هذه المادة تتّصل بالأشخاص الذين تتثبّت الهيئة الناظمة (مصرف لبنان) من ارتكابهم هذه الأفعال المُعاقب عليها والمذكورة صراحةً وحصراً في هذا الباب. أمّا وأنّ محكمة التمييز ذهبتْ أبعد من ذلك، فإنّها تكون بذلك أظهرتْ هنا أيضاً نزعة إلى تفسير النصّ بما يضمن تحصين سلامة ووضعه بمنأى عن أيّ ملاحقة، من دون أن تجد حرجاً في النتيجة العبثية التي وصلت إليها. وما يزيد من قابليّة قرار المحكمة للانتقاد لهذه الجهة هو أنّ ذكرها للمادة 194 المتعلّقة بحاكم مصرف لبنان جاء بحسب القرار “على سبيل المثال” بما يوحي أنّ هناك العديد من المواد المتعلّقة به في باب العقوبات، في حين أنّه لا توجد سوى هذه المادة وهي لا تنطبق عليه إلّا بعد تركه لمنصبه، أي أنّها لا تنطبق على الحاكم.

ويلحظ أنّ المحكمة أصدرتْ في اليوم نفسه قراراً آخر أبطلتْ فيه التعقّبات ضدّ الحاكم ولكن على أسس مختلفة. والملفت أنّها أبدتْ في هذا القرار ارتباكاً واضحاً يصل إلى حدّ التناقض في تفسير المادة 206. ففي حين اعتبرتْ أنّه ليس بوسع سلامة التذرّع بها على خلفيّة أنّ الادّعاء ضدّه لا يتّصل بأيّ من الجرائم المعدّدة في قانون النقد والتسليف، اعتبرت أنّ النظر في أحقية الصيرفي ميشال مكتّف المدعى عليه حصراً بالمادة 770 من قانون العقوبات (مخالفة الأنظمة الإدارية) في التذرّع بها، يرتبط بما سيظهره التحقيق. وهي بذلك اعتبرت أنّ  المادة 206 لا تنطبق فقط على الجرائم المذكورة في قانون النقد والتسليف بل تشمل أيّ جريمة تتصل بأيّ مخالفة لهذا القانون.

ثانياً، أنّه تفسير يناقض اجتهاداً سابقاً لمحكمة التمييز

بالعودة إلى قرارات محكمة التمييز السابقة، نجد أنّها كانت تصدّت سابقاً للمادة 206 بشكل يختلف تماماً عمّا فعلته في قرارها موضوع هذا التعليق. هذه السابقة تمثّلت في قرارها رقم 199 الصّادر عنها في تاريخ 24/11/2009، الذي أكّد أنّ هذه المادة محصورة بإطار المصارف والمؤسّسات المالية التي تمتهن أعمال الصرافة أو التسليف من دون أن تتعدّاها إلى مؤسّسات الوساطة المالية. وقد جاء حرفياً في القرار أنّه “يتبيّن من المادة 206 من قانون النقد والتسليف معطوفة على المادة 20 من قانون أصول المحاكمات الجزائية أنّها منطوية على قاعدة استثنائية للمبدأ العام المقرّر لمباشرة الملاحقة الجزائية استناداً إلى ادّعاء عام أو شخصي، وبدون أيّ قيد يحول دون تحريك الدعوى العامّة استناداً لمقتضى المواد 5 وما يليها من قانون أصول المحاكمات الجزائية، ممّا يستدعي تطبيقها حصراً من دون أيّ توسّع كونها تمثل خروجاً على مبدأ عام”. يستنتج من ذلك أنّ محكمة التمييز بدتْ حريصة على حصر تطبيق هذه المادة بالمصارف وبعض المؤسّسات المالية، بما ينفي إمكانية تحريك الدعاوى بحقّ حاكم المصرف المركزي أو العاملين فيه.

يُذكر أنّ الهيئة الحاكمة التي أصدرت القرار 199 مؤلّفة من القضاة وائل مرتضى رئيساً والمستشاريْن نبيل صاري ومالك صعيبي.

ثالثاً، تفسير يمهّد لحَصانة مطلقة

تبعاً لتفسير المادة 206 على هذا الوجه، يصبح من غير الممكن الاستمرار في ملاحقة سلامة في القضية المعنيّة في أيّ فعل يرتبط بمخالفة قانون النقد والتسليف، لاستحالة ورود طلب منه في هذا الخصوص. هذا فضلاً عن أنّ هذا القرار يمنح سلامة سلاحاً (أو حصانة) بإمكانه استخدامه في أيّ دعوى أخرى قد تُرفع ضدّه أمام مراجع قضائية أخرى، وتكون مُسْندةً على إخلاله بالقانون المذكور.

ولا يقلّل من خطورة هذه “الحصانة” أنّ محكمة التمييز أجازت متابعة الملاحقات الأخرى غير المرتبطة بمخالفات قانون النقد والتسليف وتسليمها بأنّ سلامة لا يتمتّع بأيّ حصانة في هذا المضمار، طالما أنّ العناصر الجرمية المكوّنة لجرائم قانون العقوبات المعزوّة إليه تتمثّل في غالبها بالمخالفات على قانون النقد والتسليف، وتحديداً في إخلاله بموجَباته الناجمة عن المادتين 90 و91 المذكورتين أعلاه أو في إخلاله بأيّ من موجباته في حماية النقد الوطني أو سلامة القطاع المصرفي. وخير مثال على ذلك الادّعاء عليه بمخالفة المادة 373 من قانون العقوبات المتعلّقة بإساءة استعمال السلطة والإخلال بالواجبات الوظيفية على خلفية إخلاله بهذه الموجبات.

رابعاً، قرار صدر بعد أيام من إعادة إحياء التدقيق الجنائي

ختاماً، يُلحظ أنّ هذا القرار صدر بعد أيام من إعادة إحياء التدقيق الجنائي في حسابات المصرف المركزي بعد قرابة سنة من توقّف الشركة المدقّقة (شركة Alvarez & Marsal) عن ذلك بفعل العراقيل[6] التي فرضها الحاكم رياض سلامة نفسه على خلفية السرّية المصرفية. فكأنّما محكمة التمييز تستبق نتائج هذا التدقيق وما قد يرتّبه من مسؤوليات على سلامة من خلال منحه حصانة تقيه أيّ ملاحقة مستقبلية.

نُشرت هذه المقالة في العدد 2 من “ملف” المفكرة القانونية | جرائم نظام من دون عقاب (محور: ممارسات الإفلات من العقاب(


[1] عماد صائغ، عزل ومحاسبة حاكم مصرف لبنان: الطريق المعبّدة التي لم يتجرّأ أحد على السير فيها، المفكرة القانونية، 23/6/2020.
[2] القاضي مكي يرجّح مسؤولية سلامة تجاه جميع المودعين: لا حصانة لحاكم مصرف لبنان، المفكرة القانونية، 2/12/2020.
[3] نزار صاغية، كرامة شعب في قرارٍ قضائيّ: الحجز على أموال حاكم مصرف لبنان ردّاً على حجز الودائع، المفكرة القانونية، 26/7/2020.
[4] نزار صاغية، قرار قضائيّ يجرّد سلامة من حصاناته الوهميّة ولكن…، المفكرة القانونية، 8/3/2021.
[5] فادي إبراهيم، قرار قضائيّ جديد يبطل تعميم عويدات، المفكرة القانونية، 4/5/2021.
[6] عماد صائغ، حين عطّل حاكم مصرف لبنان التدقيق الجنائي في حساباته: قراءة في الحجج والحجج المضادة، المفكرة القانونية، 30/11/2020.
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، محاكم جزائية ، مصارف ، استقلال القضاء ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني