انعقاد حكومة تصريف الأعمال: صراع سياسي بلبوس دستوري


2022-12-06    |   

انعقاد حكومة تصريف الأعمال: صراع سياسي بلبوس دستوري

انعقد أمس مجلس الوزراء بدعوة من رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي وسط مقاطعة من وزراء التيار الوطني الحرّ بحجة تعارضه مع الميثاقية وعدم جواز انعقاد حكومة تصريف أعمال في ظل شغور رئاسة الجمهورية. وقد انحصر جدول أعمالها ب 25 بندا فقط علما أن أول جدول وزّع على الوزراء في 2 كانون الأول كان يتضمن 65 بندا وقد عمد رئيس الحكومة إلى تعديله بحيث يقتصر على المواضيع الطارئة لا سيما تلك المتعلقة بالشؤون الصحية وشراء أدوية الأمراض المستعصية والمزمنة والسرطانية.

وقد أثارت هذه الدعوة فور الإعلان عنها موجة من الانتقادات التي اتّخذت شكل الحجج الدستورية التي تعتبر أن حكومة تصريف الأعمال لا يحقّ لها الانعقاد بينما الخلفية الحقيقية لتلك المواقف هو التحريض الطائفي بحيث يتم تصوير الأمر وكأنه اعتداء على “المسيحيين” من قبل رئيس الحكومة “السني” الذي يقوم بالسطو على صلاحيات رئيس الجمهورية في ظل الشغور الرئاسي. وقد تجلّى ذلك بشكل واضح في البيان الذي أصدره رئيس الجمهورية السابق ميشال عون الذي اعتبر فيه أن “مـيـقـاتـي كـشـف عــن الأســبــاب الـحـقـيـقـيـة الـتـي جـعـلـتـه يـمـتـنـع عـن تـألـيـف الـحـكـومـة، وهــي محاولة الاستئثار بالـسـلـطـة وفرض إرادته على اللبنانيين خلافا لأحكام الدستور والأعراف والميثاقية”.

ولا شك أن مقاربة الموضوع من الناحية الدستورية هو أمر مشروع لا سيما وأنها المرة الأولى في لبنان التي تنتقل فيها صلاحيات رئيس الجمهورية إلى حكومة مستقيلة ما يجعل الإشكالية الدستورية حاضرة حكما في كل نقاش موضوعي، علما أن هذه الملاحظة تحتاج إلى شيء من التصويب كون لبنان عرف قبل 1990 حكومات مشكّلة حديثا انتقلت إليها صلاحيات رئيس الجمهورية من دون حصولها على ثقة مجلس النواب كحكومة فؤاد شهاب التي اجتمعت وممارسة صلاحيات رئيس الجمهورية بعد استقالة الرئيس بشارة الخوري في 18 أيلول 1952، وكذلك حكومة العماد ميشال عون التي اجتمعت ومارست صلاحيات رئيس الجمهورية بعد انتهاء ولاية رئيس الجمهورية أمين الجميل في 22 أيلول 1988.

فهذه الحكومات لم تمثل أمام مجلس النواب ولم تنلْ ثقته، أي أنها كانت تقوم بتصريف الأعمال، حتى لو لم يكن يوجد في الدستور قبل تعديله سنة 1990 نصّ يشير إلى ذلك، وهي بالتالي تكون شبيهة بحكومة الرئيس ميقاتي الحالية لا بل يمكن حتى القول من الناحية الدستورية أن حكومة ميقاتي، على الرغم من تعطيل مسؤوليتها السياسية أمام مجلس النواب بسبب استقالتها، تظل تتمتع بشرعية دستورية تفوق تلك التي كانت تتمتع بها حكومة فؤاد شهاب أو ميشال عون كونها مثلت أمام مجلس النواب وحصلت على ثقته وهي أصبحت مستقيلة بسبب بدء ولاية مجلس النواب الجديد بينما حكومات شهاب وعون لم تنلْ أصلا ثقة مجلس النواب وكان سندها الدستوري الوحيد مرسوم تعيينها من قبل رئيس الجمهورية.

لا بل أكثر من ذلك، بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل وانقسام البلاد بين حكومتي العماد ميشال عون والرئيس سليم الحص ودون الدخول في الجدل حول دستورية حكومة هذا الأخير، لا بد من التّذكير أن حكومة الرئيس الحص التي كانت مستقيلة حينها ومكلفة بتصريف الأعمال قامت ليس فقط بالاجتماع في جلسات لمجلس الوزراء بل أصدرت مجموعة من القوانين بتاريخ 5/1/1989.

وكانت المفكرة القانونية قد نشرت ورقة بحثية عالجت فيها بإسهاب إشكالية انعقاد مجلس الوزراء في ظلّ حكومة مستقيلة ذكرت فيها ليس فقط قرارات القضاء الإداري التي تجيز هذا الأمر لكن أيضا السوابق ومن بينها اجتماع حكومة نجيب ميقاتي الثانية المستقيلة في 27 أيار 2013 لتعيين هيئة الإشراف على الانتخابات وإقرار سلفة خزينة لوزارة الداخلية. وقد بينت الورقة البحثية أن معيار تصريف الأعمال ليس اجتماع مجلس الوزراء بل مضمون القرار المنوي اتخاذه وبالتالي قد تجتمع الحكومة المستقيلة، لا بل من واجبها الاجتماع دوريا، ليس فقط من أجل تدارك الظروف الطارئة لكن أيضا من أجل البتّ بالمواضيع العادية التي تدخل في خانة تصريف الأعمال والتي يفرض القانون ضرورة اتخاذها بعد موافقة مجلس الوزراء.

وما يفاقم من حراجة الوضع الراهن هو تعطل ما يعرف ب “الموافقة الاستثنائية” التي تم اعتمادها منذ سنة 2013 إذ كان يتم الاستعاضة عن ضرورة اجتماع مجلس الوزراء بموافقة صادرة عن رئيسي الجمهورية والحكومة. وكان الرئيس نجيب ميقاتي قد أصدر في 21/5/2022 التعميم رقم 17 الذي أعاد العمل بآلية الموافقات الاستثنائية كون حكومته أصبحت بحكم المستقيلة وبالفعل صدرت مجموعة من المراسيم استنادا إلى تلك الموافقات بسبب تعذر انعقاد مجلس الوزراء نتيجة الصراع السياسي المحتدم بين أركان السلطة الحاكمة في لبنان.

وقد تناولت الورقة البحثية المذكورة أعلاه هذه الظاهرة وعالجتها من مختلف جوانبها مبينة أنها آلية لا سند دستوري لها وأن الحل السليم الذي كان يجب تبنيه هو اجتماع الحكومة المستقيلة لتصريف الأعمال وليس اعتماد الموافقات الاستثنائية التي تعتبر بدعة قانونية بحيث يتم تهميش مجلس الوزراء كمؤسسة دستورية كي يحل محله التوافق السياسي بين رئيسي الجمهورية والحكومة.

لكن حتى هذه الآلية المخالفة للدستور أصبحت معطلة اليوم بسبب خلو سدة الرئاسة إذ لا وجود لرئيس للجمهورية كي يصدر بالاتفاق مع رئيس الحكومة هذه الموافقات الاستثنائية، ما يعني أن المراسيم التي يصدرها عادة رئيس الجمهورية بعد موافقة مجلس الوزراء والتي أمكن إصدارها من دون موافقة هذا الأخير بسبب عدم انعقاده عملا بآلية الموافقات الاستثنائية، لا يمكن اليوم إصدارها بأي شكل من الأشكال إلا في حال اجتمع مجلس الوزراء وأقرها بوصفه السلطة التي تمارس صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة عملا بالمادة 62 من الدستور.

فخلو سدّة الرئاسة وتعطّل آلية الموافقات الاستثنائية وعدم انعقاد الحكومة يعني أن لبنان بات يشهد على فراغ شبه تامّ في السلطة التنفيذية وما يرافق ذلك من تعطيل إضافي لمؤسسات الدولة وتهديد مصالح المجتمع الحيوية لا سيما في ظل الانهيار الشامل الذي يزداد حدّة يوما بعد يوم.

وهنا لا بدّ من التشديد على ازدواجية رئيس الجمهورية السابق وفريقه السياسي إذ يتمّ رفض اجتماع الحكومة المستقيلة اليوم بحجة مخالفة الدستور، بينما الموافقات الاستثنائية التي هيمنت تقريبا على نصف عهد الرئيس ميشال عون هي التي تعتبر مخالفة دستورية لا لبس فيها. ولم يقم الرئيس عون فقط بإصدار المئات من تلك الموافقات الاستثنائية لكنه أيضا قام بذلك بطريقة استنسابية فندتها الورقة البحثية.

كذلك لا بد من التذكير أن الرئيس السابق كان قد طالب أكثر من مرة رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب بالدعوة لعقد جلسة لمجلس الوزراء، أي أنه لم يعتبر حينها أن اجتماع الحكومة المستقيلة هو بحد ذاته مخالف للدستور، بينما المستجد اليوم هو اعتبار أن الحكومة المستقيلة لا يمكن لها الاجتماع ليس فقط لأنها تصرف الأعمال، لكن أيضا كون ذلك يخالف “الميثاقية” وفقا للفهم الذي يتبناه الفريق السياسي التابع للرئيس ميشال عون.

وقد تبنى الجميع لعبة الميثاقية هذه نظرا لما تشكله من سلاح خطير يخدم مختلف الزعماء إذ تؤدي إلى “تطييف” صلاحيات المرجعيات الدستورية التي بدل أن تستخدم سلطتها لحماية الصالح العام وتأمين العمل المنتظم والطبيعي للمرافق العامة تعمد إلى تعطيل المؤسسات الرسمية بحجة حقها الطائفي المطلق باستخدام تلك الصلاحيات كيفما تشاء. وقد ظهر ذلك جليا أيضا في امتناع رؤساء الحكومة أكثر من مرة عن دعوة مجلس الوزراء للإنعقاد إما مراعاة لزعيم طائفي قرر تجميد مشاركته في جلسات الحكومة كما حصل في الخلاف الذي اندلع بسبب قضية القاضي بيطار، أو من أجل السماح للرئيس المكلف بامتلاك ورقة ضغط على رئيس الجمهورية كما حصل عندما رفض حسان دياب أكثر من مرة عقد جلسة للحكومة من أجل تحسين الشروط التفاوضية للرئيس المكلف حينها سعد الحريري في وجه الرئيس عون.  

ومن تجليّات إيديولوجيا الميثاقية هو اشتراط اتخاذ القرارات بالإجماع أو بحضور كل المكوّنات السياسية التي يتألف منه مجلس الوزراء. فهذا الشرط لا وجود دستوري له لكن أركان النظام الحاكم باتوا يتوافقون على آليات ترعى تقاسم السلطة وتحافظ على التوازن السياسي بينهم. فهذه الآليات باتت اليوم الدستور الفعلي في لبنان بينما الدستور القانوني هو فقط أداة يمكن التلاعب بها وتفسيرها وفقا لمتطلبات الدستور الفعلي.

فقد أعلن مجلس شورى الدولة مثلا أن المادة 65 من الدستور بعد تعديلها سنة 1990 قد حددت “النصاب القانوني لانعقاد مجلس الوزراء بأكثرية ثلثي أعضائه ولم تفرض ولا يمكن أن تفرض وجود جميع أعضاء الحكومة المحدد في مرسوم تشكيلها لقانونية اجتماع مجلس الوزراء خوفا من شل حسن سير مرفق الحكومة وعرقلة بالتالي العمل الحكومي الحيوي لشؤون الدولة برمته” (قرار رقم 850 تاريخ 10/7/1995).

فاشتراط حضور جميع الوزراء أو توقيع المراسيم من قبل جميع الوزراء هو مطلب سياسي لا علاقة له بالدستور، وهدفه الحقيقي منح كل أركان نظام الزعماء القدرة على الابتزاز السياسي عبر ممارسة لعبة التعطيل المتبادل من أجل الحفاظ على المصالح السلطوية لكل زعيم وحماية حصته في الدولة وما تبقى من ثرواتها.      

وهكذا يتبين لنا أن استخدام مفهوم الميثاقية التي لا سند دستوري لها لا يعدو كونه ذريعة من أجل تبرير مصالح سياسية عبر التحريض الطائفي وتاليا مجرّد وسيلة يتناوب الزعماء على استخدامها لتبرير مصالحهم الفئوية نظرا لما تشكله لهم من غطاء فعّال يمنحهم شرعية طائفية تعوض عن فقدان الشرعية الوظيفية وتسمو على الدستور والقوانين. فبين التضحية بمصالحها أو التضحية بالمجتمع (انعقاد مجلس الوزراء في هذه الحالة)، لا تجد القوى السياسية حرجا في التخلّي عن المجتمع في موازاة استخدام الحجّة الطائفية كونها الوحيدة والأسهل التي تسمح لها بتبرير موقفها أمام بيئتها وإخفاء مصالحهم الحقيقية. فكما قال الكاتب البريطاني سامويل جونسون (1709-1784) في جملته الشهيرة أن “الخطاب القومي هو الملاذ الأخير للأوغاد”[1] كذلك يمكن لنا القول أن الميثاقية أو التحريض الطائفي هما الملاذ الأخير لكل الذين يغلبون مصالحهم على المصلحة العامة.


[1] Patriotism is the Last Refuge of the Scoundrel
انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني