بنت العشيرة في الحيّز الخاصّ أو “الحرّية المسؤولة”


2021-08-23    |   

بنت العشيرة في الحيّز الخاصّ أو “الحرّية المسؤولة”
إحدى نساء آل جعفر (تصوير حسن الساحلي)

تعجّ حياة نساء العشائر بالحكايا والتجارب التي تتناقض لتبدو بنت العشيرة وكأنّها تمشي على حدّ السيف. هي عموماً حرّة، لكن ضمن قواعد العشيرة ومفهومها للشرف. فبنت العشيرة تفتح بيت العائلة وتستقبل ضيوف أبيها أو أخيها أو زوجها وتقدّم لهم واجبات الضيافة وحتى يمكنها أن تستقبلهم للمبيت في حال قدِموا من منطقة بعيدة تستدعي بقاءهم لدى مضيفيهم. وقبل الموجة الدينية المستجدّة بفعل تعزيز حضور حزب الله، كانت قلّة من بنات العشائر محجّبات. حتى السيّدات كبيرات السن كنّ يضعن غطاء على الرأس لا يمتّ للحجاب الشرعي الدارج اليوم بصلة. وكانت بنت العشيرة، وما زالت، تذهب إلى المدرسة كما أخوها، وتتعلّم وفق ما تتيحه الظروف الاقتصادية بالدرجة الأولى في منطقة محرومة كقضاء الهرمل. وفي الأفراح، كنّ يمسكن على الدبكة كما الرجال يداً بيد معهم، وهو سلوك لم يكن شائعاً كثيراً لدى بنات الجيل القديم. وحصل أن قصدت طالبات من العشائر قبل ستّين عاماً وإلى اليوم بيروت أو سافرن إلى خارج لبنان للتخصّص العلمي، ودخلن في أحزاب سياسية “تقدّمية” وشاركن في حلقات حزبية، ولكن ودائماً وأبداً ضمن القواعد السلوكية المضبوطة تحت إطار مفهوم شرف العشيرة وما يجوز ولا يجوز، وهو ما يرغب رجال العشائر وحتى نساؤها في بتسميته “الحرّية المسؤولة”.

لم يكن لبنت العشيرة تقليدياً رأي في اختيار زوجها. كان على أبناء أعمام بنت العشيرة قبل الجميع، أن يقبلوا بتزويجها إلى رجل غيرهم. كانوا يسألونهم الواحد تلو الآخر إن كان يرغب في الزواج بها أم لا. وفي حال لم يبدِ أيّ منهم رغبته بذلك، يسمح بتزويجها من خارج العشيرة. اليوم عندما نبحث في الكيفية التي تحكم تزويج بنات العشائر وكذلك بنات النساء اللواتي خضعْنَ لعرف التزويج من ابن العم لا نجد مكاناً للإرغام على الزواج من ابن العم، حتى أنّ غالبيتهنّ، وخصوصاً من تزوّجت الأم من ابن عمّها، تزوّجن من خارج العشيرة، وليس من غير أبناء الأعمام فقط، ووفق اختيارهنّ ورغباتهنّ الشخصية. وفي حين نشهد تحوّلات في مسائل الزواج والعرض، فإنّ مسألة حرمان النساء من الإرث تبدو ثابتة.

من أيمتى منسأل البنت رأيها؟

يروي أستاذ المدرسة المتقاعد علي شمس لـ”المفكرة” حادثة حصلت أمامه قبل ستّين سنة تصبّ في سياق كيفية تزويج بنت العشيرة يومها. لن نذكر الأسماء لأنّ “أبطال” القصّة ما زالوا أحياء. كان شمس في منزل أحد وجهاء آل حمادة، وكانت كلمتهم مسموعة بين العشائر الحمادية، وإذ بسيّدة مسنّة تصل إلى المنزل وتركض باتّجاه أبو نسيب حمادة، صاحب الدار، وتقول له، بعد أن تضع يدها على خصره، “إيدي بزنّارك يا أبو نسيب”. أبعد الرجل السيّدة عنه قائلاً “هدّي البال يا حُرمة (كما كان العشائر ينادون المرأة) وقولي شو بدّك”. أخبرته السيّدة أنّ ابنها وابن عمّه سيأتيان إليه مع وجهاء الفخذ من أبناء العمومة (أحد تقسيمات العشيرة) ليحكم بينهما ويقرر لمن تستحق العروس التي يتباريان للفوز بها، خصوصاً وأّنها ابنة عمّ الاثنين. برَّد أبو نسيب قلب السيدة: “ما تخافي ما بيصير إلّا لي بدّك ياه”، وأدخلها إلى جناح النساء لتبقى مع زوجته. وفعلاً، يقول علي شمس، ما هي إلّا دقائق حتى دخل دار أبو نسيب ابن السيدة ويدعى حسن وابن عمّه محمد ومعهما لفيف من العمومة وأبناء العمومة. جلس الرجال في صدر الدار وأبلغوا مضيفهم بهدف الزيارة. قال أبو نسيب لمحمد “أخبرني أنت لماذا تستحق أن تفوز بفوزية (اسم مستعار) ابنة عمّك، وليس حسن؟”. شرح محمد مميّزاته وأسبابه وكذلك فعل حسن. فكّر أبو نسيب قليلاً وأصدر حكمه “ستكون فوزية عروس حسن” (وهو ابن السيّدة الموجودة في داره مع النساء). اعترض محمد على الحكم وطلب أن يؤخذ برأي فوزية “خلّينا نسأل فوزية ونقبل كلّنا برأيها”. عندها انتفض أبو نسيب وقال على مسمع الجميع “من أيمتى منسأل البنت يا محمد؟”. وانتهى الاجتماع وتزوّجت فوزية من حسن بعد شهر من تاريخه. والقصة التي توثق لموقع بنت العشيرة في عملية إتمام الزواج، تحمل في طيّاتها أيضاً أحد أعراف التعاطي مع المرأة وإكرام حرمتها، حيث تأثر قرار أبو نسيب بـ”تجوّه” أم حسن عليه حين قصدته في منزله ووضعت يدها على زناّره وطلبت منه الانحياز لابنها، فكان لها ما أرادت.

الحيلة وسيلة للإفلات من أبناء العمّ

لوجيهة علّوه (80 عاماً) تجربة تصبّ في الإطار نفسه رغم أنّها كانت من أوائل بنات العشائر، وربما الأولى، التي تعلّمت وتركت الهرمل إلى زحلة ومن ثمّ طرابلس حتى أنهت دراسة المرحلة الثانوية قبل ستّين عاماً من اليوم. وكانت والدتها، بعد وفاة أبيها، تخطّط لتسفيرها إلى فرنسا، لكنّها اختارت الزواج ولم تكمل تخصّصها الجامعي.

كانت وجيهة تدرس في مدرسة تديرها راهبات في زحلة عندما تم نقل “ريسة” المدرسة إلى طرابلس، فقررت الذهاب معها “ووافق أهلي لأنّهم لم يرفضوا لي طلباً قبلها”. في تلك الفترة تقدّم للزواج بها شاب من عشيرة دندش، كان مسيّساً وينتمي للحزب السوري القومي الاجتماعي و”كان عقله حزبياً متطوّراً”، تقول عنه. عندما طلب يدها ووافقت، قامت قيامة رجال العشيرة، فقصدها أحد أبناء عمومتها إلى طرابلس ليبلغها رفض الأقارب لزواجها: “في رجال كتير بالعشيرة، وما بدنا تطلعي لبرّا”. قال لها محذّراً من أنّ خطوة كهذه قد تتسبّب بـ”إراقة دماء”. أصرّت وجيهة على موقفها بعدما عدّدت له صفات العريس وكلّها “بترفع الراس، مش ناقصه شي” كما قالت. ومع ذلك تشبّث هو بموقفه الرافض أيضاً.

بعدها بأيام، حضر مفلح، أحد أبناء عمومة وجيهة لاصطحابها إلى الهرمل. وكان هذا الأخير مسيّساً ينتمي لأحد الأحزاب التقدّمية وصاحب فكر غير تقليدي وصديق مقرّب من وجيهة. في الطريق إلى الهرمل، طلبت منه وجيهة “خدمة”: “أنا بخبّر أهلي إنّه بدّي إتزوّجك وإنت بترفض، وبتقول هيدي متل أختي”. وهكذا كان. عندما طُرح موضوع زواجها، أبلغتْهم وجيهة أنّها تقبل بالزواج من مفلح. لكنّ مفلح أبلغ العشيرة أنّ مشاعره تجاه وجيهة هي مشاعر أخ لأخته ولا يمكنه الزواج بها، ولتختَر أحداً غيره. وعليه تزوّجت وجيهة من الرجل الذي أرادته طالما أنّ ابن عمّها لم “يقف لها” أي لم يقل أنا أحقّ بها.

“العرض إلك والدم لنا”

جرتْ عادات العشائر أن يمسك الأب يد ابنته ويسلّمها إلى زوجها عند باب الدار بعد انتهاء مراسم الزفاف. وبينما يأخذ العريس بيدها في إشارة إلى تسلّمها من عائلتها، كان الأب يقول له “العرض إلك والدم إلنا”. والكلام يعني: “صحيح أنّها أصبحت زوجتك الآن، ولكنّ دمها لنا”. وفي عبارة “دمها لنا” يُقصد “ممنوع قتلها أوّلاً، وفي حال أخطأت خطيئة كبرى، والمقصود هنا فعلة تتعلّق بـ’الشرف’، “نحن من يحاسبها، أي من يقتلها وليس أنت”. يفسّر البعض عبارة “العرض إلك والدم إلنا” بأنّها تنبيه للزوج لعدم ممارسة العنف مع ابنة العشيرة. ويقول أحد وجهاء العشائر إنّه ليس بإمكان العائلة حماية ابنتها المتزوّجة من العنف الزوجي “بس إنّه ما يقتلها يعني”، فيما يقول آخرون إنّ من يتزوج ابنة عشيرة عليه أن يحسب ألف حساب في حال ضربها أو تعنيفها، وخصوصاً إذا لم يكن ابن عشيرة هو أيضاً، لأنّ التعامل معه يختلف في ظلّ اختلال موازين القوى.

والقصص المتعلّقة بمحاسبة من “تخطئ” من بنات العشائر عديدة انتهت بكثير من الجثث، لا من يسأل ولا من يحاسب ولا من يخبر، بل وسط موافقة الأغلبية وربّما مباركتها، وصمت الجميع. ولكلّ عشيرة أسرارها وقصصها في هذا الخصوص بينما ليس للمرأة أحد في محنة مماثلة. وفي آخر جريمة قتل وقعت في الهرمل قبل نحو خمس سنوات ويُحتمل أن تكون على خلفية “شرف” هي مقتل شاب وفتاة من عشيرتين مختلفتين إحداهما صغيرة (عشيرة المرأة) والثانية كبيرة، والعثور على جثّتيهما في أحد أودية العشائر. وقد طُويَت الجريمة ووضعت في إطار الظروف الغامضة من دون أي تحقيقات رسمية أو عشائرية، ما رجّح فرضية وجود قربى ونسب. وهو ما لم نتمكّن من التأكّد منه كون جميع من سألناهم أصرّوا على وضع ما حصل في إطار من الغموض والمغمغة” (عدم الوضوح) وضرورة عدم الحديث بالموضوع.

ويُروى عن حالات عدّة قتلت فيها نساء بتهمة الزنا مع الاكتفاء بنفي شريكها الرجل لسنوات ليعود بعدها لاستكمال حياته وكأنّ شيئاً لم يكن. وكأنّ العار بمفهومه العشائري هنا لا تتحمّله غير المرأة، بينما ينجو الشريك في حال كان من نسب يُحسب حسابه داخل العشيرة. هذا ما حصل في إحدى العشائر حين أقام رجل بالغ علاقة مع فتاة قاصر وحملتْ منه، فأقدم أخوتها على قتلها برغم صغر سنّها بعدما شاع خبر حملها، فيما تمّ نفي الجاني لسنوات. ومن القصص الأقدم التي يتمّ تداولها في المنطقة، هو أنّه تمّ تثبيت امرأة متّهمة بالزنا داخل شجرة لزّاب وحرقها حيّة مع الشجرة بعد وضع صفيحة بنزين في جذع اللزّابة، فيما تمّ نفي شريكها كونه كان ابن أحد وجهاء العشيرة المعنية. وكانت المرأة متزوّجة من رجل ينتمي إلى عائلة صغيرة من غير العشائر، فقام أهلها بتنفيذ العقوبة بها.

كما قُتلت امرأة في ظروف غامضة قبل قرابة 15 سنة، ويحكى أنّها غادرت منزل العائلة لتعمل في بيروت وكانت تعود دوريّاً لزيارة عائلتها. وقد ارتأى أقاربها بعد سنوات من رحيلها أنّ سلوكيّاتها مشبوهة. وفي إحدى زياراتها، استدرجوها إلى منطقة نائية ولم يرها أحد بعدها. يقال إنّها دُفنت حيّة، ويقال إنّها رُميت من فوق منحدر صخري مهجور لا يمرّ به عابر، وخفّف البعض من وحشية الفعل وقالوا إنّهم قتلوها رمياً بالرصاص ثمّ دفنوها وعادوا أدراجهم.

وفي حال الخطيفة بالتراضي (للزواج) ولجوء الخاطف مع المخطوفة إلى عشيرة ثانية أو إلى منزل أحد وجهاء العشيرة نفسها (وغالباً ما يحصل اللجوء إلى وجيه في عشيرة أخرى) يقوم الوجيه فوراً بعزل الثنائي شرط الحفاظ على عذرية الفتاة ومن ثمّ يسعى لعقد مصالحة بين الخاطف وعائلة المخطوفة ويضمن عدم معاقبتها ويمهّد لعقد زواجها على الخاطف بعد تقديم المهر وقد يُفرَض هنا مضاعفاً. أما في حال حصل الخطف وكانت المرأة متزوّجة ويقال هنا: “خطفها من تحت فخذ زوجها”، فيكون لها حكم الزنا، أي القتل، ولكن حالياً غالباً ما يتمّ حلّ الأمور بالتسويات في حال لم تُعرف الحادثة تجنّباً للملاحقات القانونية بعد إقرار قانون حماية النساء من العنف الأسري وقبلها إلغاء جريمة الشرف.

بشكل عام، تراجع عدد الجرائم على خلفية الشرف. “المهم ما تنكشف القصّة” يقول أحد وجهاء العشائر عمّا يسميه “الكبائر”، أي في حال أخطأت أي فتاة اليوم، قلّة من الناس تقوم بقتلها ولكن شرط ألّا يعرف أحد بما فعلته “عم تتّضبضب القصص، ما عادت الأمور متل ما كانت”.

الأدوار الجندرية داخل العائلة

من الشّائع أنّ العشائر يدلّلون نساءهم من زوجات وبنات وأمّهات تحت سقف الحرّية المسؤولة نفسها. لا تعمل ابنة العشيرة في أرض أبيها إذا كان ميسوراً، بل يوظّف عمّالاً وعاملات لإنجاز أعمال الأسرة الزراعية وحتى المنزلية أحياناً إذا سمحت ظروفه بذلك. في المقابل، تعمل في الأرض النساء والفتيات من غير الميسورين ويساهمن في الإنتاجية مثلهنّ مثل الشبّان مع توزيع نمطيّ للأدوار، حيث يكون حصاد القمح والحشيشة وأعمال تعشيب المزروعات وحلب القطيع والاهتمام بمنتجات الحليب وطبعاً الأعمال المنزلية كافّة من حصّة المرأة فيما يهتمّ الرجل بالحراثة والرعي والتعاقد مع العمّال في حال الحاجة إليهم، وإدارة الأمور.

تعدّد الزوجات والطلاق وحق الحضانة

تراجعت مؤخّراً حالات تعدّد الزوجات بين العشائر بحيث لم يعد الحديث عنها ممكناً كظاهرة عادية وطبيعية، ولكن هذا لا يعني انتهاءها. ونادراً ما ينتهي زواج الرجل من امرأة ثانية إلى طلاق الأولى بخاصّة إذا لم تكن متعلّمة ولديها وظيفة وبالتالي إذا لم تكن تتمتّع باستقلالية مادّية تمكّنها من العيش من دون أن تحتاج إلى دعم أسرتها. ويمكن أن تعيش المرأة المطلّقة في منزل خاصّ بها في حال كان لديها أطفال، أمّا إذا تطلّقت من دون وجود أطفال لأنّ زوجها احتفظ بحضانتهم، أو لأنّها لم تنجب، فإنّها تعود للعيش في كنف أسرتها الأم، إلّا في حال كانت تعمل خارج منطقة عيشهم في بيروت أو زحلة أو أي منطقة أخرى غير مكان إقامتهم.

وتخضع مسألة الحضانة لحكم الشرع إلّا في حالات نادرة تكون فيها عائلة المرأة بنت العشيرة قويّة حتى في حال الزواج من رجل من العشيرة، فيمنع الأب أو الأخوة زوجها من حرمانها من حضانة أولادها كما حصل مع يسرى (40 عاماً) قبل سبع سنوات. انفصلتْ يسرى عن زوجها، ابن عشيرتها بسبب سلوكيّاته. وعندما طلبت الطلاق، حاول ابتزازها عبر حرمانها من حضانة ابنها البالغ ثلاث سنوات يومها، علماً أنّ الطائفة الشيعية تمنح الوالد حقّ حضانته (سن الحضانة للصبي عند الشيعة سنتان ونصف السنة). ولكن والدها بعث له ولعائلته رسالة واضحة مفادها “بنتي بدها تربّي إبنها وممنوع تاخدوه منها”، وهكذا حصل، وتحمّلت المرأة وعائلتها كلفة عيش ابنها ولم يدفع الزوج النفقة لا للطفل ولا لأمّه، ولكنّ السلطة العشائرية هنا كانت أعلى من الشرع وقوانين الأحوال الشخصية لطائفتها.

ويسري الأمر نفسه على ابنة العشيرة العازبة حيث تبقى في منزل الأسرة سواء مع الأهل أو بالقرب من أشقّائها الذكور في حال وفاة الأم والأب، وقد تعيش مستقلّة في حال سافرت للعمل في الخارج أو نزحت للعمل في المدن. وفي حال استقلال بنت العشيرة العازبة خارج منطقة العشيرة، تحكم سلوكيّاتها أعراف العشيرة تحت سقف ما يُجمعون على توصيفه بالحرية المسؤولة.

الإرث

وفي قضايا الإرث، وإلى جانب التمييز في قوانين الإرث الإسلامية ضدّ النساء حيث “للذكر حظّ الأنثيين”، تعاني ابنة العشيرة بشكل أكبر من الأعراف العشائرية التي تقضي بعدم تمليك من هم خارج العشيرة في أراضيها التي تكون ملكيّتها في الغالب محصورة بالعشيرة نفسها عامّة، حتى أنّ ثمة حرصاً على انتقال الملكية داخلياً حتى بين أجباب العشيرة وأفخاذها من دون دخلاء من العشيرة نفسها. ويصل الحرص هنا إلى عدم توريث المرأة حتى لو تزوّجت ابن عمها لأنّ الملكية يجب أن تبقى داخل المنزل للذكور الذين تستمر الذرّية عبرهم وهم من صلب المالك الرئيسي نفسه. وقد يعمد البعض إلى إرضاء المرأة بمنحها المال أو بعض الهدايا من الذهب عند زواجها أو المشاركة في تأثيث منزلها. وغالباً لا يتناسب المبلغ الممنوح لها مع حصّتها وفق الشرع . ولا يطالب السواد الأعظم من النساء بإرثهنّ تجنّباً لإثارة المشاكل مع عائلاتهنّ أو وقوع الجفاء أو انقطاع العلاقة حتى مع أخوتها وأبيها وأحيانا أمّها أيضاً. وقد ينسحب الموقف على البيئة والمحيط الذين يستغربون، لا بل يستنكرون، لجوء المرأة إلى القضاء للاستحصال على حقّها وكأنّها تقوم بفعل شائن عبر مقاضاة عائلتها. وقد تُمنح بنت العشيرة مساحة صغيرة من الأرض لبناء منزل سكني في حال كان زوجها فقيراً غير قادر على شراء أرض، ولكن لا تتخطّى سلطته على الملك ضمن العشيرة حدود الأمتار القليلة التي منّت بها العائلة عليه.

وتقطع المرأة في العشيرة الإرث في حال لم ينجب والدها ذكوراً، وأحياناً يحرص الأعمام على شراء إرثها من والدها لكي لا يشاركهم في ملكية العائلة رجل من خارج العشيرة خصوصاً[1].

النساء والقرارات العشائرية

وكما الإرث، لا ينسحب انخراط المرأة في منظومة الإنتاج داخل العشيرة على مشاركتها في القرار على هذا الصعيد. وهناك حالات نادرة لسيّدات عشائر كان لهنّ موقعهنّ الاقتصادي الجيّد فكانت كلمتهنّ مسموعة على صعيد الجبّ أو الفخذ الذي يؤثر بدوره على القرار العام للعشيرة. ولكن لم نسمع عن امرأة كانت عضواً في مجلس أي عشيرة أو عن مشاركة نساء في اجتماعات الوجهاء والزعماء، أو أنّ امرأة فصلت في قضايا أساسية عالقة بين العشائر.

مشاركة المرأة في الثأر

إقصاء المرأة عن المشاركة في القرار على مستوى العشيرة لا ينسحب على موضوع الثأر بالمستوى نفسه، إذ نجد بعض القصص عن توريط نساء في الأخذ بالثأر أحياناً. قصص غالباً ما تبقى قيد الكتمان، حتى أنّ العشيرة المنافسة لا تعمد إلى الأخذ بالثأر من امرأة في حال علمت بتورّطها بمقتل أحد رجالها إذ لم يجرِ العرف بالثأر من امرأة، حيث يعمد رجالها إلى الثأر من رجل من عائلتها. وعلى سبيل المثال، حصل اشتباك قبل نحو 20 سنة بين 3 رجال من العشيرة نفسها شاع على إثره أنّ ابنة أحدهم هي من قامت بتصفية قاتل أبيها أمام شقيقها القاصر. وبعد سنوات أُخذ الثأر من أخيها الذي كان برفقتها. وبقي الكلام عن قيام ابنة إحدى العشائر بالثأر لمقتل أخيها من أكثر من شخص، طيّ الكتمان أيضاً برغم القصص التي حيكت حول ما فعلته والتي بدت أشبه بالأساطير، وخصوصاً لناحية قسوتها. ويخبرنا تاريخ بعض النساء عن مراحل “طفرت” فيها نساء صرن “مطلوبات للدولة” في جرائم ثأر، وآخرهن العام الماضي حيث ساهمت إحدى النساء في “ديدبة” (استدراج) متّهم في المساهمة بقتل أحد أبناء العشائر، وذلك بهدف قتله، وهي اليوم فارّة من وجه العدالة. والصبيّة ليست ابنة عشيرة وإنّما متزوّجة من رجل من العشائر. وتساهم النساء خلال المعارك بين العشائر في الرّصد، واستكشاف مواقع مقاتلي العشائر المنافسة، وأحياناً في نقل الأسلحة، ولكنّها مساهمة تبقى سرّية ولا يتمّ تداول الحديث بشأنها علانية. والأهمّ، أنّ نساء العشائر: أم وزوجة وأخت يعشن في القلق والخوف على رجالهنّ المطلوبين سواء نتيجة عبء ضرورة أخذهم بالثأر أو قيامهم بالأخذ بالثأر لقريب أو المقصودين منهم بالثأر. حياة هؤلاء من النساء معقّدة ومركّبة وقلقة تمضي كمن يمشي على حدّ السيف.

 

***

فاطمة التي تعلّم التربية الوطنية في الهرمل:  

“رح بخبّركم كيف لازم تكون الأمور، بس الواقع مختلف”

تميّز فاطمة جعفر، ابنة جرد عشيرة جعفر، وتحديداً منطقة الميدان في وادي فيسان، ابنة العشيرة عن ابنة المدينة بظروفها الصعبة التي تجعل العلم ليس بسهولة تعليم الفتاة التي تسكن بالقرب من المدرسة ولاحقاً الجامعة. تقول فاطمة: “في أوقات كتير بنات ما بيتعلّمو لأنّه المدارس بعيدة عن الجرود”، حيث كان معظم العشائر يعيشون، “وليس لأنّ الأهل لا يريدون ذلك”. هنا تحكم الظروف، وليس واقع أنّ هذه الفتاة ابنة عشيرة أم لا “إجمالاً كانت مناطق العشائر بعيدة عن المدارس وخصوصاً التكميلي والثانوي وطبعاً الجامعات، عشان هيك ما كان يطلع للكلّ يتعلّمو، صبيان وبنات”. وترغب فاطمة أن تقارب بنت العشيرة من موقع ظروفها والبيئة التي تعيش فيها وعلاقتها بالدولة “الغائبة عنا”، كما تقول.

كبرت فاطمة في منزل “معلّق بالدولة” كون والدها كان دركياً: “شربنا الدولة مع الرضاعة، وكنّا نفهم الدولة غير هلّق مع إنّه كانت الحرب الأهلية قائمة”. كانت فاطمة ترى الدولة “عسكري محترم ببدلة مرتّبة حلوة، وأغنية بيي راح مع العسكر”، وكانت تفكّر “هيدي دولة لبنان”. ومع أنّه دركي وبراتب محدود، حرص والد فاطمة على تعليمها وأخوتها في مدارس الهرمل، وهناك تعرّفت إلى “مفهوم الدولة الوطن والأم الحاضنة اللي ما كنّا نشوفها حتى ع التلفزيون، لأنّه ما كان يجي عنّا إلّا التلفزيون السوري”. ولم ترَ فاطمة الدولة على الأرض “كنت فتّش عليها وما لاقيها، وكنا نحترم الدولة من خلال أبي وبدلته وهو عنصر محترم وعصامي ونزيه وما بيعرف الرشوة، وكنّا نفكر إنّه الدولة بتشبهه”.

عندما أنهت تعليمها الثانوي في الهرمل، قال لها والدها “بدّك تروحي تتخصّصي بزحلة يا بابا، ما بقدر إبعتك ع بيروت”. وهكذا كان وتسجّلت في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية. “ياخدني من الوادي الصبح ع الهرمل ومن هونيك روح بالفان ع زحلة”. لم تكن فاطمة تعود قبل الثامنة مساء من جامعتها “كان البابا يجي من الميدان وياخدني ع الضيعة كلّ يوم، ما يتعب ولا يكلّ، كان مبسوط إنّه عم يعلّمنا”. ومع كلّ سنة جامعية تمرّ، كانت فاطمة تقترب من حلمها “كان حلمي أعمل محامية وفوت ع القضاء وحقق العدالة”. ولدى تخرّجها “تعذبت كتير حتى لقيت مكتب محاماة اتدرّج فيه، مع إنّي كنت الأولى ع دفعتي بالجامعة”. عندما وجدت مكتب محاماة في بيروت للتدرّج، سلّمها ملفّات البقاع “وشفت البلاوي”، تقول لـ”المفكرة”. وخلال سنة ونصف من التدرج “شفت كلّ الفساد بالقضاء”، ولذا هي متيقّنة اليوم “أنّه ما في عدالة بلا قضاء مستقلّ، وما في حتى سلطة تشريعية أو تنفيذية بلا قضاء مستقلّ”. طوال عام ونصف، لم ترَ المحامية فاطمة جعفر سوى “الوسايط والرشاوى”، ولأنّها مبدئية “متل ما ربّاني البابا”، قرّرت ترك المحاماة، وقدّمت على مجلس الخدمة المدنية لتتوظف في التعليم، واحتلّت المركز الأول في المباراة وصارت معلمة تربية وطنية ومدنية. وهنا “إجتني مصيبة كبرى”. يصوّر منهج التربية الوطنية الدولة “دولة القانون والسلطات والمؤسّسات ودولة العدالة”. وهنا وقعت فاطمة في مأزق أن تعلّم تلامذتها شيئاً بينما الواقع شيء آخر: “كيف دولة العدالة والمؤسسات وما في لا عدالة ولا مؤسسات؟”. ولذا وصلت إلى حلّ لتتصالح مع نفسها وصارت تستهلّ صفوفها كلّ عام بعبارة: “مادة التربية بتخبّركم كيف لازم تكون الأمور، بس الواقع مختلف ولازم إنتو تشتغلوا حتى تصير الدولة متل ما هي بالكتاب”. تضحك فاطمة وهي تعطي أمثلة عن الواقع المكرّس في رأس تلامذتها بينما هي تحدثهم عن عالم مختلف “حسب الكتاب كلّ واحد بتوصلو حقوقه وبيؤدي واجباته، بمنطقتنا ما في شي واصلهم من حقوقهم”. عندما تحدثهم عن الضريبة وموجباتها: “بيعتبروا إنّه شطارة يهربوا من الضريبة”. أما حين تقول لهم إنّ تهريب البضائع سيّئ ومخالف للقانون “بيقولولي التهريب أحلى شغلة وبيطلّع مصاري ومنصير أغنيا”. حتى أنّ هناك تلامذة “حلمهم يصيروا مهربين”. وهنا تبذل فاطمة جهداً مضاعفاً “حتى فهمهم القيم لي بالكتب بس برجع بصطدم بالواقع”. فغالباً ما يقول لها تلامذتها: “ما بدّك نشتغل بالتهريب ولا بالحشيشة، وما في حقوق ووظايف عنّا، يعني بدك نسرق؟”. عندها تضطر أن تقول لهم: “إذا وللبدّ، التهريب أحلى من المخدّرات والسرقة”. أما حين تحدثهم عن الانتظام ضمن الدولة “وإنّه سياراتنا لازم تكون مسجّلة مثلاً، بيضحكوا عليي وبيخبروني إنّه معظم السيارات من حولهم مش شرعية”. وأكثر ما يُشعر فاطمة بالعجز عندما تعلّم تلامذتها أنّ الدولة هي دولة القانون والعدالة والمساواة والعدالة الاجتماعية ودولة الفصل بين السلطات وتكافؤ الفرص في تولّي الوظائف العامّة “طيب وين بدّي دلّهم عليهم هودي؟ من وين بجيب أمثلة؟” 

 

***

أم فوزو التاجرة

دفع والد خبصة فوق مهرها ما يساوي قيمته واشترى لها عقداً ذهبياً “من الكتف إلى الكتف” مشكوكاً بخمس مخمّسيات من الذهب، والمخمّسية هي خمس ليرات ذهبية مجتمعة، وبين كلّ مخمّسية وأختها كان هناك خمس ليرات ذهبية “كل ليرة حد التانية” كما تصف النسوة عقد خبصة الفريد في أيامه، إلى أن وصلت قيمة العقد إلى خمسين ليرة ذهبية. كانت نساء ذلك الزمن وكلّما أرادت الواحدة منهنّ أن تتزيّن بشيء ثمين، يقصدن خبصة لاستعارة عقدها.

عندما تزوّجت خبصة، حسن حيدر، وكان أحد زعماء عائلته ولكنّه مزارع يعتاش من أرضه وماشية يربّيها، قرّرت بعقلها التجاري أن تستثمر من ذهبها لا أن تتزيّن به فقط. وعليه بدأت بقطع ليرة ذهبية وراء الثانية لتشتري فيها ماشية وتضعها مع أحد المزارعين بـ”الشركة” أي أن يأخذ حصّة منها لقاء رعايتها والاهتمام بها. كانت تقصد سوق الخيّاطين في بيروت وتشتري الحرير والجوخ وتخيط فساتين نسائية “كانت تحمّي كبجة (أي مغرفة) النحاس على النار وتكوي بها الثياب، حيث لم يكن يوجد مكواة في حينها، وتضعها في المحلات وتبيعها”، تخبر عنها ابنتها وجيهة. وكانت “تروح مع الجمالة ع جب الجراد” على الحدود مع سوريا تشتري الذرة وتبادله مع المزارعين ريثما يحصدون القمح، وكان القمح أغلى من الذرة، وتستردّها قمحاً وتحقّق أرباحاً. كانت المرأة الوحيدة التي ترافق الجمّالة إلى الحدود السورية. يخبر الأستاذ علي شمس عن أم فوزو، خبصة، كيف كانت تُعدُّ من وجهاء عشيرتها، وكان يراها باستمرار كونه أستاذ بناتها “لمّن تطلّع جزدانها نرى آلاف الليرات بينما كان الغنيّ بالعشيرة معه شي 500 ليرة”. وعندما تحصل وفاة في العائلة كانت أم فوزو تدفع كما الرجال تماماً، كما كان اسمها يتصدّر لائحة دافعي الدّية عندما تلتزم العشيرة بها في حال جرت مصالحة على ثأر ما أو حادثة قتل ما، كما تجري العادات أن تُجمع الدّية على مبدأ “قرش داير على رجال العشيرة”. 

نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل

  1. بحسب النصوص الشرعية، البنت الشيعية تقطع الإرث، أي أنّها ترث كلّ أملاك والدها في حال لم يكن لديه ذكور، بينما لا تقطع البنت السنّية الإرث لأنّ أعمامها وأولاد أعمامها يرثون معها في حال عدم وجود شقيق لها.
انشر المقال

متوفر من خلال:

جندر ، مجلة ، مجلة لبنان ، لبنان ، جندر وحقوق المرأة والحقوق الجنسانية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني