النائب الياس جراده: “لا مكان للحياد في حضرة الأوطان”


2022-05-25    |   

النائب الياس جراده: “لا مكان للحياد في حضرة الأوطان”

ما إن تشكّلت اللوائح الانتخابية في دائرة الجنوب الثالثة وتمكّنت قوى المعارضة من توحيد صفوفها، حتى بدا أنّ الخرق شبه المضمون لصالح لائحة “معاً نحو التغيير”، سيحصل عبر الدكتور الياس جراده المرشّح في منطقة حاصبيا مرجعيون.

عشية الاستحقاق الانتخابي، وفي حلقات السهر التي كانت الانتخابات محورها حتى في البيوتات الموالية لثنائي حزب الله وحركة أمل، وخصوصاً للأول الذي يتمتع بانتشار أوسع بين الجنوبيين، لم يكن ذكر اسم جراده كمرشح في وجه لائحة السلطة مستفزاً. فالإجماع حول شخصيته الدمثة، مسيرته الحياتية، اعتداله، واعتقاله في معتقل الخيام، ومن ثمّ إبعاده إلى بيروت، كما تهجيره مع عائلته من إبل السقي إلى البقاع، وإصراره على العودة إلى أرضه، طبيباً يداوي الفقراء بلا أتعاب، كلّها تشبه قصة كلّ بيت جنوبي صمد رغم التنكيل التاريخي والمزمن. 

وجراده، الأكاديمي العلمي القارئ دقة المرحلة بموضوعية، هو أيضاً ذلك الطفل الذي شاهد بأمّ عينه كيف دمّر العدوان الإسرائيلي منزله، كيف شرّده وعائلته من أرضه وسلبه مصدر الأمان. وكيف كان يُقتاد كل رافض للأمر الواقع إلى معتقلَي أنصار والخيام. وعليه، لم تلقَ في اتجاهه اتهامات العمالة والتخوين، حتى من قبل أعتى مهاجمي لائحة “معاً نحو التغيير” وأكثرهم استخداماً لهذه الاتهامات ضد سائر أعضائها. كان واضحاً أنّ النار التي أراد مؤيّدو لائحة السلطة إشعالها في أرض الخصم لن تسري في سمعته الخضراء بين الناس.

في المقابل، كان جراده وليد 17 تشرين أيضاً ليحاكي الناخب الراغب في التغيير حقيقة سواء بين الرافضين لنهج أحزاب السلطة وحتى بين المتململين الذين يريدون إيصال رفضهم لأداء نوابها ووزرائها في السلطتين التشريعية والتنفيذية، وكذلك، وكتحصيل حاصل، بين الثائرين الخارجين من عباءة احتكار الثنائي حزب الله وحركة أمل وحلفائهما لتمثيل الجنوب منذ بداية التسعينيات ولغاية اليوم. شكّل جراده الذي حصد 9218 صوتاً تفضيلياً رافعة لائحة “معاً نحو التغيير” التي حصلت على 384 30 صوتاً. وتمكّن بفوزه من تسجيل أول خرقٍ مبكر وواضح في اللائحة المنافسة، مطيحاً بالنائب السابق أسعد حردان المقيم في المجلس لست ولايات (1992، 1996، 2000، 2005، 2009، 2018) مع فارق هائل بالأصوات حيث نال حردان 1859 صوتاً فقط.

طوفان خلاص

جاء ترشّح جراده من قلب الثورة، وبالتحديد من ناشطي خيمة حراك مرجعيون، الذين وجدوا فيه شخصيةً لها سُمعتها وصيتها الحسن، فرفض جراده عرضهم في البدء، إلّا أنّه سرعان ما وافق بعد أن ساوره الحزن الشديد على ردّهم خائبين: “فكرت أنه ما بقى فينا نكون على حياد، خاصّة إنّه هالشباب شايفين فيي تغيير”.  

لم يكن “الفوز” ضمن حسابات جراده على حدّ قوله، بل ليكون “رافعة” ربما تمكّن المرشح فراس حمدان من الوصول إلى المجلس النيابي. كان يعتبر أنّه عار على الثورة أن تجعل من الياس جرادة نائباً وتُسقط فراس”، وفق ما يرى، وذلك من إيمانه أنّ مستقبل البلاد لن يحميه سوى شبابه المثابرين و”فراس واحد منهم”، يضيف. ويعزو فوزه إلى الظروف الموضوعية التي تسيطر على الجوّ العام: “الناس بدها تغيير، ومنطقتنا فيها حرمان، بدها بديل غير مستفز وأنا كنت ضد مهاجمة عقيدة الناس”.

لا يمكن الحديث عن فوز الياس جراده من دون التنويه بالصعوبات والتحديات التي خاضها جنوبيو دائرة “الجنوب الثالثة” المعارضون للثنائي حزب الله وحركة أمل بشكلٍ خاص، ولأحزاب السلطة عامة، بدءاً من توحيد قوى “المعارضة” في لائحة واحدة، إلى الإمكانيات المالية والبشرية شبه المعدومة، بالإضافة إلى أساليب الترهيب والضغط وتشويه السمعة التي طاولت المرشحين مع مناصريهم للحؤول دون نجاحهممن هنا جاء فوزه شبيهاً بطوفان خلاص، أو برعم طيونٍ نبت في الصخر.

“حسرات” جبلت شخصية جراده

كان لانتماء شقيق جراده الأكبر،”عمّار جراده”، إلى الحزب الشيوعي اللبناني، وكونه أحد مطلقي جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، أثره الكبير على مسار العائلة بشكلٍ عام وعلى حياة جراده ووعيه بشكلٍ خاص. فعاشت العائلة وسط حال من الخوف والترهيب المستمرّين من قبل جيش الاحتلال الذي كان ينفذ مداهماتٍ يومية لمنزل جراده  والقرية بحثاً عن “عمّار”.

في العام 1976 تلقى جراده أولى “الحسرات”. هدمت إسرائيل منزل عائلته في إبل السقي، فهربوا إلى بلدة جب جنين البقاعية، واضطر جراده للعيش بعيداً عن مسقط رأسه. في جبّ جنين عملوا في الزراعة، كان الوالد يلجأ إلى “استئجار (تضمين) الأراضي” كمصدر رزق إضافي لعائلته. “كنا صغار نروح على الأرض نزرع زراعة صيفية، وناخذ حصة”. تعلّق جراده بالأرض وبالزراعة وكان هذا سبباً رئيسياً لعودته إلى لبنان لاحقاً بعد التخرّج والعمل في الخارج.  

في العام 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان، وصلت إلى جب جنين، حينها قررت العائلة العودة جنوباً طالما أنّ الاحتلال واقع على البلدتين، فمكثت في قرية بلاط التي تنحدر منها والدة الياس. وتحت الاحتلال الإسرائيلي عاش جراده مراهقته. وعلى الرغم من المحاولات المستمرة لـ “جيش لحد” تجنيده وأخوته في صفوفه، رفض “التعامل”، ما كوّن له ولعائلته عداوات جديدة من جزء من محيطهم المجتمعي، قوامها “التنمّر” و”السخرية” من “وطنيّتهم المفرطة”.

وبالإضافة إلى شقيقه عمّار كان لوالده العسكري وخاله اليساري أثرهما في تكوين شخصيةٍ لا تقبل المهادنة، ما تسبب في العام 1986 باعتقاله لمدة ثمانية أشهر في معتقل الخيام، أُبعد على أثرها إلى بيروت، ليكون الإبعاد القسري، أي الطرد من أرضه، حسرته الثانية.

في بيروت عاش جراده مع شقيقته وشقيقه، فكانوا يعملون في الليل ليحصّلوا قوت يومهم وتكاليف جامعاتهم، وعمل جراده عتّالاً على المرفأ، وفي ورش بناء. وكما في المناطق المحتلة كذلك في المناطق المحرّرة عانى جراده من “التصنيف”، فكانوا في المنطقة التي كانت مصنّفة “شرقية” العائلة المعادية لمحيطها بسبب انتمائها اليساري، وفي “الغربية” هم “المسيحيون” اليمينيون.

وفي العام 1988 كانت الخسارة الموجعة بوفاة والده الحالم بالعودة إلى قريته إبل السقي وقبل أن يعود، من بعدها هاجر جراده لإكمال دراسته الطب في “هارفرد” الأميركية بعد أن حصل على منحة من الجامعة، وبقي جرحه على الوطن مفتوحاً.

في المهجر: إبل السقي هي البوصلة

جراده في قريته الزراعية

على الرغم من السنوات الطويلة التي أمضاها جراده في المهجر، بقيت إبل السقي بوصلة المسار. بدأ مساره المهني كطبيب عيون في العام 2003 في السعودية، وبعد أقل من ستة أشهرٍ غادر إلى الإمارات حيث لمع  اسمه في مجال زراعة القرنية ومعالجة “المياه البيضاء”، وعلى الرغم من النجاحات والإنجازات العلمية التي حققها في تخصّصه، بقي حلم العودة لبناء منزل القرية وإنشاء مزرعة غصّة في قلبه. خاف جراده من تسارع السنوات، خاف على أطفاله أن يشبّوا بعيداً عن القرية، خاف من “الكِبر”، من شيخوخةٍ لن تعرفها أزقّة إبل السقي.

وكان لا بد من وضع حد للأرق، وفي العام 2008 بدأ بالعودة التدريجية إلى الديار مفتتحاً عيادة في إنطلياس، وراح يتنقل بين لبنان ودبي. وفي العام 2010  أحضر عائلته، وهو اليوم يتنقل بين بيروت وإبل السقي، وحقّق رغبته في تأسيس قريةً زراعية في منطقة “الميري” أطلق عليها اسم Doctor farm.

يد جراده ممدودة للجميع: للكتائب كما لأسامة سعد

يدخل جراده المجلس النيابي فاتحاً ذراعيه لأيّ طرف تهمّه المصلحة العامة للبلاد، آملاً تشكيل كتلة نيابية قوية مع بقية النواب التغييرين والمجتمع المدني والنائب أسامة سعد، وهو يرحّب بحزب الكتائب الذي يجد فيه “حركة شبابية ديناميكية متقدمة في ظل قيادة النائب سامي جميل، “حزب عمل نقد ذاتي لحاله ليه بدّي ضلّ حاسبو على ماضيه”.

وسيسعى جراده إلى الانضمام إلى لجان نيابية منها الصحة والزراعة، وفي أولويّاته قضايا عدّة أهمها: الحفاظ على أموال المودعين ووقف الهدر، ضمان استقلالية القضاء واعتماد مبدأ المراقبة والمحاسبة: “بدنا نجيب رؤوس الأموال ونعيد الثقة بالبلد، بدنا بلد آمن مرتبط بالعلوم الصناعية الحديثة لنتواءم مع القرن 21 وتؤهلنا للقرن 22. ومن أولوياته أيضاً العمل السريع على قانون انتخاب جديد وإقرار قانون الميغاسنتر، وقوانين الأحوال الشخصية المدنية التي لها حصتها في سلّم أولويات برنامج عمل جراده، وأبرزها إقرار قانون الزواج المدني الاختياري. وسيعمل على إنصاف عناصر القوى الأمنية والجيش اللبناني، الذين دفعوا أثماناً باهظة بسبب الأزمة، على حد قوله. ويولي جراده أهمية “للمساءلة” التي يجب أن يكون جزء منها في الشارع وجزء منها في المجلس النيابي.

إلى العيادة دُر

جراده في عيادته

إثر إعلان النتائج مباشرة، عاد الطبيب النائب الياس جراده إلى عمله في مستشفى العيون في بيروت. في عيادته، وفي الدقائق القليلة الفاصلة بين عملية جراحية وأخرى يستقبل الصحافيين، يتابع أخبار البلاد. وجاء أداؤه في حلقة “صار الوقت”، رداً على  الإعلامي مارسيل غانم ليرفع أيضاً من رصيده بين كل اللبنانيين وليس فقط بين جمهور دائرة الجنوب الثالثة (بنت جبيل، النبطية، مرجعيون وحاصبيا)  التي يمثلها في المجلس النيابي. وجاء استحسان أداء جراده في مواجهة غانم وسط الانتقادات التي طالتْ الحلقة برمتها، حيث جاءتْ التعليقات على وسائل التواصل الإجتماعي لتعتبر أنّ جراده وحده وضع حداً لمرسيل غانم في ما اعتبره المشاهدون “فخاً” حاول غانم أن يوقع نواب التغيير فيه. وردّاً على طريقة سؤال غانم لجراده “هل أنت شيوعي؟” وكأنه استجواب اتهامي، ردّ الأخير”ذكرتني بمعتقل الخيام هيك كانوا يسألوني”. وتابع لدى سؤاله عن “سبب اعتقاله” (وكأنّ الإسرائيليين كانوا يحتاجون إلى سبب) قال: “للسبب ذاته الذي ترشحت بناء عليه وهو أنّ لا مكان للحياد في حضرة الأوطان“. وعن موقفه من المقاومة، اعتبر جراده أنّ “المقاومة الي دافعت عن لبنان بكذا مطرح هي الجيش اللبناني، هو يلّي قاوم ليعمل اقتصاد، هوّ يلي منع درب فلسطين تكون من جونية، المقاومة هنّي كل اللبنانيين”. وعن نزع سلاح حزب الله  قال جراده “كان في  دولة تخلّت عن شقفة من أرضها فأفرزتْ سلاحات وليس سلاحاً ومن مترسّباته سلاح المقاومة، والمقاومة لا تختصر بحزب الله، هي بكل شاب لبناني عم يتعلم، وبكل فلاح عم يزرع”، رابطاً نزع سلاح حزب الله بوجود ظروف إقليمية ملائمة.

وبعد أقل من عشرة أيام على فوزه، خرج بتغريدة دغدغت مشاعر المواطنين الذين يترقبون مواقف النواب التغييرين، ليصوّب العلاقة بين المجلس النيابي الذي هو “بيت الشعب” كما أسماه، قائلاً “لا أسوار تعلو بين نواب الأمة والمواطنين”، وليدعو الى “إزالة جميع السواتر والحواجز التي تعيق/تمنع دخول الناس إلى ساحة النجمة، قبل دعوة النواب إلى أي جلسة”. وفي اليوم نفسه بدأت القوى الأمنية بإزالة البلوكات الإسمنتية التي ارتفعت جداراً فاصلاً بين الناس ومن يفترض أنّهم ممثلوهم في المجلس إبان انتفاضة 17 تشرين.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني