الهيئات المستقلة في تونس أو سيرة الأحلام المجهضة


2023-09-07    |   

الهيئات المستقلة في تونس أو سيرة الأحلام المجهضة

إذا أردنا فهم الأمور كيف تطورت في تونس منذ 14 جانفي 2011 إلى اليوم، فإن تفحّص مسار نشأة وتعثّر وانكسار الهيئات العمومية المستقلة سيكون واحدا من أكثر المحارير فصاحة. “غابة” من الهيئات نبَتت بعد الثورة في سياقات مختلفة ومتشابكة، بعضها تصلّب عوده وأثمر قليلا أو كثيرا، وبعضها الآخر لم يُزهر أصلا. هنا تذكير بأهم مراحل هذا المسار وسعي لتحليل دلالاته.

كرونولوجيا

حتى قبل الثورة شهدت تونس نشأة هيئات بعضها مُدستر وبعضها الآخر لا،  مثل المجلس الدستوري للجمهورية (1987) والمجلس الأعلى للاتصال (1989) والهيئة العليا لحقوق الإنسان والحريات الأساسية (1991)، والهيئة الوطنية لحماية المعطيات الشخصية (2007). لكن هذه الهيئات لم تكن مستقلة، بل ملحقة قانونيا وفعليا بالسلطة التنفيذية، ودورها “النظري” في أغلب الأحيان استشاري. كما أنها كانت من ضمن الأدوات السياسية الدعائية التي اعتمدها بن علي للتدليل على تبنّيه سياسة “الانفتاح الديمقراطي” خلال السنوات الأولى من حكمه (1987- 1991) وانخراطه في “المنظومة الكونية” لحقوق الانسان و”ثورة تكنولوجيا المعلومات”، إلخ.  لذا لن نتوقف عندها بل سنستعرض هنا -بالترتيب حسب تاريخ الإنشاء- الهيئات المستقلة التي ظهرت منذ الأسابيع الأولى التي تلت خلع زين العابدين بن علي في جانفي 2011 إلى الأشهر الأخيرة التي سبقت “إجراءات 25 جويلية 2021” ونهاية مسار “الانتقال الديمقراطي”. من خلال هذا الاستعراض، سنبيّن كيف أن مسار نشأة الهيئات المستقلة في تونس ينقسم إلى ثلاث موجات أو طفرات أساسية.

  • الموجة الأولى : جانفي / نوفمبر 2011

تزامَنت هذه الموجة مع ما يمكن تسميته بـ”المرحلة الانتقالية الأولى” أي المدة الفاصلة بين سقوط بن علي في 14 جانفي 2011 وانطلاق أعمال المجلس التأسيسي في 22 نوفمبر 2011 (بعد انتخابات 23أكتوبر)، أي المرحلة التي أديرت بـ”التوافق” ومن دون وجود أي جهة تتمتع بالشرعية الانتخابية. وفيما يلي قائمة الهيئات التي تأسّست خلال تلك الفترة:

-الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، أحدِثت بمقتضى المرسوم عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 18 فيفري 2011 (وقّعه الرئيس المؤقت فؤاد المبزع). هذه الهيئة “العمومية المستقلة” حسب الوصف الوارد في المادة 1 ، كُلّفت “بالسهر على دراسة النصوص التشريعية ذات العلاقة بالتنظيم السياسي واقتراح الإصلاحات الكفيلة بتجسيم أهداف الثورة بخصوص المسار الديمقراطي” مع منحها الحق في “إبداء الرأي بالتنسيق مع الوزير الأول حول نشاط الحكومة”. ويمكن القول أنها مثّلت الهيكل الذي عُهد له رسم “خارطة الطريق” للانتقال من الديكتاتورية إلى الحكم الديمقراطي. انتهت مهام الهيئة مع انتفاء سبب وجودها، أي مع الوصول إلى انتخاب مجلس تأسيسي. 

– الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال: هيئة وطنية مستقلّة أحدثت بمقتضى المرسوم عدد 10 لسنة 2011 مؤرخ في 2 مارس 2011  لتحلّ مكان “المجلس الأعلى للاتصال” الاستشاري والذي كانَ ملحقا برئاسة الجمهورية طيلة فترة حكم بن علي. وتمثّلت المهمة الأساسية لهذه الهيئة في “صياغة تصوّرات كفيلة بالارتقاء بالمؤسسات الإعلامية والاتصالية إلى مستوى أهداف ثورة الشعب التونسي فضلا عن تطوير هذا القطاع الهام بما يكرّس حرية الرأي والتعبير ويَحفظ حق الشعب التونسي في إعلام حرّ تعددي وموضوعي ونزيه” (كما ورد في تقديم الهيئة على موقعها).

-الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (الأولى): أنشئت بأحكام المرسوم عدد 27 لسنة 2011 المؤرخ في 18 أفريل 2011، باقتراح من الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي. وكان الهدف من إنشائها رفع يد وزارة الداخلية عن العمليّة الانتخابية وتكليف هيكل مستقل ومتخصّص ومتفرّغ بالإشراف على تنظيم انتخابات ديمقراطية، وتعدديّة، ونزيهة، وشفافة. انتهت أعمال هذه الهيئة المؤقتة مع الإعلان عن النتائج النهائية لانتخابات المجلس التأسيسي.

  • الموجة الثانية: نوفمبر 2011 – أكتوبر 2014

نتحدّث هنا عن “المرحلة الانتقالية الثانية” التي كان يُفترض بها أن تكون الأخيرة وأن تدخل البلاد بعدها في مرحلة الاستقرار السياسي في ظل نظام ديمقراطي. مرحلة قادها المجلس التأسيسي والسّلطة التنفيذية المنبثقة عن تحالف نواب “الترويكا” (حركة النهضة والتكتل الديمقراطي والمؤتمر من أجل الجمهورية)، وحظيت خلالها الهيئات المستقلة باهتمام واضح، إذ تأسس العديد منها ودُسترت أخرى:

-الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، هيئة عمومية مستقلة أنشئت بمقتضى المرسوم الإطاري عدد 120 لسنة 2011 مؤرخ في 14 نوفمبر 2011 يتعلّق بمكافحـة الفســاد، لكن تنصيبها حصَل فعليا في أفريل 2012، أي بعد تقديم التقرير النهائي لأعمال اللجنة الوطنية لتقصي الحقائق حول الرشوة والفساد. (لجنة عبد الفتاح عمر” كما سميت اعلاميا، أنشئت بموجب المرسوم عدد 7 لسنة 2011 ). وحسب ما ينصّ عليه القانون المؤسّس لهيئة مكافحة الفساد فإن هذه الأخيرة تقترح سياسات لمكافحة الفساد، وتُصدر مبادئ توجيهية عامة، وتبدي رأيها في مشاريع النصوص التشريعية والتنظيمية المتعلقة بمكافحة الفساد، وتجمع البيانات المتعلقة بالفساد، وتسهّل الاتصال بين الجهات الفاعلة، وتنشر ثقافة مكافحة الفساد.

-الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري (الهايكا): أحدِثَت في 03 ماي 2013 بمقتضى الفصل 47 من المرسوم عدد 116 لسنة 2011 المؤرّخ في 02 نوفمبر 2011 المتعلّق بحرية الاتصال السمعي والبصري بإحداث هيئة عليا مستقلة للاتصال السمعي والبصري، وعَوّضت “الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال”. كان الهدف الأساسي من إحداث هذه الهيئة إرساء هيكل تعديلي دائم يُواكب ويراقب طفرة وسائل الإعلام السمعية والبصرية التي عاشتها البلاد بعد سقوط بن علي. 

الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (الثانية): أحدثَت بمقتضى القانون الأساسي عدد 23 لسنة 2012، مؤرخ في 20 ديسمبر 2012 يتعلق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات والذي تم تنقيحه وإتمامه بفصول القانون الأساسي عدد 44 لسنة 2013 مؤرخ في 1 نوفمبر 2013. وهي حسب المشرّع “هيئة عمومية مستقلة ودائمة” تتمتع بالشخصية المعنوية والاستقلال الإداري والمالي، تسهر “على ضمان انتخابات واستفتاءات ديمقراطية وحرة وتعددية ونزيهة وشفافة”. وتمّ انتخاب رئيس الهيئة وأعضائها في 09 جانفي 2014 قبل أيّام قليلة من المصادقة على الدستور. 

-الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين: هيئة قضائية وقتية مُستقلة تختص بمراقبة دستورية مشاريع القوانين، وتتمتع بالاستقلالية الإدارية والمالية في إطار ميزانية الدولة. أحدثَت بمقتضى القانون الأساسي عدد 14 لسنة 2014 مؤرّخ في 18 أفريل 2014، وتم تعيين أعضائها يوم 22 أفريل من نفس السنة. وكان يُفترض أن تعوِّض الهيئة “المجلس الدستوري للجمهورية” في انتظار إنشاء محكمة دستورية دائمة.

-هيئة الحقيقة والكرامة، أنشئت بمقتضى القانون الأساسي عدد 53 لسنة 2013 مؤرخ في 24 ديسمبر 2013. انطلق عملَها في جوان 2014 وتواصل إلى نهاية سنة 2018، ونشرت تقريرها الختامي في 27 مارس 2019 (صدر في الرائد الرسمي عدد 059 بتاريخ 24 جوان 2020). استُلهمت فكرة إنشاء هذه الهيئة من تجارب عاشتها بلدان أخرى في مناطق مختلفة من العالم عند خروجها من فترات وسياقات مظلمة في تاريخها. وشكّلت حجر الأساس في مسار “العدالة الانتقالية” الذي كان يفترض أن يكشف مختلف انتهاكات حقوق الإنسان التي مورست على تونسيين من جويلية 1955 إلى 31 ديسمبر 2013، ومحاسبة المسؤولين عليها وإقرار إجراءات جبر ضرر للوصول إلى “المصالحة الوطنية” وطي صفحة الماضي.  

 -الهيئات المُدَسترة: نصّ دستور 27 جانفي 2014 في بابه الخامس (السلطة القضائية) على إحداث محكمة دستورية وعرّفَها بأنها “هيئة قضائية مستقلة”، وخصّص الباب السادس للهيئات الدستورية وعددها خمسة: هيئة الانتخابات، هيئة الإعلام، هيئة حقوق الإنسان، هيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال القادمة، وهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد.

  • الموجة الثالثة: 2015 – 2019

بَدأت هذه الموجة الأخيرة مع إعلان نتائج الانتخابات التشريعية والرئاسية في خريف 2014 التي أفرزَت فوز الباجي قايد السبسي برئاسة الجمهورية وسيطرة حزب نداء تونس وحركة النهضة على البرلمان، ثمّ تحالفهما في تشكيل الحكومة، وانتَهت مع وفاة رئيس الجمهورية والذهاب إلى انتخابات رئاسية سابقة لأوانها وانتخاب مجلس نيابي جديد في خريف 2019. وفيما يخصّ الهيئات المستقلة، تميّزت هذه الفترة بنشاط تشريعي كبير، لكنها عرفت تعثرًا أكبر في المرور إلى الخطوات الموالية. تمَّ إنشاء هيئات مستقلة لم تَرد في دستور 2014، في حين “عجز” المجلس النيابي على تحمل مسؤولياته والتزاماته في تنصيب الهيئات الدستورية:

-هيئة النفاذ إلى المعلومة: أحدثت تطبيقا للفصل 37 من أحكام القانون الأساسي عدد 22 لسنة 2016 المؤرخ في 24 مارس 2016 والمُتعلّق بالحق في النفاذ إلى المعلومة. انتُخبَ أعضاؤها في 18 جويلية 2017 وأدّوا اليمين أمام رئيس الجمهورية في سبتمبر من نفس السنة. وفضلا عن دورها الاستشاري المُتمثّل في “إبداء الرأي وجوبا في مشاريع القوانين والنصوص الترتيبية ذات العلاقة بمجال النفاذ إلى المعلومة” والتثقيفي عبر “العمل على نشر ثقافة النفاذ إلى المعلومة”، فإن الهيئة لديها سلطة “البت في الدعاوى المرفوعة لديها في مجال النفاذ إلى المعلومة. وللغرض يمكنها عند الاقتضاء القيام بالتحريات اللازمة على عين المكان لدى الهيكل المعني ومباشرة جميع إجراءات التحقيق وسماع كل شخص ترى فائدة في سماعه”.

-الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب: صَدرَ القانون الأساسي القاضي بإنشاء هذه الهيئة في 21 أكتوبر 2013، لكن لم يتمّ انتخاب أعضائِها إلا في 30 مارس 2016. وأوكلَت إلى هذه الهيئة العمومية المُستقلّة مهام رقابية تتعلق بظروف مسلُوبي الحرية في أماكن الاحتجاز، واستشارية فيما يخص النصوص القانونية ذات العلاقة بالوقاية من التعذيب والممارسات المُهينة، فضلا عن الدّور التثقيفي والتوعوي.

-المجلس الأعلى للقضاء: أحدثَ بمقتضى أحكام القانون الأساسي عدد 34 لسنة 2016 مؤِرخ في 28 أفريل 2016، وانعقدت أول انتخابات لأعضائه في 23 أكتوبر 2016. بالإضافة إلى أهميته كمؤسسة دستورية لها دور هام في السعي إلى استقلالية القضاء فإن هذا المجلس له الحقّ حسب دستور 2014 في اختيار ثلث أعضاء المحكمة الدستورية (الفصل 118).

-الهيئة الوطنية لمكافحة الإتجار بالأشخاص: أنشئت بمقتضى الفصل 44 من  القانون الأساسي رقم 61 لسنة 2016 المؤرخ 3 أوت 2016. وبدأت العمل في فيفري 2017. وهي لا تعدّ من بين الهيئات المستقلة، إذ أنها مُلحقة بوزارة العدل وكل أعضائها معينين. كما لا تتمتع بالاستقلال المالي والإداري، إلا أنها جاءت في سياق من “الحماس” لتأسيس الهيئات. 

-تقنين الهيئات الدستورية: ألزمَ المجلس الـتأسيسي أعضاء أوّل مجلس تشريعي ينتخب بعد المصادقة على دستور 2014 بإنشاء المؤسسات والهيئات المدسترة ووضَعَ آجالا محددة للقيام بذلك. منذ سنة 2015 وإلى حدود الأشهر الأخيرة من العهدة النيابية أصدر مجلس نواب الشعب جملة من القوانين الأساسية ضمن هذا المسعى. ففي ديسمبر 2015 تمت المصادقة على القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية. كما تم إصدار القانون الأساسي عدد 59 لسنة 2017 مؤرّخ في 24 أوت 2017 المتعلق بهيئة الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد، ثم القانون الأساسي عدد 51 لسنة 2018 مؤرخ في 29 أكتوبر 2018 المتعلق بهيئة حقوق الإنسان، وبعدهما القانون الأساسي عدد 60 لسنة 2019 المؤرّخ في 9 جويلية 2019 والمتعلق بإحداث “هيئة حقوق الإنسان”. إضافة إلى كل هذا تمّت المصادقة على القانون الأساسي عدد 47 لسنة 2018 المؤرخ في 7 أوت 2018 المتعلق بالأحكام المشتركة بين الهيئات الدستورية المستقلة. لكن كل هذه القوانين بقيت حبرًا على ورق ولم تُفضِ إلى تنصيب الهيئات المعنية. أما بالنسبة لهيئتيْ الانتخابات والاتصال السمعي البصري فلم يتم أصلا التوصّل إلى إصدار قوانين أساسية، واقتصر الأمر على تجديد ثلث أعضاء الهيئة العليا المستقلة للانتخابات (الثانية) في جانفي 2017، ثم انتخاب رئيس جديد لها في نوفمبر من نفس السنة (بعد استقالة رئيسها السابق شفيق صرصار). وحتى مشروع القانون الأساسي عدد 97 لسنة 2020 المتعلق بهيئة الاتصال السمعي البصري الذي عَرَضته حكومة يوسف الشاهد على مجلس النواب في نوفمبر 2017 لم تتمّ المصادقة عليه، وسَحَبته حكومة هشام المشيشي في أكتوبر 2020. 

السياقات والمطبّات والمآلات

كل واحدة من الموجات الثلاث التي أشرنا إليها أعلاه أتت في سياق خاصّ بها، أثَّرَ بأشكال مختلفة على مدى حماس وجدية الحاكمين والمشرّعين في إرساء الهيئات المستقلة.

الموجة الأولى حَكمَتها الضرورة، إذ أنه بالرغم من سعي النظام التونسي إلى ترميم جسده -بعد سقوط رأسه في 14 جانفي 2011- عبر حكومتي محمد الغنوشي 1 و2، بَانَ جليّا سواءً من خلال اعتصامي القصبة 1 (جانفي 2011) والقصبة 2 (فيفري 2011) في العاصمة أو الاحتجاجات الضخمة والمستمرة في أغلب مناطق البلاد أن حركة الشارع لن تهدأ بمجرد إحداث تغييرات سطحية في بنية النظام، وأن الاستمرار في مماطلة المنتفضين قد يحوّل الانتفاضة “المحدودة” إلى ثورة عارمة وشاملة.

ولتخفيف الأضرار انتقلَ النّظام من المناورة العبثية إلى التفاوض مع “المعارضة التاريخية” وقَبِلَ بالتنازل عن مربّعات من السلطة مقابل تجنّب الانهيار التامّ. تمثلت الخطوة الأولى في إصدار مرسوم رئاسي في 18 فيفري يقضي بتأسيس “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي”. هذه الهيئة “الثورية” غير المنتخبة جاءت بها سلطة تنفيذية مؤقتة وغير منتخبة هي الأخرى، فأعطت كل واحدة منهما بعض الشرعية. مُنحَت الهيئة بعض صلاحيات المجالس التشريعية لكن مع الاقتصار على القوانين المتعلقة بالانتقال الديمقراطي، أساسا انتخابات المجلس التأسيسي، وإن تمتعت بحق إبداء الرأي في أداء السلطة التنفيذية (التي كانت أيضا تمارس التشريع عبر المراسيم). انطلقت أشغالها في 15 مارس 2011 بـ 71 عضوا، وأصبحوا أكثر من 150 نهاية شهر أفريل من نفس السنة. وضمت أغلب تيارات ومكونات المعارضة “التاريخية” (إسلاميين، يساريين، قوميين). وحتى القوى “الراديكالية” التي رفضت الدخول إلى الهيئة من باب الأحزاب السياسية، ولجَ جزء هام منها عبر “شبّاك” النقابات ومنظمات المجتمع المدني.

تعيين الباجي قايد السبسي رئيسا للحكومة في 27 فيفري 2011، كانت الخطوة الثانية التي مكّنت هذه  الدولة القديمة من التقاط أنفاسها، إذ استطاعت أن تكسب تأييد قطاع واسع من التونسيين المنتمين إلى الشرائح العمرية الأكبر سنّا وجزء هام من المنتمين إلى الطبقات الوسطى التي لم تكن متحمسة كثيرا لاستمرار فوران الشارع وارتفاع سقف المطالب. أما الخطوة الثانية فجاءت عبر حلّ الحزب الحاكم الذي كان الواجهة المدنية للديكتاتورية طيلة أكثر من نصف قرن، أي “التجمع الدستوري الديمقراطي”، في 9 مارس 2011. ويُمكن أن نضيف خطوة رابعة وإن لم تكن بنفس أهمية الخطوات الأولى، ألا وهي تأسيس “الهيئة الوطنية المستقلة لإصلاح الإعلام والاتصال” في بداية مارس 2011.  في 23 مارس من نفس السنة، صدر مرسوم التنظيم المؤقت للسلط العمومية، وفي الفترة نفسها شرعت “الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة” في النقاش حول قانون انتخابات المجلس التأسيسي وانتهت إلى المصادقة عليه في 11 افريل 2011، وعنه انبثقت هيئة جديدة في 18 أفريل: “الهيئة العليا المستقلة للانتخابات” (الأولى). وهكذا صار جليا أن “النظام القديم” أو “الدولة العميقة” أو أيّا كانت التسميات استطاع كبح “المسار الثوري”، وكان “الثمن” الذي دفعه هو الانخراط في “مسار الانتقال الديمقراطي”. هذا لا يعني أن هذه الهيئات كانت أدوات طيّعة في أيدي السلطة التنفيذية أو أنها سعت جاهدة إلى تصفية “المسار الثوري”، حيث شاب العلاقة بينها وبين الحكومة كثيرٌ من التوتر الحاد سواء عندما تعلق الأمر بصلاحيات متنازع عليها أو عند تلكؤ السلطة التنفيذية في السير قدما في طريق الانتقال الديمقراطي.

لكن يبقَى دَور الهيئات التي أحدِثَت خلال تلك الفترة مُعقّدًا. فهي من جهة ساهمَت في سدّ الفراغ النّاجم عن حلّ مجلس النواب وعدة مؤسسات وهياكل سياسية أخرى وساهمت في كبح مساعٍ سلطوية للعودة إلى الوراء ورفعت أيدي وزارة الداخلية عن الانتخابات وأيدي وزارة الاتصال عن الإعلام، ومن جهة أخرى كانت شريكا للدولة في رسم “خارطة طريق” انتقالية لم تكن مطابقة كثيرا لمطالب المنتفضين في شتاء 2010 / 2011 ذات المضمون الاقتصادي والاجتماعي الواضح. وحتى لا نظلم هذه الهيئات ونحملها مسؤوليات لا علاقة لها بها، يجب التذكير بأن دورها الرئيسي كان يتعلق بالإصلاح السياسي وخلق الشروط الضرورية لتمكين التونسيين من انتخاب سلطة شرعية تكون هي المسؤولة على بناء نظام سياسي واجتماعي-اقتصادي جديد: إبعاد الفاعلين في النظام القديم من الحياة السياسية، “حياد” الإعلام، شفافية العملية الانتخابية، إلخ.

انتخاب المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011 وفوز قوى كانت معارضة لحكم بن علي بأغلب المقاعد (الإسلاميين أساسا، واليسار الديمقراطي-الاجتماعي) شكّل بداية الموجة الثانية من تأسيس الهيئات بمنطلقات مختلفة عن تلك التي أثرت في الموجة الأولى. أنشئت خلال هذه الفترة خمس هيئات عمومية مستقلة، ونصَّ الدستور الذي صادقَ عليه المجلس على إحداث خمس هيئات دستورية، بالإضافة إلى محكمة دستورية (هيئة قضائية مستقلة). وكاد أن يكون العدد أكبر من ذلك بكثير، ففي  تقرير لجنة الهيئات الدستورية (المجلس الـتأسيسي) الصادر في 4 جوان 2012 نجد أن أعضائها  ضبطوا -بعد التواصل مع أحزاب ونقابات وخبراء دستوريين وجمعيات وائتلافات مدنية- قائمة أولية للهيئات الدستورية تضم 32 هيئة بالتمام والكمال (من بينها المحكمة الدستورية)، قبل أن يقرّروا بعد المشاورات والاستماعات لعدة فاعلين وخبراء (كان قيس سعيّد من بين “الخبراء” الذين استمعت إليهم اللجنة)، ومراجعة المدونة القانونية التونسية وقائمة الهيئات الموجودة سابقا، وأن تقتصر الدسترة على خمس هيئات فقط (تلك التي سترد فيما بعد في الباب السادس من دستور 27 جانفي 2014).

هذا الحماس لتأسيس هيئات مستقلة ودسترَتها يمكن أن يفسّر بثلاثة منطلقات/ هواجس كانت لدى المؤسسين:

أولا تصفية إرث الديكتاتورية في شقيه الحقوقي-السياسي (هيئة الحقيقة والكرامة مثالا) والاقتصادي (الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد)،

ثانيا وضع ضمانات لعدم العودة إلى نظام حكم تسلطي، باعتبار أن الهيئات المستقلة ستكون -نظريا على الأقل- رقيبا على السلطة بشكل يمنعها من التغوّل وانتهاك الحقوق وضرب الفصل بين السلطات. ويجب أن نذكّر هنا بمناخ انعدام الثقة الذي كان سائدا في المجلس التأسيسي وخارجه، فالقُوى “الديمقراطية” و”التقدمية” كانت متخوّفة بشدة من هيمنة حركة النهضة على السلطة آنذاك وما يعنيه ذلك من إمكانية صياغة دستور على مقاسها والانفراد بالحكم فيما بعد، فضلا عن الجانب الأيديولوجي المتعلق بـ”أسلمة ” الدولة وضرب “مدنيتها”. هذا التخوّف سيتحوّل إلى صراع محتدم بعد تتالي الاغتيالات السياسية والعمليات الإرهابية والقمع العنيف لحركات احتجاجية خلال فترة حكم الترويكا.

وثالثا تبني المصطلحات والمفاهيم السياسية الرائجة في “الديمقراطيات العريقة” خلال العقود الأخيرة مثل الحوكمة الرشيدة واللامركزية والرقابة على السلطات والهيئات التعديلية والتوزيع الأفقي للسلطة. وطبعا لهذا التبنّي غايات منفعية مثل الدعاية للـ”ديمقراطية التونسية الناشئة” التي يجب دعمها سياسيا وماليا من قبل دول “العالم الحرّ”.

وفي كل الأحوال لا يمكن إنكار الدور القوي الذي لعبته مكونات من المجتمع المدني في اقتراح تأسيس هذه الهيئات والضغط لتسريع النقاش حولها وتقنينها، والضغط ميدانيا وإعلاميا لتعديل الوجهة في حالات الانحراف عن المبادئ الأصلية.

الموجة الثالثة والأخيرة من مسار الهيئات المستقلة تزامنَت مع ما يفترض أنه نهاية “المسار الانتقالي” وبداية الوضع الدائم بعد انتخاب مجلس نواب الشعب ورئيس جمهورية بشكل مباشر أواخر سنة 2014. وكانت المهام الأولى للمنتخبين الجدد أن يستكملوا إرساء المؤسسات التي نصّ عليها دستور 2014. وكما أظهرنا سابقا صادق برلمان 2014 – 2019 على عدة قوانين ذات صلة بالهيئات الدستورية والهيئات المستقلة عموما. لكن التوصّل إلى توافقات حول النصوص القانونية ثم تنصيب مجالس الهيئات لم يكن بالأمر الهيّن، فلقد انتقلنا من أجواء “الثورة” إلى مرحلة “استرجاع هيبة الدولة”، وخلَق تردي الأوضاع الأمنية والاقتصادية خلال فترة حكم “الترويكا” نوعا من الحنين إلى زمن الديكتاتورية وما كانت توفره من “أمن وأمان” وضبط للسوق وأسعار المواد الغذائية.

فقدت أهداف الثورة بريقها بعد تتالي خيبات الآمال، ولم تعد للديمقراطية والحريات نفس الأولوية عند عدد متزايد من التونسيين. كما أن الائتلاف الحاكم الذي نتج عن “صفقة” توافق نداء تونس وحركة النهضة لم يكن متحمّسًا جدّا لتركيز هيئات ومؤسسات قد تحدّ من سلطته وتقيّد يديه. وزادت الأمور سوءً بعد تفتّت كتلة نداء تونس لتصبح حركة النهضة القوة الأكبر في البرلمان، بعد أن كانت الثانية، وكذلك مع احتدام الصراع في السلطة التنفيذية بين رئيس الحكومة يوسف الشاهد ورئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي. أسهمت أيضا ظاهرة “السياحة الحزبية” في إضعاف قدرة المجلس النيابي على الوصول إلى توافقات كبرى. كما أشار ملاحظون وخبراء قانونيون إلى أن بعض الشروط التي وضعَهَا الدستور ثم القوانين الأساسية للهيئات عقّدَ الأمور من حيث الشروط التي يجب توافرها في المترشّحين للعضوية، وكذلك من ناحية حجم الأغلبيات المطلوبة لانتخاب أعضاء هذه الهيئة أو تلك. ونبّهَ بعضهم إلى وجود تداخل في مجالات عمل بعض الهيئات خاصّة ذات الطابع الحقوقي. ولا يجب ان نُغفل الشكوك التي كانت تحوم حول مدى استقلالية رؤساء وأعضاء عدة هيئات عن السلطة الحاكمة وبقية الأحزاب، فضلا عن الاتهامات بسوء التصرف في المال العام وضعف نجاعة بعض الهيئات.

في المحصلة، لم يتم تركيز أي واحدة من الهيئات الدستورية الخمس التي نص عليها دستور 2014 ولم يتمّ التوصّل إلى توافق جدي حول أعضاء المحكمة الدستورية. في المقابل، حصلَ تقدّم نسبي في تركيز هيئات مستقلة غير مدَسترة. والملاحظ أن أغلبها ذو طابع حقوقي، وقد دخل بعضها مثل الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب في صراع قوي وطويل الأمد مع السلطة التنفيذية لفرض تغييرات حقيقية على مستوى السياسات الجزائية والممارسات الأمنية، وعدم التعامل مع الهيئات المستقلة كأدوات ترويجية للـ”ديمقراطية التونسية الفتية” تستغلها السلطة السياسية لتلميع صورتها لدى المجتمع المدني و”الشركاء” الغربيين.

بعد المدّ جاء الجزر على مرحلتين، الأولى مع ولادَة برلمان 2019 والثانية بعد “موته”. أبانت نتائج تشريعيات ورئاسيات 2019 عن أزمة سياسية عميقة وأظهرت أن جزءا هامّا من الرأي العام ضاقَ ذرعا بـمسار الانتقال الديمقراطي وتتالي حكومات “المحاصصة” التي زادت الأوضاع الاقتصادية- الاجتماعية الصعبة تعقيدا. صناديق الانتخابات بيّنَت أن الشخصيات والقوى السياسية “التقليدية” بمختلف خلفياتها الأيديولوجية صارت منبوذة وعاجزة عن إقناع أغلب التونسيين، في حين حظيَتْ الشخصيات والتيارات الشعبوية ذات النبرة الحادة والبرامج الخاوية بنجاح كبير. وربما لو تعاملت “النخب” مع هذا المعطى بواقعية آنذاك وخرجت من حالة الإنكار لما وصلت البلاد إلى الوضع الخانق والضبابي الذي تعيشه اليوم.

منذ الجلسات الأولى للبرلمان الذي أفرزته تشريعيات 2019 ترسّخَت حالة من الاستقطاب الحادّ والاستعراضي وحتى العنيف بين مختلف الكتل البرلمانية، خاصة كتلتي “ائتلاف الكرامة” و”الحزب الدستوري الحر”، بشكل عطّلَ فعليّا إمكانية النقاش حول قوانين عادية. فما بالك بالتوافق حول أعضاء هيئات دستورية. فَاقم انتشار وباء كوفيد 19 مطلع سنة 2020 الأمور وعطّلَ الحياة السياسية خلال فترة الحجر الصحي (مارس/ جوان 2020). تضافرت الأزمة الوبائية مع أزمة سياسية انتهت بإستقالة رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ منتصف جويلية 2020 لتَدخلَ البلاد حالة من الانسداد اتسَمَت بتقصير حكومي قاتل في إدارة الموجتين الثانية والثالثة من انتشار الوباء، وتعفّن مخيف للأجواء في مجلس نواب الشعب. غاب النقاش الجدي حول الهيئات الدستورية، واقتصرَ على مناورات من هنا وضربات من هناك: إقالة شوقي الطبيب الرئيس الأسبق للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد في أوت 2020، طرح ائتلاف الكرامة في ماي 2020 مبادرة تشريعية لتنقيح المرسوم 116 لسنة 2011 المتعلق بالاتصال السمعي البصري كان الهدف الأساسي منها تقليص صلاحيات “الهايكا”، نشر التقرير النهائي لهيئة الحقيقة والكرامة في الرائد الرسمي في جوان 2020 لكن من دون أي أثر في الواقع، سحب حكومة المشيشي لمشروع القانون المتعلق بالهيئة المستقلة للاتصال السمعي البصري في أكتوبر 2020، رفض الرئيس قيس سعيد في أفريل 2021 ختم القانون الأساسي عدد 39 لسنة 2018 المتعلّق بتنقيح قانون المحكمة الدستورية والإذن بنشره في الرائد الرسمي، إلخ. وإذا كان ما عاشته الهيئات المستقلة في فترة برلمان 2019 “ظلمة” فإن ما ستتعرض له بعد 25 جويلية 2021 “ظلمات”.

جاهرَ الرئيس سعيّد هذه الهيئات بالعداء منذ الأسابيع الأولى لسيطرته على السلطة التنفيذية. في 20 أوت 2021 تم إغلاق المقرين المركزيين للهيئة الوطنية لمكافحة الفساد وأمرَ بإخلائهما من جميع العاملين فيهما والتحفّظ على الوثائق المحفوظة هناك. كما تمّت إقالة الكاتب العام للهيئة لتدخل هذه الأخيرة في حالة من العطالة ما زالت قائمة إلى اليوم. ثم أصدر قيس سعيد الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 مؤرخ في 22 سبتمبر 2021 المتعلق بتدابير استثنائية، من بينها إلغاء الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين (الفصل 21). بعدها جاءَ الدور على المجلس الأعلى للقضاء الذي أعلن سعيّد حلّه في 5 فيفري 2022  ليستبدله بـ”المجلس الأعلى المؤقت للقضاء” الذي أحدثَ بمقتضى المرسوم الرئاسي عدد 11 لسنة 2022  ومتّعَ رئيس الجمهورية بإمكانية التعيين المباشر لـ9 أعضاء من جملة 21 عضو. وكان من “المنطقي” بعد كل هذا أن يصدر المرســـوم الرئاسي عدد 22 لسنة 2022 مؤرخا في 21 أفريل 2022 المتعلّق بتنقيح بعض أحكام القانون الأساسي عدد 23 لسنة 2012 المؤرخ في 20 ديسمبر 2012 المتعلّق بالهيئة العليا المستقلة للانتخابات وإتمامها. نصَّ هذا المرسوم على تخفيض عدد أعضاء الهيئة من تسعة إلى سبعة يعيّنهم جميعا رئيس الجمهورية، بعد اختياره لثلاثة منهم بشكل مباشر والموافقة على ثلاثة آخرين تقترحهم مجالس القضاء العدلي والإداري والمالي وعضو سابع -مهندس في مجال السلامة المعلوماتية- ترشّحه جهة حكومية وهي “المركز الوطني للإعلامية”.

مسار التجميد والإلغاء والإلحاق سيبلغ أقصاه مع المصادقة على دستور 25 جويلية 2022 الذي تجاهل الهيئات الدستورية التي نصّ عليها دستور 2014 ما عدا الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي خصّص لها الباب الثامن (الفصل 134) من دون توضيح مدى استقلاليتها الإدارية والمالية ولا تحديد كيفية اختيار أعضائها التسعة، وهل سيكون ذلك بالانتخاب أم بالتعيين؟ أما المحكمة الدستورية (الباب السادس من الدستور الجديد) فقد نصّت الفصول المخصصة لها على تسمية أعضائها التسعة -كلهم قضاة في المراحل الأخيرة من مسيرتهم المهنية- بأمر رئاسي مع تحديد صفاتهم. وإلى حد كتابة هذه السطور، لم يُصدر مجلس نواب الشعب الذي انطلقت أعماله في مارس 2023 قوانين تتعلّق بهيئة الانتخابات أو بالمحكمة الدستورية. ولم يتوقّف الأمر عند هذا الحدّ. فمثلا تُعاني “الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري” منذ أشهر طويلة من حالة عطالة تُقارب الموت السريري -أقيل رئيسها في فيفري الماضي بشكل غير مباشر عبر إحالته على التقاعد بصفته موظفا عموميا- لم تحرك السلطة التنفيذية ساكنا لإخراجها منها، إذ لم يُعيّن رئيس الجمهورية رئيسا جديدا للهيئة ولم تقترح حكومته أو الكتل النيابية مبادرات تشريعية لتقنين وتنصيب هيئة دائمة. ومن الواضح أن السلطة السياسية في تونس اليوم ليست متحمّسة لإنعاش “الهايكا”. فلقد تجاهلتها تمامًا عند تعيين رؤساء مديرين عامين جدد لمؤسسات إعلامية عمومية في المدة الفائتة. هذا الموقف العدائي تجاه الهيئات المستقلة منسجم تماما مع “ثوابت” مسار 25 جويلية: لا مجال للسلطات المضادة والأجسام الوسيطة، لا مجال للتشاركية وللأفقيّة فالدولة هي رئيس الجمهورية ورئيس الجمهورية هو الدولة، لا مجال لإبراز أي “نقطة ضوء” من “العشرية السوداء”. هذه “الثوابت” لا تقتل فقط أحلام بناء نظام ديمقراطي تشاركي بل هي تنسف أيضا عشر سنوات من صراع الإرادات والنقاشات والتشريعات والتكوين والتمويلات، إلخ.

“إن التاريخ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، ولكن في باطنه نظر وتحقيق”، هكذا تحدّث ابن خلدون. لا ينفع اليوم “البكاء على اللبن المسكوب”، لكن من المهمّ تفحّص جزئيات فترة هامة من تاريخ البلاد يراد اختزالها وتحقيرها وشيطنتها عبر تسميتها بـ”العشرية السوداء” دون أي تنسيب للأمور أو أدنى نزاهة فكرية. يمكن تسميّتها بعشرية الفرص المهدورة، ومن الضروري تحديد من أهدرها وتحميله المسؤولية السياسية والأخلاقية وحتى القانونية. وبما أن المفاضلات والمقارنات صارت رياضة وطنية شعبية في السنتين الأخيرتين فإن السعي المتعثر يبقى أفضل بكثير من النكوص المستمر.

انشر المقال

متوفر من خلال:

لبنان ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني