اليسار حيث لا تنظر أو “حملات” اليسار القادم


2023-05-18    |   

اليسار حيث لا تنظر أو “حملات” اليسار القادم

قد نفاجئ البعض ونحن نتناول اليوم هنا مسألة اليسار والشباب بقولنا أنّه مشكل قديم -لا نزال رغم مرور أكثر من نصف قرن بعد طَرحه محلّيا وعالميا في حقلي السياسة والفكر- نَدُور حوله من دون حسمه عمليا ومن دون الاستفادة من المراكمة المعرفية، التي وَلّدتها ورشات التفكير عامة والنقد الماركسي واليساري تحديدا حول بَاتولوجيّات القديم ومَخاضات الجديد.

لنُذكّر بداية أن كلّ الدراسات التي اتّخذت من الواقع التونسي مختبرا تحليليا، منذ 2011، قد انشغلت   بدور شباب الجهات الداخلية والشباب المعطلّ والمدوّنين ومجموعات الرّاب والألتراس في جَعل مرجل الغضب ساخنا لسنوات، ثم التحشيد الشعبي الذي أطاح بالنظام. ولا تزال مواضيع البحث الاجتماعي تَدُور حول الهجرة والحركات الاجتماعية والتطرّف العنيف ومطالب حرية الضمير والحق في الحريات الفردية والجنسية وحق النفاذ العادل إلى الثقافة ومجالات الإبداع الفني. وأيضا تعبيرات فنون الشارع الجديدة كلها لصيقة بالتّحول الجيلي الجاري في تونس منذ عشرة سنوات. كما لا تزال حتى مواضيع البحث المُتعلقة بالسلوك الجنسي واللّباس ومظاهر الاحتفال مُلازمة لخفايا التحوّلات العميقة، التي يعيشها المجتمع من خلال جيل الشباب. يحق لنا الانتباه إلى ما مثّلته هذه التحّولات من اختلاق مستمرّ للقيم، نعدّه في نفس اتجاه  المؤرّخ الإنكليزي هوبزباوم[1] تجديدا للقيم ولقواعد العيش بموجب قوانين الصّراع والحركة.

 عُموما وبالمعنى الديمغرافي نُعايش اليوم تنامي الوزن الاجتماعي والسياسي لجيل الثورة. وهو الجيل الذي شَاركَ فيها ولا يزال يُرافق تفاعلاتها. وكذلك الجيل الذي واكبها في سن الطفولة وكبُر معها. أي عَاشَ كلّ محطّاتها ومارَسَ الحريّة التي أتاحتها، بمعناها الفردي والمدني وذَاق مرارة خيباتها. ومع ذلك وَضعَ هذا المعيش جيل اليسار الذي رافق الثورة قبالة أجيال سبقته، ليستأنف الجميع جدلاً ظلّ معلّقا لعقود خلتْ.

من هنا نحن لا ننطلق في طرح موقع ودور الحركات والحملات الشبابية في فعل اليسار وفكره اليوم من صفحة بيضاء. فحدث ماي 1968 قَلبَ باراديغم الثورة لدى معشر اليسار رأسا على عقب. إذ جاء بنفحة فرويدو-ماركسية ليضع شتات الشباب الطّلابي في خط المواجهة الأول، في مرحلة تاريخية كانت فيها أوروبا تعيش عشريات الرخاء بتوافق بين رأس المال والعمل بعد عقدين من الحرب العالمية الثانية، ممّا أجّل وإلى اليوم ثورة البروليتاريا في مركز النظام الرأسمالي. بل من قسوة الأقدار أن تعود الفاشية الجديدة للصعود و تعجز أغلب يسارات العالم عن عرض البدائل.

ما يَهمّنا من ماي 68 الفرنسي زخمَه الفكري ورهاناته النظرية التي أعلنت مولد الحركات الاجتماعية الجديدة غير الحركة العمالية التي نذكّرّ بها دون العودة إليها بالتفصيل. وما يهمّنا أكثر هو رجع الصّدى في ديارنا لهذا الحدث الجلل في جيل يسار الستينات التونسي والسبعينات حينها. وهو اليسار العائد اليوم إلى حاضره لا إلى ذاكرته فقط. باقتضاب نقول جَمعَت الثورة من جديد أجيال اليسار لا فقط للاحتفال بمرور قرن عن ميلاد أوّل تعبيرة يسارية تونسية. بل للتفاوض حول مهام الرّاهن أوّلاً لمن استطاع إليه سبيلا. وهو يعني العودة إلى النقاش الجدّي حول طبيعة الذات الثورية الجديدة المُمكنة بعد استحالة تعهّد الذات الثورية البروليتارية المفترضة بمهامها الإصلاحية منها والراديكالية. 

فهل حلّ الشباب تحديدا والجموع “la Multitude ” عامة محل العمال في مغالبة الهيمنة؟ وهلّ حلَّ التنظّم الأفقي المرن محلّ الحزب الهرمي؟ أي هل صار الرّهان على عفوية الجماهير أكثر جدوى من الرهان على القيادة المركزية والطلائعية؟

من دروس التاريخ ومن حِيَلِه اليوم بعد 2011، هي عودة الجدل حول شباب اليسار. وعودة فاعلين غيّبتهم سنوات التسلّط وتَشكَّلَ وعيهم النقدي في صدمة ماي 68 وهم شباب. عادوا لمُعاصرة حدث ثوري اقترن سيمائيا بالشباب. وهي عودة لا تضطلع بالضرورة بدور سلبي، أي لا تأتي لتُذكّر الشباب ببطولات الآباء. بل نُنزلّها في سياق جدلي يجعلها آلية تأليف ممكن لرحلة عقل اليسار وتشوّف لتحقيق مُمكن لفكرة اليسار الأصلية. ونعني بذلك العدالة والتحرّر الإنساني من الاغتراب والتسلطية في روح الجمهورية الجديدة.

علاقة أجيال اليسار ببعضها لا نُقاربها من جهة النفي المتبادل. بل من جهة القدرة على التحدّث نفس اللغة في زمن لا مجال فيه للفعل دون تواصل مع الذّاكرة ومع المجتمع الحيّ؛ أي دون تحليل الواقع الملموس كما يفترض أن يكون عليه كلّ تحليل ينهل من منابع اليسار الفكرية وهي كثيرة. ما يعنينا من هذه المقاربة الجيليّة هو ما صارت تُمثله من خيط ناظم لكلّ معرفة ميدانية مُمكنة بالحركات الاجتماعية والمواطنية الجديدة التي يُجسّد الشباب عمودها الفقري. ومع تشكّل إرهاصات وعي جيلي، بَرزَ بوضوح شرخٌ على مدى أكثر من عقد بين طموحات الشباب ومُستطاعه وسقف المُمكن أو المُتاح في ظلّ موازين قوى ما بعد 14 جانفي، التي أدّت الى اضطلاع نخب مدينيّة من الطبقات الوسطى والعليا بإدارة المرحلة الانتقالية. وقد بدَتْ هذه النخب أكثر استعدادا تنظيميا وذهنيا من جيل الشباب الثّائر الذي كان الأقدر في الدّفع نحو سقوط رأس النظام ولم يكن الأقدر والأكثر جاهزية في تصور سيناريوهات محتملة “للمرحلة الانتقالية”. وهو ما حَوّلَ عنوان المرحلة بموجب لعبة الأدوار الجديدة على خشبة مسرح السياسة، من مطالب الثورة ”الحالمة” الى مطلب حفظ الدّولة ”الواقعي” أوّلاً. حتى لا تتسرَّب داخلها عناصر الفوضى والتفكّك.

في ظاهر الأشياء انتصرت أطروحة أوّلية الدّولة وتبنّتها نخب يسارية. لكنّه نصر مؤقت ومغشوش قَبِلَ بجعل الدولة في متناول مشروع أحزاب ذات مرجعية إسلامية والريعيين معًا. حتّى أن أشدّ المدافعين عنه اليوم إما شاخصون من هول صدمة ما يجري أو يائسمن ديمقراطية لا تستقر إلا من فوق، أو هم بصدد تغيير زاوية نظرهم قبل فوات الأوان مُنتبهين إلى ما في مجتمع المقاومة التحتي من معنَى. من أجل ذلك يتنزّل التفكير في العلاقة بين الفاعل الشبابي الجديد واليسار ضمن التفكير خارج منطق الانتقال المؤسساتي وخاصة دون قيود الأطر القديمة التي فقدت جاذبيتها في نظره. ويُجازف هذا التفكير بتناول تحولات المجتمع من منظور سوسيولوجي قائم على مفهوم التاريخانية “Historicité” في نظرته للمجتمع التونسي، كغيره من المجتمعات المعاصرة التي تتحوّل من خلال حركات اجتماعية تتنافس على تحديد التوجّهات الثقافية المشتركة والتأثير فيها وبالتالي دفع المجتمع إلى التفكير في حالته وبناء هويّته بشكل مستمرّ.

 ومن ثم، يصير دور علم الاجتماع العمل على إخراج هذه الصّراعات التي تتجاوز أكثر أشكال الفعل الاجتماعي القديمة تنظيماً واستقرارا وتنفتح في مطلبيّتها على حقوق اقتصادية واجتماعية ومدنية وثقافية. ضمن هذه المهمة العامة، نحاول إدراج مقاربتنا لعلاقة الالتباس بين الحملات الشبابية واليسار ونسعى إلى إيضاح أسباب هذا الالتباس بما هو حَمّال أوجه ولا يزال مفتوحًا على ما هو آتٍ.

الحملات الشبابية راديكالية محمودة

لقد وَفّرَت طفرة الحرية التي أعقبتْ الثورة فضاءات جغرافية وحركية تجاوزت دلالاتها الحينية والمحلّية. لتتحوّل إلى ما يمكن أن نسمّيه اقتباسا من ميشال فوكو [2] (des hétéropies) وهي فضاءات جغرافية ومساحات وأمكنة تتعهّد برعاية طاقات باحثة عن بدائل جديدة، وتُعزّز قوة الانعتاق من واقع صعب، وتَسمح بتقاطع فاعلين اجتماعيين من أجل رؤية مشتركة وخطط نضال جماعيّة تسمح بتواصل الصراع من أجل التغيير الديمقراطي والاجتماعي.

ضمن هذه الفضاءات، أينَعَت الحملات الشبابية التي عرفت نسقا مرتفعا منذ سنة 2008 وصولاً إلى سنة 2021 وإلى حدود تاريخ 25 جويلية. ويُمكن اعتبار عودة التحرّكات والاحتجاجات بصفة دورية في شوارع العاصمة وأمام مجلس النواب وفي الأحياء الشعبية والجهات وفي الفضاء الافتراضي العابر للحدود -خاصة بعد الثورة- تعبيرا عن هذه المقاومات الطافحة. وهي العلامة على تواصل ارتدادات لحظة الثورة وتواصل اقتدار التمسّك بتحقيق وظيفتها التأسيسية. لذلك يبدو من الأنسب تجنّب أي إسقاط معياري عليها لا يعبّر عن إرادة الفاعلين وهم يفعلون الآن وهنا، لأنه يُلحق بالنتيجة بفعلهم وصمًا يحقّره.

العامل المضاعف للاهتمام بعلاقة هذه الحركات الشبابية والاحتجاجية باليسار هو خصوصياتها المرتبطة بطريقة التنظيم وأدوات عملها وطبيعة الناشطين فيها. وخاصة الدّور الذي لعبته بشكل مباشر أو غير مباشر في الضغط والتأثير على المشهد السياسي. ما يؤكّد ذلك ميدانيا عدم توقّف دورات الاحتجاج الاجتماعي منذ 2011. وتعني دورة الاحتجاج كما عرّفها سيدني تارّو (Sidney Tarrow) توفّر العناصر التالية: تزايد كثافة الصراع، انتشاره الجغرافي والاجتماعي، ظهور أفعال عفوية، تشكّل مجموعات منظمة جديدة، ونشوء رموز جديدة.[3]

بفضل هذه الدّورات، يبتعد شباب الحملات الشبابية بِصيَغه الأفقية والمجدّدة عن أطر اليسار التقليدي السلطوية. ويجد في فترة الانفتاح الديمقراطي فرصة للمروق. وأصبحت المبادرات الميدانية والتنظيمية الجديدة بمثابة خطوط هروب (des lignes de fuites) بالمعني الذي يُضفيه غواتاري [4] على هذه المقاومات الشّتّى والمتشظية. ما يُجسّده اليسار الشبابي إذن بحضوره الميداني وبصيغ تنظّمه الأفقية الجديدة خاصة بعد 2014 هو تحريره لأرض صارت بحوزته ودخوله حقل الفعل السياسي ومُجازفته دخول الفضاء العام من دون وصيّ. راديكالية الحركات الشبابية تُبقِي على الثورة خارج كلّ وصاية معيارية، أي تُبقيها في رحم المجتمع. لتجعَل الديمقراطية بما هي صراعات مُمكنة ومستمرّة. حيث يكون الصراع تجلّيا لتفاعلات متوترة. إذ يُثير طيف من الفاعلين مطالب تتصادم مع مصالح فاعلين آخرين باحثين عن عقد اجتماعي وجمهوري يجعل المشترك ممكنا ويمنع احتمال الحرب والتطبيع مع العنف.

خوض الصراع جماعيا من قبل الشباب يؤدي إلى تشكّل فعلهم كفعل سياسي في جوهره. لأنه فعل جماعي كما تعنيه حنة أرندت.[5] فهي تنفي عن الفعل السياسي طابعه الفردي. فهو لا يبدأ إلاّ حين يجتمع الناس لتعهّد مشاكلهم بأنفسهم. ويتجلّى حين يُبدعون معًا ما هو غير متوقّع. من هنا كانت الحملات الشبابية مُبدعة لأنها أبدعت جماعية، ما لم يخطر على بال. تشكُّل الفعل السياسي الجماعي وعودة الصراع للحياة السياسية هو الفضل الأكبر للحملات الشبابية على التجربة الديمقراطية التونسية اليوم. لأن هذا الشّكل من التنظيم المرن وحتى المؤقت سَمحَ بربط كل مشكلة بجمهورها، وجَعلِها قضية رأي عام  بلغة “البراغماتيين”، أي تحويلها إلى مشكلة سياسية.

اليسار البروليتاري والحداثيون والشباب: العلاقات الصعبة 

أزمة الديمقراطية التمثيلية لهَا وجه عالمي، بعد أن أصبحت ديمقراطية الساحات العامة ترفع شعار “أنتم لا تمثلوننا”. ولها وجه محلي، حيث بدَت مجموعات واسعة من اليسار رافضة لما أفرزته الديمقراطية التمثيلية. بل كلّ منظومة الانتقال الديمقراطي التي أريدَ لها أن تكون هندسة فوقية لسلوك الجسم الاجتماعي في مرحلة ما بعد التسلطية. ولأنّ السياسة الديمقراطية في جوهرها صراع، ظلّت هذه الهندسة القائمة على احتواء الصراع أو توجيهه نحو وجهة غير وجهتِه عقْيمة. حيث لم تهدأ حركة الشّارع ولم يخفُت صوت الشّباب. فحين نقارب هذه الحركة “المُوفمَا”[6] كما يصفها الشباب أنفسهم نقف عند هويّة جماعيّة شبابية تُبرز منزلة الروابط الاجتماعية الجديدة ووظيفتها السياسية المُمكنة. وهي غير روابط الشباب الطلاّبي المألوفة ولا روابط اليسار النقابي. فمن خلالها نرصد أشكال التسييس الجديدة التي تُبتَكر وتتطوّر.

إنّ تفكّك الرابطة الاجتماعية التي كان يضمنها العمل المأجور ومكمّلاته -المتمثلة في الحماية الاجتماعية من المرض وضمانات التقاعد التي تكفل للعامل مكانة ودورا معترفا بهما والتي كانت قاعدة لتنامي رابطة المواطنة وعامل إدماج وصعود اجتماعي- قد أنتجت واقعا جديدا للعلاقات الاجتماعية. وصعّدت إلى مسرح الحياة شرائح متعددة من المُغتربين والمَقصيين وفاقدي الحماية. وولّدَت تبعا لذلك صيغًا مغايرة للفعل الاحتجاجي والسياسي أكثر تلاؤما مع هذا التحوّل السوسيولوجي الذي طبَع المجتمعات المعاصرة.

وتكفي العودة هنا إلى التحوّل الذي شهدته الدراسات الاجتماعية المعاصرة من علم اجتماع الطبقة العاملة الذي هيمَن على العلوم الاجتماعية بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا زمن النضالات النقابية والسياسية الاشتراكية-الديمقراطية والشيوعية وحتى الأناركية، إلى علم الاجتماع الذي يمكن تسميته بسوسيولوجيا الطبقات الشعبية التي أصبح يُنظَر إليها كتركيبة اجتماعية مختلطة تضمّ المجموعات الأكثر هشاشة وحرمانا، ومحدودي الدّخل، والمعطلين عن العمل، والنساء العاملات في أنشطة اقتصادية بأجور ضعيفة، وصغار الحرفيين، والكَسَبة، وفئات من الطبقة الوسطى. إنّ جهد تجميع هذا الشتات يبدو عسيرًا بل هو فعل سريالي وعديم الجدوي لمن أراد مقاربته بأدوات الهندسة اليسارية القديمة.

ضمن هذا الباراديغم الجديد -وعلى مسافة من مقولة الطبقة منظورا إليها من جهة الموقع في عملية الإنتاج كما نجدها في النظرية الماركسية- صَارَ البحث الاجتماعي مُنشغلا بفهم أشكال فعل الذّوات المقصيّة والمهمّشة وغير المندمجة والمحدودة الدّخل. وأصبح يتناول ديناميات الفعل الجماعي الجديدة التي يُفرزها واقع هذه الفئات. فليس من العسير رصد وتتبّع مسارات تشكلّ متنوعة لذوات يسارية شبابية عاشت منعطف الثورة أو ساهمت فيه ولا تزال إلى اليوم ذوات فاعلة. فالقول بتعدّد المسارات وتنوّعها يجعلنا نقف خارج الرؤى الحزبيّة والأيديولوجية الضيّقة التي تُعطي لليسار دلالة واحدة، أو توصيفا واحدا. ولا تؤمن إلا بصراط مستقيم واحد والوفاء الأبدي له. وتتعمّد إقصاء المُغايِر من العائلة اليسارية. تنوّع المسارات وتعدّد الحملات وكثرة المطالب ومرونة الحركة وفّرت للشباب فضاءات مفتوحة تشَكّلت فيها وبفضلها ذاتيات سياسية متنوعة “des subjectivités politiques diverses “.

من منظور آخر، أصبح معنى التهميش يتجاوز الاستغلال الاقتصادي ليشمل الاحتقار والتغييب والإهانة والتمييز. وفقا للمعنى الذي يَقرنُ بموجبه طومبسن،[7] مُنظّر الاقتصاد الأخلاقي، بَينَ مطالب الاعتراف والديمقراطية والعدالة. وقد أصبحت الإحالة على هذه المرجعية متواترة لفهم مطلب العدالة أنثروبولوجيا ونفسيا. وقد تأكّد لنا هذا بوضوح حين سعينا إلى فهم ما جرى في جانفي 2021 مع انتفاضة[8] شباب الأحياء الشعبية. وحَاولنا فهمه بتنزيله ضمن السّياق التاريخي والأنثروبولوجي والديمغرافي والعمراني والاجتماعي التونسي.

ويُمكن القول بكل إيجاز أن الثورة لم تكن ممكنة بقيادة الشيوعيين النظرية والميدانية لأنها لم تكن ثورة بروليتاريا. بل حقَّ لنا أن ننتبه إلى سؤال أدرنو الساخر منذ بداية القرن الماضي: ”أين هي البروليتاريا؟” ولم تكن ممكنة أيضا بقيادة حداثيين مؤمنين حتّى النخاع بكونية حقوق الإنسان. لأن هذه التّرسيمة تمَّ احتواؤها على مراحل ضمن مقولة ”التونسة” و”نمط” المجتمع التونسي. فصَارت في تمثّلات الشباب الثائر بلا أهلية للقطع مع القديم وذريعة للإبقاء على علاقات الهيمنة وتبرير الازدراء الطبقي. من هنا تتحوّل حقيقة الحملات الشبابية إلى قرينة لاقتراح موقف نظري أكثر واقعية مداره سؤال؛ كيف يمكن للشباب أن يُواصل ثورة يتّخذ فيها الصراع الطبقي والنضال في وجه الحيف الاجتماعي لُبوسًا جديدا، ويتّخذ فيها الصّراع الديمقراطي والنضال الحقوقي وجهًا راديكاليا يحرّره من النخب المحافظة باسم الحداثة؟

 فالتفاوتات أو مظاهر الهيمنة الاجتماعية لم تختفِ قطّ. بل توسّعت وتغيّرت أشكالها. لكن من العناد الإيديولوجي اختزالها في مواقف طبقيّة يمكن تحديدها بوضوح. فنحن صلب نظام من اللامساواة المتعددة التي تُفلت من كلّ نمذجة تبسيطية تُريد رسم الحواجز الواضحة بين الطبقات والفئات وتُنتج بسهولة خطابا سياسيا عائما على غرار شعارات اليسار القديم. من الجليّ أن هذه المهمّة ليست هيّنة لأن ما يتجلى اليوم عينيا هو لا أهليّة اليسار البروليتاري. فلا بروليتاريا لديه ضمن قواعده أو حوله. وهو اليوم يقف حائرا بحثا عن منافذ للطبقات الشعبية دون جدوى.

ولا أهلية ”لحداثيين” خيّروا دولة قوية وحتّى فاشلة على ثورة يافعة. في مُقابل ذلك تملأ حركات الاحتجاج الشوارع والفضاءات في دورات متعاقبة معتدّة بأهليتها في تعبئة موارد مقاومة، وعلى تحشيد جماهير مختلفة حول مطالب شتّى. إن طي صفحة القديم كإطار لفعل سياسي مُمكن. وتخصيب أفكار جديدة أمر أخلاقي قطعي. ومع ذلك يبقى سؤال البدائل أو ما العمل؟ معلقا من دون  إجابة. 

أرخبيل المقاومات: عناصر القوة وعناصر الضّعف

لقد أطلقت الثورة التونسية، كغيرها من الثورات، تعبيرات متعددة وأخرجت إلى السطح تناقضات لا يمكن اختزالها بين قوّتين. ففي هذا الاختزال إهمال لثراء الحياة الاجتماعية. عديدة هي التعبيرات والقوى الاجتماعية التي تُعبّر عن نفسها، في إثر انفجار الثورة، بشكل متناقض أحيانا. فصَدَى عدد من المطالب من قبيل؛ السيادة الوطنية والحرية والمساواة وحقوق الأفراد والأقليات والعدالة الاجتماعية والهوية والمحافظة صَعَد إلى السطح بعد 14 جانفي 2011. والتاريخ يُبيّن أن مطالب المجتمع وتعبيراته المتناقضة تترافق جميعها حين تُفجّر الشعوب ثوراتها. وتحتاج إلى زمن طويل للتعايش السلمي وبناء عقد اجتماعي.

سلسلة التحركات الاحتجاجية والميدانية هي تعبيرات تُترجم هذا التنوع وتُبرز دور الشباب في عموميتّه وسعيه إلى تحقيق ذاته مجاليّا وجغرافيا، عبر الانغراس المحلّي في المدن الصغرى والأرياف لعشرات التحرّكات المطلبية. مما يُخوّل قراءة جغرافيا الاحتجاجات في علاقة بجغرافيا الفقر وضعف مؤشرات التنمية وصعود فاعلين محليين تَعَهّدوا بالدفاع عن حقوقهم بأنفسهم. فلا مناصّ من التوقف عند هذه الصحوة المُواطنية التي تعكس نمطاً مُغايرا من آليات الفعل والرغبة في المشاركة السياسية المحلية بأدوات لا نمطيّة. وهي ضرب من دمَقرَطة الفضاء العمومي بفتحه أمام شرائح أوسع من المجتمع المحلي بدل أن يكون ممركزا ومسيّجا لفائدة الفئات المُهيمنة.

تجريبيا، كانت تجربة “مانيش مسامح” (لن أسامح) أكثر الحملات نجاحا على المستوى التنظيمي والتعبوي. وقد جَمعَت بين المجتمع المدني الديمقراطي والمنظمات الوطنية وأحزاب يسارية وعدد كبير جدّا من الشابات والشبان غير المُتحزّبين مركزيّا وجهويّا. وطَرَحت مطلب العدالة الانتقالية ومُحاربة الفساد.

  -حملة “فلقَطَنا”[9] جاءت في سياق الانتفاضة العالمية ضد العنف الاجتماعي والجنسي المُسلّط على النساء. وانطلقت من شهادات النساء اللواتي تعرضنا إلى كل أشكال التمييز والعنف. ووسّعت من مجال تعبئتها لتَشمل إلى جانب المساواة بين الرجال والنساء المطالبة بإلغاء تجريم المثلية الجنسية والدفاع عن الحرية الفردية في التصرف في الجسد. لتؤكّدَ بذلك التحالف بين ديناميات الحركة النسوية.

 حملة ”تْعلّم عوم” (تعلّم السباحة)؛ حملة قِوامها شباب الأولتراس والمتعاطفون مع قضية ”عمر العبيدي”[10] باختلاف مشاربهم، عبر الهاشتاغ على مواقع التواصل الاجتماعي أو خاصّة في أغاني “الأولتراس” وأغاني الرّاب. وتَطرح الحملة معضلة الإفلات من العقاب وعُنف الدّولة الغير شرعي كعنف يستهدف بالدرجة الأولى شباب الهوامش. ومن المهمّ التأكيد أن حملة ”تعلّم عوم” صارت ترمز إلى كلّ معارك الشباب ضد العنف البوليسي. لتؤشر إلى حدّة القطيعة والكراهية بين ”دولة البوليس” والشّباب.

  • حملة “الحبس لا” التي تمحوَرت حول رفض العقوبة السجنية لمستهلكي القنّب الهندي. وذلك عبر إلغاء القانون عدد 52 الذي ذَهب ضحيته عشرات آلاف الشباب، جلّهم من الأوساط الشعبية.

– حملة “لوقتاش” (إلى متى؟) للمطالبة بإلغاء القانون 230 القاضي بالفحص الشّرجي المُهين للكرامة والمسلّط خاصة على مجتمع الميم ع والشباب المِثلي. إضافة إلى حملتي “stop pollution” (من أجل إيقاف للتلوث) و”مانيش مصب” (لست مصب فضلات). وهي حملات تندرج ضمن دينامية النضال البيئي المنادية بمراجعة السياسات البيئية العمومية وإيقاف التلوث.

– وأخيرا حملة ”كلنا راعي سليانة” التي كانت وراء التعبئة التي أطلقت انتفاضة “الحْوِمْ الشّعبيّة” (الأحياء الشعبية) في جانفي 2021 وساهمت في سقوط حكومة المشيشي. ثم حملة ”مَانَاشْ مْسَلّمين” (لن نُفرّط في حقوقنا) والتي أطلقتها مجموعة من الشباب بعد 25 جويلية 2021 للضغط من أجل طَرح قضايا الاغتيالات السياسية واقتصاد الرّيع مثلا.

 لا نُبالغ حين نقول أننا ننام ونصحو، على مدار العام، على وقع صعود وخفوت الحملات الشبابية والاحتجاجية المتواتر بلا كلل. أكثر من عشر سنوات مَرّت على سقوط النظام وانفتاح الفضاء العام أبرزت بوضوح هذا الجيل الذي تَعلّم رَبْط مواجهات الأفكار والمصالح بالتحول الديمقراطي والمطالبة بالحقوق. ونجد لديه وعيا مزدوجا ما انفك يتطوّر بالديمقراطية حين تشير إلى المجال السياسي. ووعيا بالحقوق حين تشير إلى كل علاقات الهيمنة الاجتماعية. إن هذا اللّجوء المتزايد إلى لغة الحقوق هو بالضبط ما يُترجم طموح الشباب إلى التغيير الجذري. وهم في ذلك جزء من حركة شبابية عالمية أنَاركية الهَوَي كملاذ ما بعد-شيوعي لا مسؤولية أخلاقية له على الغولاغ وغيره.

فسواء أخذت هذه المطالب وَجهًا طبقيّا محوره الفقر والهشاشة أو وَجها جندريا محوره المساواة أو وجهًا تحرّريا يهم الفرد في ضميره وجسده أو وجها أخلاقيا محوره الاعتراف، فهي في مُجملها عناوين جديرة أن تُوحّد دون ترتيب أولويات وتفضيل الرئيسي عن الثانوي، ضمن إيتيقا يسارية جديدة. تلك هي مهمة المرحلة الرّاهنة التي لا تزال بعيدة المنال. فهذا اليسار الحركي لا يزال عاجزا عن تصعيد مَطالبه في اتجاه رؤية سياسية وطنية وديمقراطية، فهو مُجهَد بسبب ما يكابده من محاصرة أمنية وتسلطية. ويشكو ذاتيا من ضعف التشبيك داخله ومن تخلّيه عن مراكمة دروس تجاربه. كما يشكو اليوم معضلتين: الأولى نعدّها ظرفية ونعني بها ظاهرة الرئيس قيس سعيد الشعبوية. فبعده لن يترك في رأينا سعيّد حركة شعبوية متماسكة. لا يوجد وريث سياسي لجمهور سعيّد لأنه شَتات لا توحّده لا إيديولوجيا شعبوية قومية معادية للحريات ولا شعبوية يسارية ناجزة. لا وجود لحركة شعبوية بهذا المعنى في نظرنا اليوم. أما المعضلة الثانية فهي هيكلية لأن جسور التواصل والتفاهم والنضال المشترك بين الشباب الراديكالي وجمهور الطبقات الوسطى ضعيفة وربما مُنعدمة. ولأنه لا مستقبل لليسار دون كتلة تاريخية جديدة من المهمّ أن نضطلع بالتفكير في بناء هذه الجسور وفي وصل النظر بالفعل، وربط الشارع المُحتج بالمؤسسات القارة، والراهن بالمستقبل. أي الانخراط في تاريخانية المجتمع المفتوحة بعد 2011، كذات سياسية لها هوية يسارية قادرة على تمثيل المشترك وصون المختلف داخلها.

وفي حال تعطّل تَشكُّل قوّة مدنية مستقلة خلال فترة الأزمات العضوية بما هي لحظات من الانسداد السياسي -بتعبير غرامشي- وقادرة على إنتاج هيمنات بديلة، سيَكون من العسير على الجماهير المنفردة تغيير موازين القوى. فلا ديمقراطية من دون صراع. ولا عدل إلا إذا تعادلت القوى. وسِرّ هزيمة الوسطيّة اللّزجة والتوافق -الذي بدأ ضرورة ظرفية وانتهى مهزلة- هو تناسي هذه الحقيقة.

.      لقراءة المؤلف الجماعي كاملا وتحميله، اضغط هنا


[1] هوبزباوم وتيرينس رينجر. اختراع التقاليد (ترجمة أحمد لطفي) هيئة أبو ظبي. 2013. 

[2] M Foucault , Des espaces autres ( 1967) Dits et écrits 1984

[3] انظر دورة التعبئة في قاموس الحركات الاجتماعية ص 147 سيسيل بيشو, أوليفية فيلول ليليان ماتيو (ترجمة عمر الشافعي). مبادرة الإصلاح العربي

[4] Felix Guattari, lignes de fuite pour un autre monde possibles Ed de L’Aube 2011

[5]  حنة أرندت: ما السياسة؟، ترجمة زهيرالخويلدي وسلمي بالحاج مبروك، منشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الثانية،2018.  

[6] هو مصطلح مستعمل في العامية التونسية مقتبس من الفرنسية un mouvement. والمقصود به الإشارة إلى الحركة.

[7] Didier Fasin , les économies morales revisités , Annales , Histoires , sciences sociales 2009 pp 1237 -1266

[8] المواطنة والحق في المدينة. منشورات المنتدي التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية   أنظر للمزيد من التفاصيل ” إنتفاضة أولاد الحوم ”

[9] مصطلح مستخدم في العامية التونسية ويشير إلى الشعور بالضِّيق والغيظ. 

[10]  للوقوف أكثر حول تفاصيل قضية الشاب عمر العبيدي. انظر أميمة مهدي: حملة “تعلم عوم” في مواجهة النقابات الأمنية. موقع المفكرة القانونية. 05 فيفري 2022.

انشر المقال

متوفر من خلال:

مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني