تكفير وتلاسن وتعطيل متعمد لأعمال البرلمان التونسي: حرية النائب ليست مطلقة


2020-03-06    |   

تكفير وتلاسن وتعطيل متعمد لأعمال البرلمان التونسي: حرية النائب ليست مطلقة

لئن أصبح التعطيل والعراك مشهدا معتادا في مجلس نواب الشعب، إلا أن الجلسات العامة لبداية شهر مارس الجاري شهدت منعرجا جديدا. حصل هذا الأمر بعد وصم النائب عن ائتلاف الكرامة نضال السعودي النائبة ورئيسة الحزب الدستوري الحر عبير موسي «بعدائها للإسلام»، ودفاع زميله في نفس الكتلة عن «التكفير» بأنه «حكم شرعي». تجاوز خطير لم يلق ردا صارما من رئاسة المجلس، وشكّل مادة لمواصلة تبادل الهجمات بين أعضاء الكتلتين المذكورتين. الهرج والعراك امتدّا إلى الجلسة العامة الموالية التي انقطعت مرات عديدة جراء احتجاجات نواب الدستوري الحر، وحتى جلسة يوم الخميس التي رفعت «بتعطيل من كتلة الدستوري الحر»[1]. نفس الكتلة سبق وأن اعتصمت بالبرلمان لمدة أسبوع بعد إساءة نائبة من كتلة النهضة لها، مما كاد يحول دون التصويت على مشروع قانون المالية في الآجال الدستورية. تكرار هذه المشاهد التي لا تزيد أطرافها سوى شعبية لدى أنصارهم، أصبح يهدد سير عمل البرلمان، ويسيء لصورته -ومن خلفها صورة الديمقراطية-، أمام تقاعس مكتب المجلس على استعمال الوسائل التأديبية المنصوص عليها في النظام الداخلي، واكتفائه بالتنديد بما حصل والمطالبة بتنقيح الفصول المتعلقة بحفظ النظام داخل الجلسة العامة.

ليس غريبا أن يكون البرلمان مسرحا للسجال السياسي، بل أن الديمقراطية تقتضي مشهدا تعدديا ورؤى متقابلة وحتى متناقضة. لكن ما يحصل في هذه الأشهر الأولى من المدة البرلمانية الجديدة ليس تعبيرا صحيا عن اختلافات سياسية، وقد يؤدي إلى انزلاقات معزولة. فلا تكاد تخلو جلسة عامة من مناكفات وهجومات متبادلة بين كتلة الحزب الدستوري الحر من جهة، وكتلة ائتلاف الكرامة (وبدرجة أقل النهضة) من جهة أخرى. نفس المشهد يتكرر كلما أخذ رموز هذه الأحزاب الكلمة تحت قبة البرلمان: استفزاز فمقاطعة فردود ومطالبة بنقاط نظام واحتجاج. تكرار هذا المشهد لا يدل فقط على استحالة التعايش بين الكتلتين، بقدر ما يُبرز سعي كليهما إلى تسجيل نقاط سياسية لدى أنصارهما وحشد دعمهم على وسائل التواصل الاجتماعي، والظهور بمظهر خط الدفاع الأول ضد الإسلام السياسي أو ضد النظام القديم.

 

مسؤولية مضاعفة لرئاسة المجلس

حفظ النظام داخل الجلسة العامة هو، حسب النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب، مسؤولية رئيس المجلس أو أحد نائبيه. ولكن لا يبدو أن رئيس البرلمان راشد الغنوشي، الذي يكاد يصبح ترؤسه للجلسات استثنائيا، ولا نائباه طارق الفتيتي وسميرة الشواشي، نجحوا في مهمة حفظ النظام كلما طرأ إشكال ما. بل أنهم يتحولون في أحيان كثيرة إلى طرف في المشاكل، خاصة عند إسناد نقاط النظام لمن يطلبها من النواب، وعند قطع الكلمة على من يستعملها للحديث في أشياء خارجة عن سير الجلسة بطريقة انتقائية أحيانا.

وما من شك أن وجود راشد الغنوشي على رأس البرلمان ساهم بشكل كبير في هذه الأجواء، فهو، علاوة على سوء إدارته للجلسات، وعلى الخلط الذي حصل في أحيان كثيرة بين صفتيه كرئيس للبرلمان وكرئيس حركة النهضة، يمثل في نظر كتلة الدستوري الحر الطرف الأهم في النزاع، واستهدافه لا يمكن إلا أن يدرّ على الحزب منافع سياسية.

ظهر هذا مرة أخرى في جلسات هذا الأسبوع، فبعد أن أعلن نواب كتلة الدستوري الحر انسحابهم من جلسة يوم الأربعاء، عادوا بمجرد أن تولى راشد الغنوشي رئاستها، وتوجهوا له مطالبين باتخاذ موقف واضح ضد دعوات التكفير ضدهم. وقد استجاب الغنوشي لذلك، مدينا التكفير (المدان أصلا بالدستور كما قال)، ولكن أيضا وبنفس الدرجة (إن لم نقل أكثر) تعطيل أشغال المجلس، الذي اعتبره «جريمة موصوفة». لكن، هل أن الإدانة تكفي؟ وهل أن دور رئاسة المجلس، سواء في الجلسات العامة أو في المكتب، يتوقف عند التعبير على المواقف؟

 

ضرورة التنصيص على إجراءات تأديبية جديدة… مع الشروع بتطبيق الموجود!

بعد اجتماعه يوم الأربعاء 2 مارس، طالب مكتب المجلس الكتل النيابية «بتقديم مبادرة خاصة لتنقيح الفصول المتعلقة بحفظ النظام بالجلسة العامة لإحالتها على لجنة النظام الداخلي مع استعجال النظر»، مما يوحي بأن الأمر لا يجب أن ينتظر مسار تنقيح النظام الداخلي الذي بدأ منذ أسابيع داخل اللجنة، وإنما يحتاج مبادرة خاصة تحظى باستعجال النظر.

لكن مكتب المجلس لم يفعّل إلى الآن الإجراءات المتاحة. فالفصل 131 من النظام الداخلي يعطي رئيس الجلسة صلاحية توجيه تنبيه لكل نائب يقوم بعرقلة النظام أو يتناول الكلمة دون إذن وتم تذكيره بذلك مرتين، أو يصدر منه شتم أو ثلب أو تهديد نحو عضو أو أكثر من أعضاء المجلس، وسحب الكلمة منه وحرمانه من التدخل حتى نهاية الجلسة. وهو ما لم يتم رغم تعدد الحالات التي كانت تستوجب ذلك. كما أن لمكتب المجلس، حسب نفس الفصل، أن يتخذ عقوبة تقضي بالحرمان من أخذ الكلمة لمدة أقصاها ثلاث جلسات، في حق كل نائب لم يمتثل للتنبيه وواصل عرقلة عمل المجلس، أو استخدم العنف المادي، أو صدرت منه تصرفات مهينة للمجلس أو لرئيس الجلسة. هذه العقوبة تستوجب طبعا احترام حقوق الدفاع للنائب المعني، وتتحذ بالأغلبية المطلقة لأعضاء المكتب، مثلما حصل في المدة النيابية الفارطة ضد النائب فيصل التبيني بعدما نعت رئيس المجلس آنذاك محمد الناصر بال«كارثة».

هذه الإجراءات قد لا تكون كافية لردع النواب المسؤولين عن حالة الهرج، لكن كان يتعين على رئاسة المجلس ومكتبه تفعيلها عوض الاكتفاء في كل مرة بالتنديد، أو بسحب عبارات من المداولات مثلما حصل بخصوص العبارة التي توجهت بها النائبة عن حركة النهضة جميلة الكسيكسي ضد النائبة عبير موسي والتي أدت إلى اعتصام هذه الأخيرة مع كتلتها داخل البرلمان لمدة أسبوع. فتقاعس رئاسة المجلس عن ضبط التجاوزات التي تحصل في الجلسة العامة بصفة مباشرة، وعدم تفعيل مكتب المجلس للإجراءات التأديبية الموجودة، يقع استغلاله في كل مرة من طرف نواب كتلة الدستوري الحر لتعطيل أشغال المجلس «دفاعا عن حقوقهم» واحتجاجا على «الإساءة إليهم»، واسترجاع مشهد تحدي راشد الغنوشي الذي تتغذى منه شعبيتهم. يتكرر الأمر ذاته في الجهة المقابلة، حيث تشجع سلبية رئاسة المجلس (سواء في الجلسات أو داخل مكتب المجلس) نواب ائتلاف الكرامة على التمادي في التجاوزات والاستفزازات والخطاب المتطرف الذي وصل إلى حدود التكفير.

 

الحصانة البرلمانية لا تعني حرية مطلقة داخل البرلمان

المشاهد التي عاشها البرلمان قد تكون فرصة لإعادة التفكير في الفصول المتعلقة بحفظ النظام داخل الجلسة والاجراءات التأديبية الممكن أخذها تجاه النواب. إذ بالإضافة إلى الحرمان من الكلمة، من الممكن أيضا التفكير في اعتماد عقوبات مالية، مثلما هو الشأن بالنسبة للغيابات المتكررة. كما قد يكون مهمّا وضع حدود معينة للخطاب، كي لا تتحول قاعات البرلمان إلى مجال للتكفير والتلاسن والشتم.

لكن، لا يجب أن يصبح تنقيح النظام الداخلي فرصة لتصفية حسابات سياسية مع أطراف معينة. كما ينبغي الحذر عند صياغة الاجراءات التأديبية من امكانية استغلالها لقمع صوت المعارضة والتقليص من أدوات عملها. وهو ما حصل على سبيل المثال في المجر، مما دفع عددا من نواب المعارضة إلى الطعن لدى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.

غير أن المحكمة أقرت بأن استعمال النواب لوسائل كمضخمات الصوت والمعلقات للتعبير عن آرائهم داخل قاعة الجلسة العامة يمثل إخلالا بنظام البرلمان، وأن اتخاذ اجراءات تأديبية في حقهم لا يشكل في المطلق خرقا لحريتهم في التعبير، طالما تم احترام مبدأ التناسب. لكنها اعتبرت أن عدم تمتيع هؤلاء النواب بحقوق الدفاع يجعل هذه الاجراءات في حال مخالفة مع الفصل العاشر من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.

ولئن كانت مثل هذه القرارات مهمة عند التفكير في السلطة التأديبية داخل مجلس نواب الشعب، إلا أن المسألة لا تتعلق فقط بحرية التعبير المضمونة للجميع، وإنما كذلك بالحصانة التي يتمتع بها النواب في كل الأعمال المرتبطة بمهامهم النيابية، حسب الفصل 68 من الدستور. هذه الحصانة، التي تعني انعدام المسؤولية القانونية البرلمانية طالما اقترنت بممارسة الوظيفة، وهي تتميز عن الحصانة الجزائية التي ينظمها الفصل 69 من الدستور بإطلاقها، فهي مدنية وجزائية، ولا تحتاج تمسك النائب بها كما لا يمكن للمجلس رفعها ولا تنتهي بانتفاء صفة النائب. شرطها الوحيد هو الارتباط بالمهام النيابية، وهو مفهوم يحتمل تأويلات عديدة، سواء بخصوص ما قد يفعله النائب داخل البرلمان دون أن يكون بالضرورة في علاقة بمهامه، أو بما يفعله خارج البرلمان ضمن دوره التمثيلي مثلا.

ولكن، أيا كان تأويلنا للحصانة الوظيفية، فهي لا تتناقض مع امكانية اتخاذ البرلمان اجراءات تأديبية. فإعلان الحقوق الذي صدر سنة 1689 في انجلترا، وهي منشأ الديمقراطية البرلمانية، أردف في فصله التاسع الحصانة المطلقة التي يتمتع بها النواب في تعبيرهم داخل البرلمان، باستثناء الاجراءات وعمليات المساءلة داخل البرلمان نفسه. إذ أن حماية حقوق بقية النواب وحسن سير البرلمان تفرض وضع حدود معينة وتطبيقها. بل أن امكانية اتخاذ اجراءات تأديبية ضد النواب في حال ارتكابهم لتجاوزات خطيرة داخل البرلمان هي التي تبرر تمتعهم بحصانة مطلقة مدنيا وجزائيا، وهي لا تحمي فقط النائب، بل تمثل كذلك تطبيقا لمبدأ الفصل بين السلط.

يبقى أن هذه الموازنة بين حرية النائب وحصانته، بالإضافة إلى حقوق المعارضة من جهة، وبين ضمان حسن سير العمل البرلماني وحفظ نظام الجلسات وحماية حقوق بقية النواب من جهة أخرى، ليست بالأمر الهين. ومن الضروري أن تناقش دستورية الإجراءات المزمع إضافتها للنظام الداخلي أمام القاضي الدستوري. لكن قانون الهيئة الوقتية لرقابة دستورية مشاريع القوانين لم يدرج النظر في النظام الداخلي ضمن اختصاصها، والمحكمة الدستورية لا زالت هي الأخرى لم ترَ النور، ويحتاج إرساؤها إلى توافق واسع يبدو صعب المنال في ظلّ هذا المشهد البرلماني.

 

 


[1] استغل رئيس الجلسة طارق الفتيتي احتجاجات النائبة عبير موسي ليرفع الجلسة تفاديا لسقوط مشاريع القوانين الأساسية الستة التي بقيت في جدول الأعمال، بعد سقوط مشروع القانون المتعلق بالموافقة على الاتفاق المؤسس لمنطقة التجارة الحرّة القارّية الإفريقية لعدم توفر الأغلبية.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني