انتبه حاجز أمني جديد… يُمنَع الوقوف في شارع الثورة وفي يومها


2022-01-14    |   

انتبه حاجز أمني جديد…  يُمنَع الوقوف في شارع الثورة وفي يومها

التهمتْ الحواجز الأمنيّة نصف الشارع أو أكثر وفاقت حركة تَراكم المتاريس والأسلاك الشائكة نسق التاريخ والأفكار في المدينة. وبدأ يسود اعتقاد جَمعي غامض بأنّ شارع الحبيب بورقيبة يَشهد كل صباح ميلاد متراس أمني جديد، تَزرعه أجهزة الأمن والدفاع بعناية، مُعلنةً افتكاك أمتار ومساحات جديدة. إنّها معركة أمنية وسياسية على الأرض والفضاء العام، مُخطّط لها بدقة داخل شارع لم يَغتسل بعد من “غوايته الثورية” وما زال يُجسّد لعنة المدينة وشريانها الحيوي. صار الشارع شبيها بثكنة أمنية كبيرة، يُسمَح للمدنيّين بالتجوّل في أرجائها والتقاط صور للذكرى وربما الإدلاء بتصريحات لبرامج الميديا الاجتماعية.

دفعَتْ بعض الأنهج الفرعيّة أيضا ضريبة مجاورتها لمبنى وزارة الداخلية، فتمّ إغلاقها منذ سنوات وأسقِطت من خارطة المدينة على غرار شارع “الحسين بوزيان”. وبعض المقاهي المُجاورة للقلعة الأمنية فقدت زبائنها وملامحها القديمة واستكانتْ إلى عُزلتها، وتلُوح محاصرة بالحواجز الأمنية وإشارات منع التوقف من كل الجهات. عندما ترتفع درجات الحرارة السياسية والاجتماعية، يُغلق شارع بورقيبة بقرار سياسي، ويُصبح ساحة اشتباك ضارية بين المتظاهرين وقوات البوليس. بعد 25 جويلية، تمدّدت منظومة الحواجز الأمنية لتُطوّق ساحة المسرح البلدي وتُسيّج الساحة المحيطة بتمثال عبد الرحمن ابن خلدون الذي تَحرسه المدرّعات العسكرية. مؤرّخ المدينة وفيلسوفها صار مُطوّقا بالحواجز، وبات يَصدُق فيه أكثر من أي وقت مضى قول الشاعر التونسي محمّد الصغير أولاد أحمد: “يا ابن خلدون المدينة أضيقُ من خطاك”.

عندما ارتجّت “قلعة الخوف”

في شتاء 2011 البارد بالتحديد، كان شارع اللقاءات الزّجاجية العابرة والمُراقب بدقّة أمنيّة مُحكمة، يستعدّ لاستقبال لحظة استثنائيّة ستجعله جزءًا من المشهدية العالمية وستُدرجه في التاريخ الانتفاضي للبلد. في 26 جانفي 1978 حالت قوات القمع النظامي دون الوصول إلى شارع بورقيبة وقَنصت الكثير من المتظاهرين العزّل في الشوارع والساحات المجاورة. ولكن في 14 جانفي 2011، أفلحتْ الكتلة الجماهيرية الغاضبة -التي لم يُرضِها خطاب العشر دقائق الأخيرة للدكتاتور- في إزالة الأسلاك الشائكة والحواجز الأمنية واقتحام شارع الحبيب بورقيبة من كل المداخل المؤدية إليه.      

كان الدّرس الشعبي الكبير -الذي يُراد تغيبيه باستمرار- أنّ القلعة الرماديّة المُهابة بالإمكان الوصول إليها. ولا يمكنها الصمود كثيرا أمام وحدة الغاضبين وإصرارهم. للمرّة الأولى في تاريخ البلد، يتجمهر الآلاف أمام مبنى وزارة الداخلية. بدورها استوعبتْ المنظومة الأمنية –حتى بعد رحيل بن علي- حجم الرّجة وآثارها المستقبلية. فسعَتْ إلى تحصين مبنى وزارة الداخلية والأنهج المحيطة به بالمتاريس والحواجز الأمنيّة، فاحتلّت بذلك شيئًا فشيئًا نصف الشارع تقريبا. 

جسّدت زمنيّة 14 جانفي لحظة ذروة التقتْ فيها معاني ودلالات عدّة. ولئن كانت الثورة “مُحادثة مجتمعية كبرى” على حد تعبير فؤاد خليل، فإن الشّارع في تلك اللحظة كان فصلا جامعًا، توحّد فيه الهامش بالمركز عنوة ودون تنسيق قَبْلي، وتنادتْ إليه كتلة اجتماعية متنوعة (أصحاب مهن حرة، موظفون، تجار، طلبة، معطلون عن العمل، باعة متجولون، صعاليك المدينة…). شكّلت إرادة امتلاك الشارع القَفَا الموضوعي لإرادة استرجاع الحقوق الشعبية المسلوبة؛ كرامة الناس وحريتهم وحقهم الإنساني في المساواة. ويلوح هذا العنصر الأكثر إرباكا في القصة من وجهة نظر منظومة القمع، لأن تحرير الشارع من رقابتها وسيطرتها يُساوي ضياع سلطتها التي تتغذّى من الرقابة والمنع. 

إعادة امتلاك الشارع… إعادة امتلاك السلطة   

في الأشهر الأولى من عام 2011، تَحوّلَ شارع الحبيب بورقيبة إلى ساحة للنقاش العام، أغورا-Agora في نسخة تونسية صاخبة ومازحة. وأصبح وجهة للباعة المتجولين والأكلات الشعبية وفن الشارع (الغرافيتي). صنعت الجماهير الحضَرية المهمّشة كرنَفالها الثوري في لحظة هشاشة سلطوية لن تطول. كان المشهد عموما مُخزيا بالنسبة لإدارة أمنية فولاذية جُبِلت على “الحملات الأمنية” و”مراقبة الهويات والوثائق”.  

يشير الفيلسوف والمعماري الفرنسي بول فيريليو إلى أنّ الوظيفة الجوهريّة للأنظمة الشموليّة تتمثّل في “إدارة نظام حركة المرور السياسية”. وقد يتلاءم هذا الوصف مع منظومة القمع الأمني في تونس، التي تطلّعت إلى اللحظة الثورية بوصفها حركة انفلات مروريّ تستدعي إعادة ترتيب وتنشيط جديد لآليات الرقابة والحصار. لذلك طُرِد آخر بائع متجول من شارع بورقيبة قبل أن يأتي صيف 2011 وأخذت الحواجز الأمنية في التكاثر مثل الفطريات، كما بدأت سيارات الشرطة والنقاط الأمنية تسطو على المكان. وقد كان الخطاب السياسي المُهيمن منذ 2011 يبرّر هذه الهندسة الأمنية المُغلقة “بمكافحة الإرهاب”. ولكن الواقع أعطى حقيقة مغايرة تشير إلى تعايش “المنع” و”الإرهاب” داخل شارع الحبيب بورقيبة، أبرزها تفجيرين انتحاريين سنتي 2018 و2019. عموما لم تَحُل الحواجز الأمنية دون الأحزمة الناسفة، ولكنها ساهمت في السيطرة على المظاهرات وقمع الحركات الاحتجاجية.

تجددت آلة المنع والسيطرة على شارع الحبيب بورقيبة منذ انتخابات أكتوبر 2011. استأنفت حكومات ما بعد الثورة محاولات استعادة السيطرة على الشارع كلما سنحت لها الفرصة. إذ قمعتْ حكومة حمادي الجبالي (حكومة حركة النهضة وحلفائها) مسيرات 07 و09 أفريل 2012 على نحو لا تبرّره سوى إرادة المصادرة. وواصلت حكومات ما بعد 2014، التي أنتجها صعود حزب نداء تونس إلى الحكم، قمع بعض التجمعات السلمية التي نظمتها حملة “مانيش مسامح” المناهضة لقانون المصالحة المالية والاقتصادية. وعمدتْ أيضا حكومة هشام المشيشي في جانفي الفارط إلى قمع الاحتجاجات الشبابية في شارع بورقيبة وملاحقة العديد من النشطاء. وتُعوّل سلطة ما بعد 25 جويلية على غلق الشارع وتضييق الوصول إليه من خلال الاستعراضات الأمنيّة المبالغ فيها. فبعد أيام من استيلاء الرئيس سعيد على كل السلطات، تعرّض نشطاء وصحفيون لاعتداءات أمنية في شارع الحبيب بورقيبة رغم أعدادهم القليلة. لقد تلازمتْ إرادة إحكام السيطرة على السلطة مع إرادة الهيمنة على الشارع، وتحييده عن الصراع السياسي.    

يشكل الشارع مصدر ارتياب للأنظمة والحكومات. لأن لحظة 14 جانفي أسقطت الرّهاب الشعبي من “قلعة الخوف”. وأثبتتْ أنّ الشارع الذي ينتصب فيه مبنى وزارة الداخلية قابل للاختراق الجماهيري عندما يحتشد الغضب والوحدة وعدالة المطلب. وبالتالي تفصح الإدارة الأمنية للشارع عن رغبة سياسية مستمرّة في بسط السلطة وإثباتها بقوّة المنع والغلق، ضمن هندسة أمنيّة رقابيّة للفضاء المديني وعبر سلسلة من الإجراءات الأمنية الروتينة مثل حملات تفتيش المارة وتعطيل حركة المرور في الكثير من أجزاء الشارع، أو منع الدخول إليه بشكل كليّ في بعض الأحيان.

الشارع بوصفه إحالة على صراع الرمزيات

يسعى المنتصرون دائما إلى إحلال رموزهم في المكان، حتى تَتَساوق الهيمنة المادية مع هيمنة رمزية وثقافية أكثر اتصالا بالوجدان والذاكرة. يُحيل اسم شارع “الحبيب بورقيبة” في حدّ ذاته على انتصار وهيمنة رمزية مَا، ارتبطت بشخصية أوّل رئيس للجمهورية بعد الاستقلال، كان يَعتبر الوطن امتدادا لمجده ومعركته الذاتية. فتماهتْ بذلك صورة الزعيم مع المكان وذاب المكان داخلها. وإلى اليوم ما زالت الذاكرة تحتفظ باسم “شارع الحبيب بورقيبة” رغم المزاحمة التي أبدتها الأسماء التي تم إطلاقها رسميا على الساحة الكبيرة المطلة على الشارع؛ “ساحة 07 نوفمبر” في عهد نظام بن علي و”ساحة 14 جانفي” بعد ثورة 2011. حتى اسم “شارع الثورة” الذي ردّدته الكثير من النخب الإعلامية والسياسية لم يلقَ رواجا في معجم التداول اليومي. 

في سياق الصراع الرمزي على الشارع، أفلح آخر الحكاّم البورقيبيين، الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، في إعادة تمثال الرئيس الحبيب بورقيبة ممتطيا حصانه إلى الشارع سنة 2016. لقد شكّلت استعادة الرمزية البورقيبية بعد 2011 جزءًا من الصراع على السلطة، وأداة تعبئة إيديولوجية ضد مشروع إيديولوجيّ منافس يُمثّله الإسلاميّون. وتسعى السلطة الحالية إلى إسقاط لحظة 14 جانفي من الذاكرة الجماعية، بوصفها زمنية ثورية “زائفة”. لذلك أصدر الرئيس سعيد مرسوما ألغى بموجبه 14 جانفي كعيد وطني للثورة، وعوّضه بـ17 ديسمبر. وتتقاطع هذه الرؤية السرديّة للثورة مع رواية المنظومة القديمة، التي تنظر لـ 14 جانفي كزمنية “غير أصيلة” جرى الإعداد لها من قبل مخابرات أجنبية ووسائل إعلام خارجية نافذة. 

وفي الأثناء، هناك آثار خُطى حقيقية احتضنها شارع الثورة في 14 جانفي2011، تسعى كل السلطات إلى سحقها وتغييبها. هناك “محادثة مجتمعية كبرى” جمعتْ فئات اجتماعية وأجيالا مختلفة، ما زالت تحتفظ بانتصارها الصغير وخيبتها العريضة. وأمام التراجع الرمزيّ والسياسي الكبير لكلّ الحالمين بالتغيير، هيمنتْ لغة الحواجز الأمنية وأعادت فرض شروطها المرورية على المحكومين. ولكنّها لا تمتلك دائما حصانة أبدية. فكلما قويت حركة الاحتلال الشعبي للشارع، كلّما سقطت الحواجز والمتاريس.     

لقراءة هذه المقالة باللغة الانجليزية


 1 محمد الكحلاوي. معركة 26 جانفي 1978: الأسباب والوقائع- الخلفيات والنتائج، ط1، تونس: منشورات نقابية،2011، ص: 106. 

2  فؤاد خليل. الثورة مُحادثة مجتمعية كبرى (ضمن مؤلف جماعي: ثورات قلقة، مقاربات سوسيو-استراتيجية للحراك العربي) ط1، بيروت: مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، 2012، ص: 75.  

3  بول فيريليو. السرعة والسياسة: من ثورة الشارع إلى الحق في الدولة (ترجمة محمد الرحموني) ط1، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2017، ص: 33. 

                     

انشر المقال

متوفر من خلال:

تونس ، حريات ، حراكات اجتماعية ، أجهزة أمنية ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، حرية التعبير ، حرية التنقل ، حرية التجمّع والتنظيم ، أملاك عامة ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني