الهشاشة في زمن الكورونا: الدولة تبحث عن “مواطنيها” الفقراء


2021-03-03    |   

الهشاشة في زمن الكورونا: الدولة تبحث عن “مواطنيها” الفقراء
رسم عثمان سلمي

عشية إعلان الحجر الصحي الشامل، في أواخر شهر مارس 2020، كان على الحكومة التونسية إقناع الملايين من الناس–خاصة الفئات الهشة منهم- بملازمة بيوتهم واحترام قواعد التباعد الجسدي والاجتماعي، بهدف إيقاف نسق الحياة العادي الذي فرضته بشكل كبير محدودية الخدمات الصحية العامة في البلاد. وقد حاول الخطاب الحكومي التأسيس لحجج صحية-اجتماعية ترفع عنه الإحراج وتُوهم بحضور قوي وفاعل للدولة من أجل الحد من مخاطر العَطالة الشاملة.

في تلك الفترة، جاء الخطاب الأول لرئيس الحكومة[1] السابق إلياس الفخفاخ، في 21 مارس 2020، ليُعلن بداية الإجراءات الحكومية الرامية إلى مواجهة وباء كورونا، وقد استعرض الفخفاخ حجم الاعتمادات المالية التي خُصّصت للأزمة، والتي قدّرَها بحوالي 2500 مليون دينار، ولن يكون نصيب الفئات الهشة ومحدودي الدخل والفئات ذات الاحتياجات الخصوصية منها سوى 150 مليون دينار، إضافة إلى 300 مليون دينار مساعدات للعمال المُحالين على البطالة الفنية، وهي في الحقيقة أيضا شكل آخر لدعم المؤسسات والشركات حتى لا تتحمّل صرف قسط من أجور عمالها خلال فترة الحجر الصحي.

خلال الخطاب الثاني[2]، الذي بُثّ في شكل حوار تلفزي في 02 أفريل 2020، حاول رئيس الحكومة الظهور بصورة أكثر واقعية في تحليل الأزمة واستتباعاتها الاقتصادية والاجتماعية، محاولا بناء حجيّة التدخل الحكومي من داخل فكرة “المصلحة العامة”. وانسجاما مع جرعة “الصراحة الاضطرارية” الذي فرضها الفيروس على حكّام العالم، سعى إلياس الفخفاخ إلى استعراض بعض الإحصائيات الاجتماعية بوصفها حقائق صادمة ومجهولة. لذلك صرّح أنه كان يجهل وجود أكثر من 100 ألف متقاعد جرايتهم أقل من 180 د في سنة 2020، وأن هناك إحصاءً حكوميّا أوّليا يشير إلى وجود 630 ألف مواطن خارج منظومة الإعانة وخارج منظومة التغطية الاجتماعية والتأمين الصحي. ولكن هذا الأخير استعرض هذه المعطيات النسبية بوصفها جزءاً من النقائص التي فجّرها الضغط المؤقت للجائحة وليست كدلالة قوية على أزمة بنيوية عميقة تراكمت طيلة عقود.

الفقراء: “رعايا” بلا روابط دولاتية

من أجل صرف الإعانات (منحة قيتها 200د) لجأت حكومة إلياس الفخفاخ إلى بطاقات العلاج بالتعريفة المنخفضة (البطاقات الصفراء) كآلية اجتماعية وحيدة مُتاحة من أجل الوصول إلى الآلاف من الأسر التونسية المصنّفة ضمن الفئات الهشة، وقد كشفت هذه الآلية عن عدم نجاعتها نظرا لضعف الرّقمنة وغياب التحيين. وهو ما حرَمَ الكثير من مستحقي الإعانة من الانتفاع بها. وأمام هذا القصور في إيجاد آليات اجتماعية ورقمية تربط الدولة بفقرائها، استعانت الحكومة بالعُمَد والمعتمدين من أجل إعداد قائمات إضافية تشمل المحرومين من الإعانات، وقد سقط هذا الإجراء في الانتقائية والمحسوبية ممّا أثار الكثير من السخط الاجتماعي في الأرياف والمدن الداخلية.

لقد أدرك العقل السلطوي منذ بداية الجائحة أن هناك كتلة بشرية هائلة تسكن في الأرياف والمناطق الداخلية وأحزمة المدن الحضرية الكبرى، يجب ترويضها والسيطرة عليها لأنها تشكّل تهديدا صحيا واجتماعيا. ولكن مع بداية الطريق، وجدت الحكومة نفسها أمام رهان إحصائي لم تستطع الآليات الاجتماعية البالية –التي تعود لستينات القرن الماضي-الإجابة عليه. هذا العجز عن الوصول إلى شرائح واسعة من المجتمع جعل مشروع “الدولة الوطنية”، التي تزعم مختلف النخب الحاكمة الانتساب إليه، يصطدم بمحدوديته التاريخية في تعميم مجالات الرعاية الاجتماعية وعدم قدرته على نسج روابط دولاتية (نسبة إلى الدولة) مع الأفراد قائمة على فكرة التأسيس لمواطنة حرة وعادلة، وإنما تأسّس التعاقد الاجتماعي بين الدولة والمجتمع -في جزء كبير منه-على منطق الإمتثال أو الزبونية. على هذا الأساس، شكلت العودة إلى مؤسسة “العمدة”[3] بالخصوص دلالة ذات بعدين: يتمثل البعد الأول في الدور التاريخي الذي لعبته هذه المؤسسة في ربط السلطة المركزية بالأطراف وضمان انتشارها الهيمَني على المجال والسكان وقد كانت الرديف السلطوي لحزب الدستور الحاكم في تعميم الرقابة والامتيازات. أما البعد الثاني فيتمثل في استمرارها التاريخي زمن الجوائح والأزمات كعلامة على عدم النجاح في إعادة التأسيس لتعاقد اجتماعي جديد ينسجم مع الانتظارات الشعبية الواسعة التي حفزتها الثورة.

الهشاشة الاجتماعية: عامل واحد بوجوه متعددة

تزامنا مع إعلان فترة الحجر الصحي، اتجهت الاستراتيجية الاتصالية للحكومة نحو التركيز على الحاجيات الأساسية لإدارة الأزمة والتي تتمثل في الصحة والغذاء. ولئن ساهمت حالة العطالة العامة والالتزام المُواطني النسبيّ بالحجر في تقليص الضغط الوبائي على الخدمات الصحية المترهّلة، فإن الحكومة راهنت أيضا على الروابط التضامنية الأولية داخل المجتمع من أجل التخفيف من المخاطر المعيشية للجائحة. وهو ما عبر عنه رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ من خلال استعارة صورة العائلة المتضامنة التي يتحمل داخلها الأكثر رفاهية مسؤولية إعالة الأكثر فقرا. ولئن لم يُفلح رئيس الحكومة في إقناع أثرياء البلاد بهذه الصورة المستعَارة، فإن الديناميات المدنية والاجتماعية كانت جاهزة من أجل الوقوف إلى جانب فئات واسعة محرومة، تُحرّكها في ذلك دوافع مواطنية وأخلاقية ودينية، وهو ما عبّرت عنه على الأقل الحملة المعروفة في مواقع التواصل الاجتماعي بـ”كوجينة الزوالي” (مطبخ الفقير).

ولكن الوباء بصراحته الاستثنائية أعاد إنتاج مشهدية التفاوت الاجتماعي والجهوي بوصفها إشارات دائمة على بنيوية الأزمة الاجتماعية والاقتصادية. وقد كانت الصفوف الشعبية العريضة أمام مكاتب البريد ومحلات التغذية العامة وأمام مقرات الولايات والمعتمديات دليلا على الاختلالات. فالمشهد لا يتعلق بحالة عَطالة مؤقتة فرضتها الأزمة، وإنما أظهر جموعا من المحرومين من الضمان الاجتماعي والحق في النفاذ إلى الخدمات الصحية، وحقوقا أخرى متعلقة بالسكن والتهيئة العمرانية أظهرتها مشاهد الاكتظاظ التي شهدتها الأحياء الشعبية في العاصمة وغيرها من الحواضر الكبرى، إضافة إلى الفقر المالي الذي عانته العديد من الفئات التي كانت تعيش على أجور يومية على غرار “البرباشة”[4] وباعة الخردة وجزء لابأس به من عمال المقاهي وحضائر البناء. وقد عبرت هذه الهشاشة عن نفسها من خلال وجوه عدة متداخلة، ارتبط داخلها الفقر المالي بغياب الخدمات الأساسية، وهو ما أكده التقرير الأخير[5] الذي أصدره المعهد الوطني للإحصاء بالتعاون مع البنك الدولي، الذي خلص إلى وجود ارتباط قوي بين الفقر وغياب الخدمات الأساسية، إذ أن الجهات الأكثر فقرا هي الأقل ارتباطا بالخدمات الأساسية على غرار الماء الصالح للشراب والصرف الصحي والغاز والكهرباء.

ومن هذا المنطلق شكلت ثنائية الإقصاء/ الإدماج مدخلا لفهم الروابط بين الدولة والمجتمع من جهة وبين المركز والأطراف من جهة أخرى. ففي الوقت الذي ظهرت فيه بعض الفئات أكثر ارتباطا بالدولة وخدماتها، بانت شرائح أخرى واسعة خارج مجالات الرعاية والتدخل، وهو ما جعل ماهر حنين، الباحث في علم الاجتماع، يدعو في دراسته “سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا”[6] إلى ضرورة الربط بين الهامشية والإدماج، قائلا: “لا تقتصر قيمة الموازي والهامشي في كونه قادح مؤقت أو مؤجج مستمر لقيم الشفقة والعطف على أهميتها، بل لعلّ دخوله هذه المرة الفضاء العمومي باستحقاق فرضه الوباء يجعل من الإدماج الاجتماعي (العمل، الاعتراف، الحماية الصحية والاجتماعية) وكذلك السياسي مسألة حيوية بل شرطا حاسما في مسار التحول الديمقراطي”.

الخروج من الحجر: الهوامش أكثر إرهاقا

بداية شهر ماي 2020، شرعت حكومة إلياس الفخفاخ في تنفيذ خطة الخروج من الحجر الصحي الشامل بشكل تدريجي. ومع قدوم شهر جوان واتجاه الوضع الصحي بالبلاد نحو التحسن، بدأت العوارض الاجتماعية والاقتصادية في الظهور. وقد جاء أول الاعترافات من داخل الدوائر الرسمية نفسها، حيث كشفت وزارة الاستثمار والتعاون الدولي في دراسة[7] أجرتها بالشراكة مع البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة أن الحجر الصحي ساهم في ارتفاع نسبة البطالة وخلق ما يقارب 247.500 عاطل جديد عن العمل. وتشير هذه المعطيات إلى أن الإجراءات الحكومية زمن الحجر الشامل جاءت لتلطيف الأزمة ولم تكن ذات صبغة حمائية تجعلها قادرة على الحفاظ على النسق القديم للبطالة. فقد اكتفت الحكومة بإسناد منحة “البطالة الفنية” التي تبلغ قيمتها 200 دينار تاركة مصير الآلاف من العمال والموظفين بيد الشركات وأرباب العمل.

من جهة أخرى أشار تقرير شهر جوان [8]2020 حول الاحتجاجات الجماعية والانتحار والعنف، الذي يصدره المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، إلى ارتفاع منسوب الاحتقان الاجتماعي في العديد من المناطق، خاصة الداخلية منها، في إثر شروع الحكومة في تطبيق خطة الخروج من الحجر الشامل. وقد لاحظ التقرير أنه “بلغ عدد الاحتجاجات والتحركات الاجتماعية المرصودة من قبل وحدة الرصد طيلة شهر جوان 934 تحرك احتجاجي وهي النسبة الأرفع لمنسوب الاحتقان الاجتماعي لهذا الشهر طيلة ثلاث سنوات رغم الوضع الاستثنائي الذي عاشه الناس بسبب جائحة كورونا”. وحسب التقرير ذاته، ارتبطت هذه الاحتجاجات بفقدان العديد من العاملات والعمال مواطن شغلهم القديمة، بسبب حالات التسريح أو إغلاق بعض المؤسسات. ومن الملفت للانتباه أيضا أن العطش شكّل أحد محاور الاحتجاج بسبب انقطاع مياه الشرب أو مياه الري في بعض المناطق، وهو ما يعزز الفكرة القائلة بالارتباط العضوي بين الفقر وغياب الخدمات الأساسية على غرار المياه الصالحة للشراب.

غادرت الفئات الهشة فترة الحجر الصحي أكثر إرهاقا وخوفا على مصيرها، لأنها وجدت نفسها في الواجهة الأولى لاستقبال الصدمات الاجتماعية والاقتصادية التي خلّفتها الجائحة. هذا المصير غير العادل عمَّق الوعي الجماعي لدى الشرائح الهامشية بأنها حُمّلت ثمن النجاة من الموجة الأولى للفيروس على عاتقها وعلى حساب قوتها اليومي، في حين خرجت شرائح أخرى -سواء تلك المتوسطة المرتبطة بالنسيج الإداري والخدماتي للدولة أو الأقلية الاجتماعية المرفهة-أقل ضررا من الأزمة. هذا الغبن الذي يزداد تجذرا في الواقع وفي الوجدان، سيظل حالة باعثة على القلق والاحتجاج والسخط الاجتماعي، في ظل استمرار منظومة اللاعدالة التي تقصي من حساباتها الحقوق الأساسية في الحياة للآلاف من الناس على غرار التأمين الصحي والمياه الصالحة للشراب والشغل اللائق.

 

نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة

 

  1. https://www.youtube.com/watch?v=Y8DVTBmloZQ للاطلاع على الخطاب – ضع الرابط التالي:
  2. للاطلاع على الخطاب – ضع الرابط التالي: https://www.youtube.com/watch?v=KJNNIcqtgIU&ab_channel=WataniaReplay
  3. للعمدة صفة ضابط للحالة المدنية بمنطقته. يسمى بقرار من الوالي باقتراح من المعتمد وبعد استشارة الفاعلين سياسيا في المنطقة. ويكون هذا العمدة أصيل المنطقة وعلى دراية بها وبمتساكنيها وله مستوى وكفاءة مشهود بها (وكان يسمى سابقا ” الشيخ ” أو “المحرّك” على رأس ” المشيخة ” وكانت تسميته تتم سابقا بقرار من وزير الداخلية). وقد تطور مفهوم العمدة في تونس من شيخ قبيلة أو رئيس عشيرة إلى عون من أعوان الدولة.
  4. من يمتهنون النبش في المزابل لتحصيل قوتهم اليومي
  5. التقرير الصادر عن المعهد الوطني للإحصاء في 20 سبتمبر 2020 بعنوان خارطة الفقر في تونس / الرابط: http://www.ins.tn/sites/default/files/publication/pdf/Carte%20de%20la%20pauvret%C3%A9%20en%20Tunisie_final.pdf
  6. دراسة بعنوان دراسة: سوسيولوجيا الهامش في زمن الكورونا الخوف – الهشاشة – الانتظارات – صدرت عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية / انجاز الباحث ماهر حنين بتاريخ 13 أفريل 2020.رابط الدراسة: https://docs.google.com/viewerng/viewer?url=https://ftdes.net/rapports/socio.marge.pdf&hl=in
  7. دراسة تمّ إنجازها بالشراكة بين وزارة الاستثمار والتعاون الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي حول تأثيرات جائحة كورونا على الاقتصاد الوطني سنة 2020 بتاريخ 17 جوان 2020
  8. نشرية صادرة عن المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية في شهر جويلية 2020 بعنوان: نشـرية شـهر جوان 2020حول الاحتجاجات الجماعية والإنتحار والعنف.الرابط: https://ftdes.net/rapports/ar.juin2020.pdf

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، جائحة كورونا ، سلطات إدارية ، مؤسسات عامة ، الحق في الصحة ، فئات مهمشة ، تونس ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، الحق في الصحة والتعليم ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني