الهرمل ومدارسها: أعلى مستويات للتسرّب الدراسي


2021-07-26    |   

الهرمل ومدارسها: أعلى مستويات للتسرّب الدراسي
إحدى قاعات التدريس في مدرسة جوار الحشيش (تصوير حسن الساحلي)

لا يقيس معلّم الثانوي المتقاعد شفيق الساحلي موقع الهرمل بالنسبة لبيروت بالمسافة التي تفصل بينهما: “150 كيلومتراً ليست شيئاً مقارنة بالمساحات الشاسعة في البلدان الكبيرة”. المشكلة ليست بالمسافة حيث أنّ لبنان بلد صغير حتى وإن كانت الهرمل هي أبعد المناطق عن العاصمة. “لكن في هذه البلاد كلّما ابتعدت كيلومتراً إضافياً عن المركز تبتعد مسافات ضوئية عن الإنماء والتعليم والخدمات وكل الحقوق”. وما إن أنهى شفيق جملته هذه حتى استرسل في شرح معاناته الذاتية لكسب العلم (كادر). وعندما تسأله عن الفرق بين ما كانت عليه الهرمل يومها وبين حالها اليوم، يضحك ويقول “صار في كتير مدارس صحيح، وصارت الهرمل أكبر بعشرات المرات، بس بعد في ناس ما بتقدر تكفّي علمها من الحرمان والفقر”. يستشهد بقصص كثر من تلامذته بعدما أصبح مدرّساً في ثانوية الهرمل الرسمية ليقول: “كان عندي كتير تلاميذ شاطرين، ما قدروا ينزلوا ع الجامعات لا ببيروت ولا حتى بزحلة، يعني متلي أنا من خمسين سنة لمّن رجعت من بعلبك لأنّه ما معي حق مازوت مع أجرة الغرفة”.

التعليم في المدارس بالأرقام

نعم وضع المدارس في الهرمل اليوم مختلف كثيراً عن الزمن الذي كان شفيق يجهد فيه لكسب العلم. فوفق وزارة التربية الوطنية، يوجد في قضاء الهرمل 23 مدرسة رسمية يتعلّم فيها 7514 تلميذاً وتلميذة. تقع 9 منها في مدينة الهرمل الإدارية، تستقبل 5225 تلميذاً في كل المراحل. ومن بين هذه المدارس ثلاث ثانويات تشمل المرحلة المتوسطة (التكميلية) أيضاً، وتحتضن 1105 تلاميذ، من بينهم 834 طالباً وطالبة في الثانوي. ويعود ارتفاع أعداد طلاب المرحلة الثانوية بالنسبة إلى المرحلة الإعدادية إلى التحاق نسبة مرتفعة من تلامذة المدارس الخاصّة بالثانويات الرسمية، لغياب التعليم الخاص في هذه المرحلة.

أما سائر المدارس الـ14 فتقع في قرى القضاء ويقصدها 2289 تلميذاً. وتضمّ مدارس القضاء ثانوية واحدة تضمّ المرحلة المتوسطة أيضاً (في بلدة القصر الحدودية) و4 مدارس تكميلية والبقية مدارس ابتدائية. ويوجد في ثانوية القصر 183 تلميذاً بينهم 136 في المرحلة الثانوية. وعليه يوجد 970 طالباً وطالبة في المرحلة الثانوية في كلّ قضاء الهرمل (قرى ومدينة).

ويوجد في الهرمل 137 أستاذاً في ملاك وزارة التربية في مقابل 341 أستاذاً رسمياً متعاقداً.

ومن الملفت عدم وجود أيّ مدرسة خاصّة في قرى قضاء الهرمل فيما نجد 14 مدرسة خاصّة في المدينة، بعضها مجاني ونصف مجاني وغير مجاني يقصدها 3873 تلميذاً وتلميذة. وهناك ترخيصان بفتح ثانويتين ضمن المدارس الخاصّة المسجّلة على لوائح وزارة التربية ولكن ليس لها وجود على أرض الواقع[1]. وهذا ما يدفع وفق شهادات مدراء الثانويات الرسمية العديد من تلاميذ المدارس الخاصّة للالتحاق بالثانويات الرسمية.

وعليه، وإذا حسمنا تلاميذ المرحلة الثانوية التي يحتكرها التعليم الرسمي في الهرمل، نصل إلى أنّ تلامذة الهرمل في المرحلتين الابتدائية والمتوسطة ينقسمون على النحو الآتي: 6544 في التعليم الرسمي (أي ما يقارب 63%) مقابل 3873 في التعليم الخاص (أي ما يقارب 37%). ويلتقي هذا الرقم مع أرقام دائرة الإحصاء المركزي (2018-2019) التي تفيد أنّ الطلاب الذين تتراوح أعمارهم بين 3 و 24 سنة في الهرمل “أكثر عرضة للالتحاق بمؤسّسات التعليم الرسمية (64.9%). ويرجّح أن تزيد هذه النسبة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية.

بقي أن نشير إلى أنّ جزءاً من تلامذة الهرمل يلتحقون بمدارس في بلدات الفاكهة ورأس بعلبك والقاع، ومن بينها مدارس للراهبات.

التسرّب الدراسي

لا يوجد دراسات توثّق نسب التسرّب المدرسي في الهرمل، لكن نجد بعض المؤشرات في مسح القوى العاملة والأحوال المعيشية للأسر في لبنان والصادر عن إدارة الإحصاء المركزي (2018-2019). من أهمّ هذه المؤشرات أنّ معدل القيد (التسجيل المدرسي) يبلغ في المرحلة الابتدائية 92,5% ولكنه ينخفض إلى 46,5% في المرحلة الثانوية. وتجدر الإشارة إلى أنّ معدل القيد في الهرمل كان أعلى من المعدل الوطني 87.2% في المرحلتين الابتدائية والتكميلية، ولكنّه أدنى في المرحلة الثانوية: 46% في الهرمل مقابل 54.9% على المستوى الوطني. ويؤشر ذلك إلى أنّ معدلات التسرّب في الهرمل أعلى مما هي عليه على المستوى الوطني.

ويجد هذا المؤشّر تأكيداً لدى مجمل المسؤولين والمدراء في الثانويات في الهرمل الذين أمكننا الاستماع إليهم وطلبوا منّا عدم الكشف عن هوياتهم. ويعزو هؤلاء التسرّب إلى ثلاثة عوامل: (1) تدنّي مستوى التعليم الابتدائي و(2) الفقر الذي يطبع حال عائلات المنطقة والذي يدفع العديد من التلاميذ لدخول سوق العمل في سنّ مبكرة (3) أنّ الأعمال التي تدرّ مداخيل مرتفعة في المنطقة لا تتطلّب شهادات علمية مثل الأعمال غير المشروعة كالتهريب وزراعة القنّب وأيضاً التفرّغ مع الأحزاب وتحديداً حزب الله.

ويجمع هؤلاء على أنّ النسبة الكبرى من التسرّب تحصل لدى الانتقال من المدارس الابتدائية إلى المدارس التكميلية بفعل عدم قدرتهم على التكيّف معها بفعل ضعف التعليم الابتدائي. “من الواضح أنّ هناك مشكلة كبيرة في الابتدائيات الرسمية”، كما يقول أحد المدراء لـ”المفكرة”، ليؤكد أنّ نسبة التسرّب في هذه المرحلة الانتقالية من الابتدائي إلى المتوسّط “تصل إلى 50% في بعض الأحيان”. ويؤكّد المدير نفسه أنّ “غالبية تلامذة ثانويات الهرمل يأتونها من المدارس الخاصّة فيما تأتي نسبة قليلة منهم من المتوسّطات الرسمية حيث نشهد نسبة مرتفعة جداً من التسرّب”.

مدارس بموارد غير كافية

يشير مدير إحدى المدارس الرسمية في حديث مع “المفكرة” (طلب عدم ذكر اسمه) إلى عطب أساسي يتعلّق باختصاصات الأساتذة: “بينقلوا لي أستاذ رياضيات مثلاً أو لغة أجنبية وبيجيبولي محلّه أستاذ أدب عربي ليعلّم رياضيات أو لغة فرنسية، طيّب كيف بدّه يعلم هيدا وبأي مستوى؟” ويؤكد أنّه من “أصل 40 أستاذاً بين مثبّت ومتعاقد هناك 5 أو 6 بيعلموا باختصاصهم فقط”. وانتقال الأساتذة هو مشكلة تعاني منها مدارس الهرمل وخصوصاً في اللغة الفرنسية. ويُجمع مدراء المدارس والثانويات على استمرار مشكلة اللغات الأجنبية في الهرمل وانخفاض مستواها بين التلامذة والطلاب، وعدم وجود خيار غير اللغة الفرنسية في كلّ التعليم الرسمي في القضاء، مع الإشارة إلى بدء إعطاء اللغة الإنكليزية في المرحلة الثانوية ولكن بمستوى مبتدئ. كما يشكو مدراء الثانويات من ضعف تجهيزات المختبرات ممّا يؤثر على الأنشطة التطبيقية في مواد أساسية، وكذلك عدم منح وزارة التربية ساعات تعاقد للأساتذة للعمل في المختبرات، حتى أنّنا لا نجد محضّر مختبر (أي أستاذاً متفرّغاً للعمل التطبيقي والعملي) في أيّ من الثانويات الأربعة المتواجدة في قضاء الهرمل.

ناظر إحدى المدارس يصف واقع الحال بالقول: “مدارسنا تشبه المدارس وليست مدارس حقيقية”. يفنّد توصيفه بـ”عدم وجود بناء مؤهّل، مثلاً عنّا نشّ ورطوبة وروايح عفونة بالصفّ، في بعض المدارس بنيت غرفة ورا التانية، وفي غرف مترين بتلات أمتار، معقول هيدي تكون صف لتلاميذ لازم يستوعبوا ويرتاحوا؟” يضحك ساخراً ليضيف “بتصدّق الناس إذا خبرتهم إنّه حتى مي ما عنّا بالمدرسة؟” يقول إنّه “من إيجابيات كورونا أنّ التلامذة بيقدروا يشربوا من بيوتهم ويفوتوا ع مراحيض فيها مي”. أما بالنسبة إلى الهاتف الأرضي فقد تعطّل قبل 5 سنوات و”حتى اليوم لم يستجيبوا لطلبنا بإصلاحه، في كتير مدارس ما فيها هواتف متلنا”. وقد تفاقم الوضع مع التعليم أونلاين “ما في أكتر من 30% من الطلاب عم يتابعوا الدرس عن بعد ومش كل الأساتذة مؤهلين”. يقتصر الأمر، كما يقول على بعض الأساتذة الذين يرسلون تسجيلاً صوتياً أو فيديو أو صورة مع شرح صغير، وهذا لا شيء مقارنة بالمدارس الخاصّة المؤهّلة أفضل من المدارس الرسمية”. يروي عن والد أحد التلاميذ الذي جاءه شاكياً “عندي تلفون واحد وخمسة تلاميذ، مين بنقّي منهم ليتعلّم؟ وشو بعمل بالباقيين؟”، قال له قبل أن يخبره “السنة عزينا عزا العلم”.

أمّا الطامة الكبرى فهي في “عدم تأمين الدولة الكتب لبعض التلامذة كما كان يحصل في السنوات السابقة حيث كان يجري تبديل الكتب مداورة وبالمجان”، كما يقول “عندي تلاميذ بلا كتب وأهلهم عاجزين يشتروا لهم كتب”. في الأساس، ونسبة لأعمار التلامذة لا يمكن تبديل الكتب في ” الحلقتين الأولى والثانية”. أما ما فعلته الدولة، فقد اقتصر على الطلب من المدارس إبلاغ الأهل بتنزيل الكتب الرقمية “عندي أولاد جُرد بمدرستي، كيف بده ينزّل كتاب رقمي ويدرس عليه هيدا التلميذ؟ وعلى أي جهاز إلكتروني؟”

ويعبّر مدير إحدى المدارس في الهرمل عن تخوّفه من مشكلة التدفئة التي قد تكون عائقاً أمام فتح المدارس في أشهر الشتاء القارسة البرودة. ويقول إنّ مدرسته تحتاج إلى 3 ملايين ليرة ثمن مازوت في الأسبوع “يعني بدنا ستين مليون ع 5 أشهر نضطر فيها لتدفئة المدرسة، بينما لا تزيد إيرادات صندوق الأهل عن 30 إلى 36 مليون ليرة، هذا إذا دفع كلّ الأهالي نظراً إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة”. وبما أنّ صندوق الأهل لا يغطّي ثمن المازوت “يعني نحن سنؤمّن إما نصف التدفئة أو أقل إذا بقيت الأسعار كما هي اليوم مع الدعم، ولكن ماذا عن وضع مدارسنا إذا رفعوا الدعم؟”

الزبائنية حتى في التعليم

يربط معلّم المدرسة والنقابي التربوي ركان الفقيه مشكلة التربية في الهرمل بالوضع الإنمائي العام للقضاء وعاصمته الهرمل وبكلّ المستوى التعليمي الرسمي في لبنان.

وبعدما شدّد الفقيه على استقرار الأستاذ المدرسي الاجتماعي والاقتصادي، رأى أنّ هذا العنصر غير متوفّر ببلوغ نسبة الأساتذة المتعاقدين نحو 70% من مجمل الأساتذة “في أساتذة متعاقدين من عشرين سنة مثلاً” (137 أستاذاً متفرّغاً مقابل 341 متعاقداً). وينتقل الفقيه إلى مشكلة إدارات المدارس المرتبطة بالولاءات السياسيّة في الهرمل كما في كلّ لبنان حيث “يستلم مدير المدرسة أيّاً كان موقعه بناء على ولائه السياسي والحزبي وليس وفق الكفاءة”، وهذا ينطبق على التعليم الأكاديمي كما على المهني في القضاء. وبذلك تتحوّل كلّ مدرسة إلى معقل للجهة السياسية التي أتت بإدارتها، و”هذا ينسحب على الكفاءة والعطاء ومستوى المدرسة”.

في مقابل هذه الإشكاليات التربوية، يتحدّث أساتذة كثيرون عن نهب منظّم في بعض المدارس. ويروي موظّف في إحدى المدارس الرسمية عن بعض ممارسات المدير الذي لا يترك شيئاً إلّا ويبيعه أو يصادره من المدرسة “عدا عن المحسوبيات وإدارته السيئة”. ويؤكّد أنّ هذا المدير باع حتى القرميد الذي رُكِّب على سطح المدرسة ومعه وقود المازوت للتدفئة، وكذلك بعض الأجهزة الإلكترونية من آيباد وكمبيوترات محمولة “ومرة شفنا كمبيوترات المدرسة مع أولاده”. ولماذا لا يحاسب هذا المدير؟ نسأله، فيرد ساخراً: “معقول ما بتعرفوا إنّه كلّ مدير مدعوم ومحمي ما حدا بيقدر له، وهذا المدير محمي من أكثر من جهة حزبية وسياسية مع أنّ ملفه السيئ وصل إلى وزارة التربية بلا جدوى”.

 

ملعب مدرسة في الوادي (تصوير حسن الساحلي)

***

قصص أشغال شاقّة على طريق الجامعة

لا يوجد إحصاء لعدد الطلّاب الجامعيين في الهرمل بشكل مستقلّ عن محافظة بعلبك الهرمل حيث أنّ الإحصاء الرسمي يدمجهم ضمن عدد طلاب المحافظة والذي يصل إلى 15.1%. حتى أنّ وزارة التربية عجزتْ عن إجابة طلبنا بالحصول على هذه المعلومة (عدد الطلاب الجامعيين والخرّيجين في الهرمل). ويرجّح أن تكون نسبة التعليم الجامعي على مستوى قضاء الهرمل أدنى من النسبة المذكورة على صعيد محافظة بعلبك الهرمل، بفعل سهولة الوصول إلى الجامعة من بعلبك (25  كيلومتراً عن زحلة)، ممّا يخوّلنا القول إنّ نسبة التعليم الجامعي في الهرمل كما في عكار (حيث تبلغ 11.5%) هي الأدنى في لبنان. وللمقارنة، يذكر أنّ محافظة بيروت تحتلّ المركز الأوّل من حيث الوصول إلى التعليم الجامعي بنسبة 29.4% تليها محافظة جبل لبنان بنسبة 25.4%.

وبالإضافة إلى إشكاليّات التعليم المدرسي ونسبة التسرّب الدراسي، يصطدم شبّان وشابات الهرمل ببُعد فروع الجامعة اللبنانية المتاحة لهم. ففيما عدا الفرع المستحدث في كلية العلوم في بعلبك الذي يضمّ اختصاصات رياضيات وكيمياء وفيزياء وعلوم الحياة والذي يقتصر على السنة الأولى فقط، يتعيّن على سائر الراغبين في إكمال تعليمهم الجامعي الانتقال إلى زحلة أو بيروت. ولا تخصّ الدولة طلّاب المناطق النائية بأيّ تسهيلات سكنية أو وسائل نقل عامّة يمكن أن تساعدهم في تخفيف أكلاف الانتقال إلى المجمّع الخاصّ بالجامعة اللبنانية. وبالتالي يعجز كثيرون من طالبات وطلّاب الهرمل عن التحصيل الجامعي بسبب عدم قدرة عائلاتهم على تحمّل أكلاف انتقالهم إلى بيروت كسكن ومستلزمات عيش ودراسة وما يستتبعها من مصاريف.

قصة جنين 

تختصر طالبة الثانوي – فرع العلوم العامّة، جنين علوه أحلامها بنيل منحة دراسية جامعية ترشّحت للحصول عليها من إحدى المؤسّسات الدولية “غير هيك ما بقدر روح ع الجامعة”. يعمل والدا جنين في التعليم. بالكاد يبلغ راتباهما مجتمعين 3 ملايين و500 ألف ليرة “يعني أقلّ من 200 دولار اليوم”. تعصر ذهنها بحثاً عن حلول “حتى لو سكّنوني عند أقارب ببيروت”، ترى أنّه سيكون من الصعب على والديْها تحمّل مصاريفها في العاصمة “عندهم ولد غيري وأقساط مدرسية ومصاريف، وهلّأ بالكاد بيأمنوا كلّ ضروريات البيت، وكمان صعب كتير إضطرّ وقّف علم”.

في 18 كانون الثاني 2018، قرّر مجلس الوزراء افتتاح فرع للجامعة اللبنانية في الهرمل من ضمن فروع في مناطق أخرى. استبشر أهالي المنطقة من الهرمل إلى القاع ورأس بعلبك والجديدة والفاكهة وحتى العين وعرسال خيراً، بخاصّة وأنّه تمّ تحديد موقعها على كتف العاصي ما بين الهرمل وبلدة القاع. بعد ثلاث سنوات ونيّف على القرار، اختفت العلامات الهندسية التي وُضِعت على العقار المخصّص للجامعة فيما تفوح الروائح الكريهة من مكبّ النفايات الذي استحدثته بلدية الهرمل على بعد عشرات الأمتار من مكان الجامعة التي ذهبت مع الريح. يومها رشح أنّ رئيس حركة أمل، رئيس المجلس النيابي نبيه بري، أراد أن تقام الجامعة عند منعطف بلدة حربتا، ما بين بعلبك والهرمل من دون تفسير واضح. في النهاية لم ترَ الجامعة النور ولا حظي طلاب الهرمل بفرصة عدم النزوح 150 كيلومتراً سعياً وراء العلم، وإلّا الاستسلام، فيما على أبناء جرود الهرمل أن ينتقلوا من 180 إلى 200 كيلومتر في ما لو رغبوا في تحصيل شهادة جامعية، من دون أي تسهيلات من الدولة أو إدارة الجامعة اللبنانية، وطبعاً وزارة التربية.

جنين لا تريد فرعاً للجامعة اللبنانية في الهرمل “كلّ الفروع بتتحوّل دكاكين ومحسوبيات وبتصير فرصة للاستزلام”. تريد أن تذهب إلى المدينة الجامعية في الحدث “الجامعة اللبنانية لازم تكون جامعتنا كلّنا طلّاب لبنان”، بالنسبة لها هي “أفق للتطوّر والنمو ومعرفة الآخر والخروج من القوقعة المناطقية”. وتتابع: “مش الدولة مسؤولة عنّا؟ ونحن أولادها؟ يعني لازم تأمّن لنا سكن جامعي بأسعار رمزية وتعطينا منح مقبولة لندرس بعيداً عن مناطقنا ونتعرّف ونتفاعل مع طلاب المناطق الأخرى”. حتى أنّ جنين تضع في أحلامها خططاً لما تسميه “دولة العدالة الاجتماعية”: “ليش ما بتستفيد الدولة من قدراتنا كشبّان وشابات وتشغّلنا في أعمال تطوّعية وطنية وتمنحنا مساعدات جامعية في المقابل، وهيك بتستفيد منّا وبتساعدنا ننطلق بحياة جديدة؟” 

قصة إيلينا

راعت إيلينا ظروف عائلتها وقرّرت أن تدرس في الجامعة اللبنانية في زحلة “يعني كلّ يوم بدّي سافر 90 كيلومتر لأوصل ع الجامعة”، بخاصّة وأنّها تحبّ اختصاصها “الأدب العربي، وهو متوفّر في زحلة”. تبدأ محاضرتها الأولى عند الثامنة والنصف صباحاً (قبل كورونا والأونلاين) “يعني بدّي إمشي من الهرمل الساعة ستة الصبح”، ولا تنتهي قبل السادسة مساء “ما بعود لاقي فان (حافلة صغيرة) لإرجع”، لذا غالباً ما كانت تترك محاضرات مهمّة وتقفل عائدة بعد الظهر لتصل قبل الليل إلى منزلها”. لا تقلّ رحلة إيلينا اليومية إلى الجامعة عن ساعتين ونصف ذهاباً ومثلها إياباً “عندي 5 ساعات من نهاري ع الطرقات”، كانت تدفع يومياً ما لا يقلّ عن 20 إلى 25 ألف ليرة، إضافة إلى تعبها “إذا ما نمت شوي بعد ما إرجع، ما بقدر أدرس أو إعمل شي، بكون كتير تعبانة”. ومن أين لها النوم؟ إذ تضطر إيلينا أن تعمل للمساهمة في مصاريفها الجامعية، يعمل والدها في الزراعة وتساعده والدتها في بعض المزروعات البيتية وفي تربية الدواجن للبيض البلدي لدعم مدخول الأسرة “قلت بعطي دروس خصوصية وبأمّن جزء من مصروفي خصوصاً وأنّهما يتحمّلان مصاريف دراسة أخي في صف الماستر في بيروت”. تصف إيلينا رحلة نصف الطلاب الجامعيين في الهرمل وقضائها بـ”الأشغال الشاقة”، كون هؤلاء، أي نصف طلّاب الجامعة، يتعلّمون في زحلة “نقضي طيلة اليوم ما بين الطرقات والدوام الجامعي، عدا عن مصاريفنا الكبيرة نسبة إلى أوضاعنا، نحن نتعب كثيراً ويؤثر الأمر على قدرتنا على منح اختصاصاتنا الوقت المطلوب لتطوير أنفسنا”.

تتمنى إيلينا لو أنّ ظروف أهلها تسمح لها بالدراسة في الجامعة اللبنانية في بيروت أو حتّى السكن قرب جامعتها في زحلة “كنت بعطي اختصاصي حقّه، يعني الأدب العربي ما بدّه دراسة سطحية، بدّه تعمّق وبحبّ طوّر مهاراتي بالكتابة وبتثقيف نفسي وهذا غير متاح”. اليوم تدرس إيلينا عن بُعد بسبب كورونا “أخدت سبعة طلاب لإعمل مصاري أكتر لأنّه الأوضاع كتير سيئة”، وعليه، تتابع المحاضرات ليلاً بعد عودتها من تعليم التلامذة “بس لي قاهرني إنّه بس عم بدرس البرنامج وأوقات ما بلحّق، بحب إشتغل ع حالي”. تنطلق إيلينا من وضعها ووضع زملائها في الهرمل لتقول “متلنا في كتير طلاب من المناطق النائية هون بالبقاع، وطبعاً بعكار وغير مناطق، يمكن الدولة ما بتعرف إنّه في طلّاب جامعات بالأرياف أو المسؤولين ما بيهمهم نتعلّم أو لا”. 

***

هكذا أصبحت أستاذا ثانوياً

كان شفيق الساحلي (وهو أستاذ ثانوي متقاعد) السبعيني، في عمر السبع سنوات عندما أرسله والده للتعلّم على يد “المقرّي” (كما يسمّيه) حسن بوتة، خال أبيه الذي كان يدرّس الصغار في كتاب القرآن. في التاسعة، نقل إلى المدرسة الحكومية الوحيدة في الهرمل “كنت إقرا عربي، ما كنت بعرف حرف واحد أجنبي”. انتظر شفيق لغاية الصف الثامن تكميلي حتى توفّر في المدرسة مدرّس عربي وآخر للتاريخ. ولكن لم يكن هناك أساتذة للرياضيات والعلوم واللغة الأجنبية: “نحن لازم ندبّر حالنا”. اعتمد شفيق على المعلّم فيلمون جبّور الذي كان أستاذاً من منطقة الكورة يأتي به أبو سويدان ناصرالدين لتعليم ابنه سويدان. كان جبّور يسكن عند أبو سويدان وكان شفيق يجمع كلّ ما لا يفهمه من عمليات حسابية ومن دروس في العلوم ويقصده ليشرحها له، أو يدعوه ومعه سويدان، صديقه، لشرب الشاي في منزله، لينهل من علمه. 

في صفّ البروفيه، ولمّا لم يتوفّر أساتذة للمواد العلمية، قرّر والده مع عائلتين أخريين، إرسال أبنائهم إلى بعلبك للدراسة تحضيراً لخضوعهم لامتحان الشهادة المتوسّطة الرسمية. استأجروا غرفة مشتركة وكانت أمهاتهم يزوّدنهم بوجبات طعام ومؤن تعينهم في “اغترابهم”. عندما اشتدّ الصقيع، عجز شفيق ورفاقه عن تحمّل كلفة التدفئة والمازوت، فعادوا أدراجهم إلى الهرمل. بعدها قرّرت المدرسة أن تفتح لهم صفّاً، ولكن بأستاذين فقط، واحد للعربي والثاني للتاريخ. يقول شفيق إنه استعان بمعجم فرنسي-عربي ليعرّب كلمات الدروس العلمية ليفهمها، كما أتى بكتاب نماذج عن امتحانات الشهادة المتوسطة ليتعلّم الحلول ويتمرّن عليها. انتهى العام الدراسي وجاء وقع نجاحه بالبروفيه في الدورة الثانية كبيراً على العائلة. ومن شدّة فرحه بنجاحه، قرّر والده، وكان تاجر مواشٍ، أن يرسله ليكمل المرحلة الثانوية في بعلبك. لكن القدر كان له بالمرصاد، فوافته المنيّة “وراحت البحبوحة معه”، كما يقول شفيق. 

جاء الإنقاذ هذه المرّة على يد الوظيفة، إذ أعلنت الدولة عن امتحانات لتوظيف أساتذة للتعليم الإبتدائي، فنجح وصار أستاذا ابتدائياً. حين قبض راتبه الأول، قصد شفيق العاصمة السورية دمشق وتسجّل في صف الأوّل ثانوي، اشترى الكتب وأقفل عائداً إلى الهرمل. سنة بعد سنة حتى نال شهادة “الموحّدة” السورية التي تساوي شهادة ثالث ثانوي في لبنان. وصل إلى الجامعة العربية في بيروت وأنهى دراسة اختصاص الجغرافيا. 

من رفاقه في الجامعة، عرف شفيق أنّ ظروفه التعليمية لم تشبه ظروف أيّ من رفاقه في المدن أو المناطق القريبة في جبل لبنان وبيروت “من يوم يومنا وضعنا غير شكل في الهرمل”. 

***

مجالات التعليم المهني في الهرمل

يقول طالب في أحد المعاهد المهنية الرسمية الثلاثة في الهرمل إنّه انتقل إلى التعليم المهني حبّاً بالدروس التطبيقية وليس على طريقة ما يفكّر البعض “منفشل بالأكاديمي فمنروح ع المهني”. ويؤكّد لـ”المفكرة”: “ما بحب الأكاديمي، قلت بدرس مهني ويا ريتني لم أفعل”. يشير هذا الطالب إلى أنّ كلّ أساتذته في المهني من المتعاقدين “ع الساعة”، أي أنّهم يقبضون مستحقّاتهم مرّة في السنة “وأوقات سنة ونص ليقبضوا”. وهذا يؤثّر على طريقة تعاطي البعض منهم مع التعليم: “في كتار بيحاولوا يعيشوا من شغل تاني”. لا يوجد مقرّرات أو كتب لغالبية المواد، وفق ما يؤكد الطالب نفسه (وهو ما تأكّدت منه “المفكرة” من أساتذة ومسؤولين في المهنيّات). فبعد تحديث المناهج قبل ثلاث سنوات، لم تقم وزارة التربية ومديرية التعليم المهني بطبع مقرّرات للمضامين التي طوّرت المناهج. “وهيك في كتير مواد مندرسها حسب مقدّرات الأستاذ ومدى التزامه بالاهتمام بمهنته وطلابه، وأوقات ما منفهم شي وما منعرف شو بدنا ندرس”. ويشير الطالب نفسه إلى أنّه كان يرغب في دراسة اختصاص صناعي “ولكن بسبب نقص الأجهزة في المصانع خفّ الإقبال على هذه الاختصاصات”، فتسجل محاسبة وهو اختصاص أقرب للنظري منه للتطبيقي. “يعني كأنّي ما جيت ع المهني”. ويعطي مثلاً عن أجهزة الكمبيوتر “عنّا 10 كمبيوترات في منهم 7 خربانين، بالكاد كلّ طالب يطلع له يستعمل الكمبيوتر 5 دقايق”. حتى أجهزة الكمبيوتر غير المعطّلة “قديمة، وتعود البرامج التي تشغّلها للعام 1998، يعني قديمة كتير”. 

هذا الكلام يؤكّد عليه بعض أساتذة المهني، وإن كان هؤلاء يركزون على أوضاعهم المتردّية: “منذ العام 2000 لم يتمّ تثبيت أي أستاذ في المهني، فبقي معظمنا متعاقدين، ولا تصل نسبة المثبّتين إلى أكثر من 4% في أفضل الأحوال من مجمل أساتذة المهني، ويحتلّ المثبّتون مراكز إدارية”. ويكاد معظم أساتذة الملاك في التعليم المهني أن يتقاعدوا “يعني يمكن ما يعودوا يلاقوا أستاذ مثبّت حتى يعيّنوه مدير أو ناظر”. يشكي أساتذة التعليم المهني المتعاقدون من عدم تمتّعهم بضمان أو تغطية صحية وبعدم تلقّيهم بدل نقل ومن قبض مستحقاتهم مرّة كلّ عام وبأسعار منخفضة جداً “تراوح ساعة المهني بين 20 و35 ألف ليرة، واختلفت قيمة مستحقاتنا مع انهيار الليرة قبل أن تعطينا إياها الدولة، فيكي تقولي كأنّه صرنا عم ناخد دولار ع الساعة، وهذا أقلّ من أجرة أي عامل آخر من دون إجازة ولم يقضِ عمره في التعليم لتحصيل شهادة تردّ عنه العوز”. 

يوجد في الهرمل 1300 طالب وطالبة في التعليم المهني الرسمي، وبرغم الملاحظات التي يبديها كثيرون على المعاهد المهنية، إلّا أنّ القيّمين عليها يؤكّدون أنّ نسب النجاح في الشهادة الرسمية تراوح بين 90 إلى 100% (لم يتسنّ لنا التحقّق من ذلك)، ويشيرون إلى أنّ نتائج المتقدّمين من مهنيّات الهرمل إلى وظائف مجلس الخدمة المدنية يأتون بنتائج جيدة جداً: “فقد نجح 17 ممرضاً وممرضة من 18 تقدّموا للتوظيف في مستشفى الهرمل الحكومي عبر مجلس الخدمة المدنية، على سبيل المثال لا الحصر”. ويرى المدافعون عن التعليم المهني أنّ الأخير يؤمّن دراسة الليسانس التقنية (LT) في نحو عشرة اختصاصات، وهو ما يوفّر على أبناء الهرمل الانتقال إلى بيروت أو زحلة لمتابعة تحصيل التعليم العالي، والليسانس التقنية تعادل شهادة الليسانس الجامعية. ولكنها شهادة في الاختصاصات غير الصناعية. ويعزو القيّمون على المهنيات عدم تطوّر الاختصاصات الصناعية بعد المرحلة الثانوية (BT) إلى عدم وجود أساتذة في الاختصاصات الصناعية المطلوبة مثل الميكانيك والكهرباء وغيرهما.        

نُشر هذا المقال في العدد 1 من “ملف” المفكرة القانونية | الهرمل

 

  1. أرقام وزارة التربية عن العام 2020-2021
انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، مجلة ، نقابات ، الحق في التعليم ، حقوق الطفل ، مجلة لبنان ، لبنان ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، الحق في الصحة والتعليم



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني