جُورج عدّة في حوار يُنشر لأول مرة: “لا تُبدّد العمر بالعيش على طريقة الآخرين”


2023-05-23    |   

جُورج عدّة في حوار يُنشر لأول مرة: “لا تُبدّد العمر بالعيش على طريقة الآخرين”

هذا الحوار أجرَته الصحفية التونسية رشأ التونسي مع المُناضل اليساري التونسي جورج عدة عام 2008. ولم يجد طريقه إلى النشر لأسباب خارجة عن إرادة الصحفية ومُحاوِرها. وبعد مرور كل تلك السنوات تُعيد المفكرة القانونية نشر نص هذا الحوار بعد أن تفضّلت الكاتبة بتزويدنَا به. وسيكون مرفقًا بتمهيد تَشرح فيه الصحفية رشأ التونسي السياقات

التي تعرّفت فيها على جورج عدة، وتبسُط فيه ملامح من شخصيته من خلال اللقاءات التي جمعَتها به. 

تعرّفتُ على جورج عدّة في بداية الثمانينات بمنزل لوران غاسبار، بمناسبة حضور فرقة الحكواتي لتونس للمشاركة في سهرات مهرجان قرطاج. لكن لم تصعد الفرقة إلى  ركح مسرح قرطاج تلك السنة حيث ألغِيَ المهرجان احتجاجا على إجتياح إسرائيل لبنان. كان فرنسوا أبو سالم إبن لوران غاسبار حاضرا مع فرقة الحكواتي، وجورج حاضرًا مع قلاديس زوجته عند صديقه لوران غاسبار، فدَارَ بيننا حديث شيّق. كان يحمل الكثير من الإعجاب والاحترام لسوريا التي صمدت ضد العدو الصهيوني عدوّه اللدود موقفا وفكراً. تعجّبتُ من موقفه المتشدّد ضدّ الصهيونية ومع فلسطين. اكتشفت منذ اللقاء الأوّل حبّه العميق لفلسطين وتعصّبه لحقوق الفلسطينيين. كانت فلسطين في قلبه ومشروعه النضالي، وأصبحنا نلتقي كثيراً في المناسبات الثقافية. كان مغرما بكل المجالات الثقافية. يحضر أغلب التظاهرات مع زوجته قلاديس. وكم كنت أتمنى دعوته لإحدى حصصي الثقافية لا كسياسي لكن كمثقف وفنان أصيل. لكن كل إدارات التلفزة رفضت فكرة دعوته.

أوّل مرة دعاني لقهوة صباحية في منزله بشارع آلان سافاري القريب من مقرّ وزارة الفلاحة وسط العاصمة. وعند وصولي، أمسكني من يدي نحو الشبّاك المفتوح وقال: هذا أول مشهد أراه كل صباح، كان علم فلسطين يرفرف على سطح السفارة الفلسطينية مقابل منزل جورج.

كان مناهضا للصهيونية وضدّ اتفاقيات أوسلو ومدريد التي لم تمنح الفلسطينيين حقوقهم الشرعية: حق العودة وتقرير المصير والمساواة. الاتفاقيات حسب رأيه كانت شبه انتصار سياسي لياسر عرفات، وليس لاسترجاع الأرض والوطن، كان يرفض عبارة اليهود الفلسطينيين، كما يرفض عبارة اليهود التونسيين، ويفضل الفلسطينيين اليهود. وعندما يتحدّث عن نفسه يقول أنه تونسي لعائلة اعتنقت الديانة اليهودية.[1]  هو تونسي مائة بالمائة وأممي مائة بالمائة والهوية الوطنية قبل الديانة. عَرف المنافي والسجون لتحرير وطنه لا لتحرير ديانته.

أذكر عند انعقاد أوّل اجتماع للسلطة الفلسطينية في تونس، كان مريد البرغوثي حاضرا، وتربطني به صداقة حميمة ورابطة فكرية عميقة. قلت له أريد أن أعَرّفك بشخصية متميزة جداً، وطلبت من جورج استقبالنا. استقبلنا بترحاب كبير واستغنَى عن قيلولته ذاك اليوم. كان سعيدًا عندما علِمَ أن مريد من الشخصيات التي انسحبت من صياغة نص اتفاقية أوسلو هو وإدوارد سعيد. لم يقتصر الحوار على القضية الفلسطينية العادية. اندهشت من الثقافة والمعرفة العميقة لجورج بخلفيات القضية. كانت أفكار مريد وجورج صدى أحدهما للآخر. عند انتهاء الزيارة التي دامت خمس ساعات وعند رُكوبنا السيارة، قال لي مريد: “يا رِيت عندنا عشر فلسطينيين بصدق جورج. جورج ليس شخصية متميزة كما ذكرت، جورج شخصية نادرة”. وقَبل سفر مريد شَربنا قهوة مع جورج في نزل “الأفريكا” وسط العاصمة وكان اللقاء وكأنهما يعرفان بعضهما منذ سنوات طويلة.

كرّس جورج عدة حياته دفاعاً عن العلمانية والحرية والسيادة الوطنية والتعايش والتسامح والتنوير والحداثة. وسيبقى جورج عدة في مدوّنة تاريخ تونس كمواطن حرّ بعيدا عن منطق الديانات والإيديولوجيا الحمقاء، إنساناً وطنياً تقدمياً أممياً محباً للإنسانية.

أجرِي هذا الحوار سنة 2008، بعض أشهر قبل وفاة جورج ولأسباب قاهرة تخصّ الطرفين: الصحافية والمحاور، لم يُنشر الحوار. لا أدري هل يمكنني القول “الله يرحمه” وهو العلماني المقتنع. له الرحمة ورحمته في قلوبنا.

رشأ التونسي: من هو جورج عدة؟

جورج عدة: أنا رجل يعيش ويفكّر دائماً في المستقبل. ماذا يجب أن يفعل، أو بالأحرى ما يجب أن يفعله من أجل أن يتطور. كتبتُ وما زلت أكتب. ولو أنشر مقالاتي ستكوّن عدّة كتب. مقالاتي تخصّ عوالم أخرى غير التي يَعرفها الجميع. وها نحن التقينا وستساعدينني على كتابة مذكراتي. وُلدت عام 1916 في حي باب الخضراء في تونس العاصمة من عائلة بورجوازية صغيرة. والدي كان صناعيّا مغرما بالميكانيك. كانت حياتي معقدة بعد وفاة والدي وأنا طفل. كنت أعمل كثيرا في المدرسة، دائما كنت الأول، رفضت الذهاب إلى ليسيه (معهد) “كَارنو” لأنه خاصّ بالأغنياء، وطلبت من والدي الذهاب إلى مدرسة فرنسية عادية فيها أطفال “تْوانسة”. والدي ووالدتي وجدّي وجدتي يتكلّمون العربية التي يعتبرونها لغتهم الأصلية. في تلك الفترة، كان ليسيه الصادقية ولِيسِيه العلوية. بعد الابتدائي، رفضت الالتحاق بليسِيه كارنو، والصادقية لا تستقبل إلاّ أولاد المسلمين، فالتحقت بليسيه العلوية. سيرج إبني استطاع الالتحاق بالصادقية. فبعد الإستقلال تَغيَّر الوضع. ليلى بنتي أيضا دكتورة في التاريخ. درستُ التاريخ بالفرنسية والعربية، وإبناي قرآ القرآن. بعد الاستقلال، ذهبت لجلولي فارس[1] لأحدّثه فيما يخصّ أولادي، فأجابني أن الرأي العام سيعتقد أن الحكومة الجديدة ستُحوّل الأطفال اليهود إلى مسلمين ويعلّمونهم غصبا القرآن، كما سيكون اليهود ضدي. أخبرته أنني سأعلن وجود عنصرية في تونس الحديثة، وقُلت له دعْ الأطفال يتعلمون القرآن إن أرادوا وسيقرّرون بأنفسهم قبوله أو رفضه. وأنا في السجن كنت أكتب مقالاتي بالعربية بمساعدة بعض السجناء الذين ساعدوني على إتقان العربية.

التونسي: متى بدأتَ فكرة النضال؟

عدة: لا أذكُر كيف بدأت علاقتي مع فكرة الشّيوعية، أعتقد أنني وُلدتُ شيوعياً. والدي ميكانيكي لكنه كان يبحث ويقرأ. وكانت لديَّ لهفة لقراءة الصحف. كل ما تعطيني إياه والدتي من مصروف أنفقُه في شراء الصحف، أبتلع كل ما يُكتب في الجرائد، وربّما كانت تلك القراءات سبب رغبتي في المشاركة في العمل الميداني ومحاولة التقدّم إلى الأمام. كانت صحيفة La Voix Tunisienne التي تصدُر بالفرنسية الصحيفة الوحيدة التي تتكلّم عن تونس. كنت أشتري عشرة أعداد وأوزّعها على أصدقائي. كما كنت أراسل بعض الصحف في بلجيكا لأنّهم يقبلون مقالات عن تونس. وبدأنا نكتشف الاختلافات مبكّرا في المعهد والعوائق الاجتماعية، وانطلقت هكذا الاحتجاجات. كُنتُ الأوّل في القسم لكن صاحب مشاكل. كانت هناك رابطة بين المعلّم والتلميذ ولم يكن هناك عداوة. قام المدير بدعوة والدتي ليُخبرها أنني الأوّل والأفضل لكنني الأكثر مشاكل في العلوية، ماذا سنفعل معه؟ ولم يكن لدى الوالدة المسكينة أي ردّ.

في العلوية، كنت مع مجموعة من الشباب مقرّبين من الحزب الشيوعي الذي بدأ يبني تنظيمه، وبدأ البوليس يتّبع نشاطنا مما أجبرنَا على الدخول في السريّة. وقبضوا عليّ أول مرة وأنا في التاسعة عشرة من عمري. سافرتُ إلى باريس خلسةً لكن لم تعجبني الحياة ودخلت السجن، ثم هربتُ إلى الجزائر وألقي عليّ القبض. ودخلت سجن بربروس -الذي أصبح اسمه سركاجي- ثلاثة أشهر، وسِجن بوعرّوج ثمانية أشهر. بعد تبديل الحكومة في فرنسا سنة 1936 وقُدوم الجبهة الشعبية، تمتّعنا بعفو أصدرته الحكومة الجديدة. في ذلك الوقت، كانت الشيوعية تُعتبر خارج القانون، والشيوعية في تونس بدأت قبل الحزب الدستوري الجديد الذي تركّزَ تاريخيا مع اجتماع قصر هلال في سنة 1934.

كانت تونس في تلك الفترة تمرّ بأزمة اقتصادية صعبة جداً، وأمام المحاكم كانت هناك قضية رفعَهَا بعض الفلاّحين من أجل استرجاع 30000 هكتار يُحاول المستوطنون الفرنسيون الاستحواذ عليها. وبدأت التّململات للدّفاع عن أصحاب الأراضي. وكان الفرنسيون يحرقون مراكز “الجدرمية”[2] أين توجد شكَاوي المتضررين لحجب الأدلّة. وانتهت القضية بإيقاف الشيوعيين والدساترة. لكن قامت مظاهرات في كل أنحاء البلاد وأخذت تتفاقم خاصة بعد أحداث المكنين سنة 1934، والتي كانت بداية النضال في كل المجالات خاصة يوم 01 ماي 1934. كان يومًا مُهمّا بالنسبة للنضال العمّالي، نظّمنَا مظاهرة في ساحة الشغل في باب الجزيرة أمام “الحمراء”، وهي بناية كبيرة تضمّ مقرّ النقابات. نَظَّم الشيوعيون تظاهرة 01 ماي، أخذ حسن السعداوي الكلمة، وندّد فيها بالمستعمر. وعند الخروج، تعرّضنَا لهجوم وحشي من طرف البوليس. وانقسمنا إلى مجموعات إتّجهت كل مجموعة إلى جهة. كُنت ضمن مجموعة اتجهت نحو ساحة فرنسا. صعدنا فوق السطوح وملأنا الأوعية المَثقوبة بالماء وكنّا نرمي بها على “الجدرمية”. وفي نفس الوقت نرمي المناشير. جُنّ جنون البوليس ولم يستطيعوا إلقاء القبض علينا.

من 1934 إلى 1936 كانت أوّل معركة يقودها الحزب الشيوعي بعد ثورة محمد علي الحامي ومختار العياري[3] سنة 1924. كان حسن السّعداوي[4] العقل الحقيقي في ذلك الوقت، وقد حُكمَ عليه بالنّفي عشر سنوات خارج تونس، ولم يرجع إلى الوطن إلا بعد الاستقلال وتعرّض إلى مظلمة كبيرة واستُجوبَ من طرف البوليس التونسي استجوابًا رهيباً، وكَان في ذلك الوقت رئيس اتحاد نقابات العمال التونسية U.S.T.T. تُوفي حسن السعداوي بعد خمس سنوات من رجوعه من المنفى، إثر عذاب رهيب في سجون تونس المستقلة.

سنة 1936 كان كل واحد منّا في الحزب يعرف تماما دوره وماذا عليه القيام به. وبدأ التنظيم بعد خروج المساجين من السجن، وعقد الحزب اجتماعه الأوّل بتاريخ 01 جوان 1936 تحت إشراف منتخبيه. وكُنت حينها الكاتب العام المساعد وعُمري تسعة عشر عاما ونصف. كانت بقية الأحزاب منظّمة آنذاك، وبدأت اتّصالات بين الحزب الدستوري والحزب الشيوعي تحت إشراف الحبيب بورقيبة الذي ذهَبَ بعدها إلى باريس. نظّم اتحاد النقابات اجتماعاً للنظر في قرار الالتحاق بالحزب الشيوعي. فالشيوعيون الذين لَعِبُوا دوراً أساسياً في كل نشاطات اتحاد النقابات مع فترات أسميها شخصياَ مراحل انسياب، بحثوا دائما عن طريقة لخدمة العمال. وعندما ربِحوا ثورة ما بعد الحرب الثانية استلموا إدارة النقابة وأسسوا نقابة مركزية حديثة. وفي نفس الفترة تأسّسَ الاتحاد العام التونسي للشغلU.G.T.T.، وقام الحزب الشيوعي بمحاولات لدمج الإثنين (أي اتحاد النقابات واتحاد الشغل) وبَعث نقابة مركزية واحدة. وتبرّعَ حسن السعداوي بالمبنى الكائن في نهج اليونان وسط العاصمة لفائدة اتحاد الشغل، لكن الحزب الدستوري قرّر بعد الاستقلال حلّ كل المنظمات التي لم تكن دستورية أو قريبة، وأوّل تلك المنظمات الحزب الشيوعي الذي أصبح ممنوعاً بعد الاستقلال.

انطلقت سلسلة من حملات التفتيش والاعتقالات والاستجوابات. حسن السّعداوي كان متقدما في السن وبعد حياة سجون وتعذيب يموت في “كُمِيسارية” (مركز شرطة) في تونس المستقلة، رغم أنه كان مع بورقيبة في برج “البوف” سنة 1934 وفي السجون الفرنسية سنوات 1940-1942. ومن سنة 1963 إلى سنة 1981، دَخَل الحزب الشيوعي السريّة وهو أقدم حزب سياسي في تونس تأسس سنة 1920، وقد أسّس حسب نظام الحزب الشيوعي الفرنسي لحماية حرية واستقلال البلدان المستعمرة. وطبعًا لم يحافظ الحزب على تلك المبادئ.

عندي اليوم اختلاف مع كل شيوعيّي العالم. لم نستطِع أن نُدير جيّدا ما كرّسته الشيوعية من مبادئ ولا التصرّف بما كان في العالم السوفياتي. لكنني ما زلت أؤمن بالشيوعية ولا بد من دراسة الأمور بطريقة مختلفة. وأنا مقتنع أنّه يمكن الانخراط في العمل السياسيّ الجديّ. والدليل انتخابات 2004 التي يمكن القول أنها الانتخابات الحرة الأولى منذ استقلال تونس.

انطلقت الخلافات في الرأي داخل الحركة الشيوعية منذ الحرب العالمية الثانية حول الموقف من النازية. ابتداء من سنة 1935 قرّر جميع الشيوعيين في العالم أنّ الحرب لا بدّ أن تكون ضد الفاشية. لكن كان هناك فئة مع هتلر وموسوليني، ومع الأسف بورقيبة كان مناصراً للفاشية لاعتقاده أنها الأقوى[5]. وأنا كنت أناضل من أجل الحريّة برفقة بعض الشيوعيين التابعين للنقابة الفرنسية. وكنت أحاول تأسيس نقابة تونسية مستقلة والتي طالب بها فرحات حشاد عشر سنوات من بعد (أي سنة 1945).

التونسي: أنت كرّست حياتك للعمل السياسي فقط؟

عدة: نعم مارست السياسة فقط، كنت إمّا في السجن أو في المنفى، وتعلّمت كثيراً من المنافي والسجون، تعلّمت حبّ الوطن الحقيقي. ومن ذكريات الوطن في السجون أيام الاستعمار الفرنسي أنه في أحد الأيام على الساعة السابعة صباحا، اقتاد الحرّاس مجموعة من المساجين إلى ساحة الإعدام. وعند خروجهم رفَعوا أصواتهم بالنشيد الرسمي، وارتفع صوت ألف سجين ينشد “حُمَاةَ الحِمى”. اهتزّت جدران السجن السميكة بأصوات المناضلين الحقيقيين الذين رفضوا أن يَضعوا قِنَاع الإعدام على أعينهم. ونظروا إلى الجلاّد مباشرة في عينيه دون خوف أو تردّد. كانوا شباباً بسطاء من أبناء الشعب، أصحاب إيمان لا أصحاب فكر. كانوا أبناء تونس، الذين جعلوا جدران السجن تهتز بحبّهم للوطن وكرههم للمستعمر الظالم. لن أنسى أبدا ذلك الموقف. هذا هو شعبي؛ الشعب التونسي الذي استطاع تجاوز كل الشعارات وكل الزّعماء. 

اقتاد الحرّاس مجموعة من المساجين إلى ساحة الإعدام. وعند خروجهم رفَعوا أصواتهم بالنشيد الرسمي، وارتفع صوت ألف سجين ينشد “حُمَاةَ الحِمى”. اهتزّت جدران السجن السميكة بأصوات المناضلين الحقيقيين الذين رفضوا أن يَضعوا قِنَاع الإعدام على أعينهم. ونظروا إلى الجلاّد مباشرة في عينيه دون خوف أو تردّد.

التونسي: علاقتك مع سليمان بن سليمان[6] كانت متميزة؟

عدة: ما عدا السياسة، ربطتني بسليمان بن سليمان علاقات إنسانية ورابطة يومية. تعرّفتُ عليه عند رجوعه من باريس سنة 1936 بعد خروجه من السجون الفرنسية. كان شخصاً راديكالياً عنيداً لا يتراجع عن فكرة أو كلمة كأغلبية “المطاوة”[7]؛ جماعته التي كان مقرّبا منها وأغلبهم كانوا شيوعيين، وكان ضد كل من يحاول إفساد اجتماعات اليسار والاشتراكيين من الدساترة، كان صوتاً نافذاً للشعب داخل الحزب الدستوري، توطّدت علاقاته بالتيار الاشتراكي التقدّمي منذ سفره إلى فرنسا، وَقَعَ طرده من الحزب الدستوري لتمسّكه بمبادئ الاشتراكية ومبادئ الماركسية الشيوعية ورفضه لأحادية الحزب. انزعج بورقيبة من موقف بن سليمان من هزيمة فرنسا على يد الألمان عندما لم يتردّد عن التصريح ارتياحه لهذه الهزيمة على أساس “عدوّ عدوي صديقي”، ويخطئ من يدّعي أن صراع بن سليمان وبورقيبة كصراع بن يوسف وبورقيبة على رئاسة الحزب أو الحكم. الصراع كان مبنيّا على أسس ومبادئ أسمى وأرقى وأكثر علاقة بالوطن. فتحَ لنا (سليمان بن سليمان) نحن الشيوعيين أعمدة الصحيفة التي أصدرها بعد الاستقلال” Tribune du progrès” والتي أوقِفَت عن الصدور سنة 1963، نفس الفترة التي حُجّر فيها نشاط الحزب الشيوعي.

التونسي: لماذا ابتعدتَ عن الحزب الشيوعي؟

عدة: مع الأسف، اضطررت على الابتعاد عن الحزب الشيوعي بعد الخلافات الكبيرة لأن وضعي أصبح صعباً جداً، لم يعد يكلمني أحد من الحزب. الكل يتجاهلني بسبب آرائي والتشبث بمبادئ الحزب الأساسية. حتى موقف حسن السعداوي كان معقداً داخل الحزب. لقد سبق وأن انقطعت في فترة سابقة. ففي أكتوبر 1942 كنت مريضاً في باجة. وعند عودتي إلى العاصمة، اتصلت ببعض الأشخاص ونصحوني الاتصال بالمسؤولين عن الحزب، قابلت المسؤولين وتحدثنا طوال الليل وأعلموني أنني أستطيع العودة إلى الحزب. كان هناك سبباً لرجوعي في ذلك الظرف بالذات وهو أن الحزب بدأ يُغيّر سياسته وكانت عودتي تتماشى مع الخط الجديد للحزب.

التونسي: إلى جانب السياسة عملت صحافياً؟

عدة: كنت مسؤولاً وصحافياً من دون أي مقابل مادي ولا أدري كيف كنت أعيش في تلك الفترة. كنت عميد الصحافيين في سنة 1936. بورقيبة كان عنده بطاقة صحافي، صوّرها وكبّرهَا وخصّص لها جداراً كاملاً. أنا وبورقيبة تحصّلنا على بطاقاتينا الصحفية في نفس اليوم.

التونسي: لنتحدّث قليلا عن فلاديس؟

عدة: أوه لالا…قلاديس…(قالها وهو يرفع يديه إلى الأعلى) هي توأَم روحي ودينامو حياتي. امرأة مثقّفة أغرِمتُ بالثقافة عن طريقها. من العائلات اليهودية الثرية في قابس. كانت مُتزوجة من أحد أغنياء قابس إدجار سعادة، وأنجبت منه صبيّا هو نوربرت سعادة، الموسيقار المشهور. تركَت زوجها وحياة مُترفة لتتزوج من شاب فقير مثلي وفاءً لقناعاتها الإنسانية (يضحك) ومن أجل الحب أيضاً. وضَعت كلّ جهدها ومعرفتها ونشاطها في خدمة الإنسانية، خاصة في مجال النساء والأطفال، وتجاوزَ نشاطها الحدود إلى الجزائر حيث تَعرفها كل الجمعيات النسائيّة. كنّا نبقى ساعات طويلة نتجاذب الحديث. إلى آخر لحظات في حياتها، لم ينطفئ الشغف. علاقتنا كانت علاقة التحام العقل والقلب. بقيت أعمال قلاديس الخيريّة حية حتى بعد وفاتها وستبقى، تبرّعت بأعضائها لكلّية الطب في تونس، وإن  أعطتني الموت مُهلةً سأكتب كتاباً عن قلاديس.

التونسي: إلى جانب السياسة هل لك غرام بالفن؟

عدة: طبعاً طبعاً، تربّيت في عائلة مُغرمة بالفن، كان الراديو مفتوحاً طوال النهار، والدتي ورثَت من عائلاتها حبّ فريد الأطرش وعلي الرياحي ورؤول جُورنو وحبيبة مسيكة وأم كلثوم وليلى مراد وكل ذلك الجيل. أنا ورثت فنّ هؤلاء وأضفت فيروز ونجاة الصغيرة وعبد الوهاب وعبد الحليم وأعشق صوت فايزة أحمد، أيضا جاك بريل وإيديث بياف وجيلبير بيكو، بولونكا، وبربارا المغنية المفضّلة لقلاديس. أنا وقلاديس نُحبّ المسرح والسينما. وتوفيق الجبالي مَتّعنَا بمسرحياته، كنّا نحضر العروض الموسيقية في المسرح البلدي. 

التونسي: لو اعترضك اليوم جورج عدة وهو في العشرين من العمر ماذا ستقول له؟

عدة: (يفكر قليلاً ويبتسم) سأقول له بالتأكيد: إياك أن تحيد عن الطريق، كن ما كُنتَ وابقَ على مبادِئك وحبّك للحياة التي اخترت. لا تبدّد العمر بالعيش على طريقة الآخرين.

      لقراءة المؤلف الجماعي كاملا وتحميله، اضغط هنا


[1] تولّى رئاسة البرلمان التونسي بين 1956 و1964، وقبلها عين عام 1955 وزيرا للتربية.

[2] الجَدرمية هي عبارة  تطلق على عناصر البوليس الفرنسي في الحقبة الاستعمارية،

[3] المقصود هنا ثورة عمال الرصيف ببنزرت التي اندلعت سنة 1924 وكان مختار العياري ومحمد علي الحامي من أبرز الفاعلين فيها.

[4]  نقابي ومناضل شيوعي تونسي، انخرط بالحزب الشيوعي سنة 1923 وتعرض للملاحقات والنفي بسبب نشاطه السياسي (للوقوف أكثر حول سيرة حسن السعداوي انظر كتاب: تراجم نشطاء الحركة الشيوعية بتونس، الحبيب رمضان، ص: 150).

[5] يُعبرّ هنا جورج عدة عن موقف الحزب الشيوعي التونسي أواسط الثلاثينات من سياسات الحزب الحر الدستوري الجديد بزعامة الحبيب بورقيبة، فقد وَاصل الحزب الدستوري تحريضه ضد الحكومة الفرنسية حتى بعد صعود الجبهة الشعبية اليسارية في فرنسا للحكم سنة 1936،. وقد اعتبر الشيوعيين  هذا التحريض بمثابة التواطؤ مع الفاشية الصاعدة في أوروبا. للوقوف أكثر حول خفايا هذه المرحلة انظر أروى العبيدي، خفايا التاريخ، 09 أفريل 1938: صوت الغضب ضد الاستعمار. موقع انكفاضة، تونس، 09 أفريل 2021.   

[6] سياسي تونسي انضم إلى الحزب الدستوري الجديد سنة 1934 وقد عرف بمواقفه القريبة من الشيوعيين وهو ما جعله محل اتهام دائم داخل الحزب الدستوري.

[7]  المقصود بالمطاوة هم المنحدرين من مدينة المطوية التي تقع في ولاية قابس، جنوب شرق البلاد التونسية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، حرية التعبير ، الحق في الحياة ، مقالات ، تونس ، حقوق العمال والنقابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني