النظام السياسي لدستور 2014: ظُلم التشخيص، وخطورة البديل الرئاسي


2021-12-02    |   

النظام السياسي لدستور 2014: ظُلم التشخيص، وخطورة البديل الرئاسي

الخطيئة الأساسية التي يحمل وزرها دستور 2014 لم تكن في نصّه بل في نسله. حرب الاستنزاف بين “العلمانيين” و”الإسلاميين” التي رافقت أعمال المجلس التأسيسي المنتخب في 2011، انتهت بإنهاك حركة النهضة وبالقضاء التامّ والنهائي على مَن صاغ معها العقد المؤسِّس للجمهوريّة الجديدة. الخاسر الأكبر كان دستوراً لم يجد من يدفع عنه بلاء من لم يفهمه وجور مَن لم يشارك في تحبير فصوله.
مدخل الهجوم الأوَّل كان النظام السياسي. لعلّ تصوُّر رئيس ذي سلطات محدودة، بعيد عن الموروث الثقافي الشرقي كظلّ الإله في الأرض، حامي حمى الوطن والدين والأخلاق والعامّ والخاصّ والمقدّس والمدنّس والكشّافة الوطنية، أزعج العديدين. متساكنو قرطاج والطامحون إلى العبور بذلك الحيّ الراقي على رأس قائمة هؤلاء.

نظام سياسي بهندسة متغيّرة


ما يغيب عن الأذهان هو أنّ رئيس الجمهوريّة في دستور 2014 قادر على أن يكون متحكِّماً في كامل خيوط السلطة. وذلك مشروط بأن ينجح الرئيس في الفوز بالانتخابات التشريعية، فضلاً عن الرئاسية. الفعل الأغلبي، le fait majoritaire، هو المحدِّد الأساسي لنظام 2014: العلاقة بين الأغلبيّة الرئاسية، أي رئيس الجمهوريّة، والأغلبيّة البرلمانية. طبيعة النظام الدستوري لا تحدّدها سوى الممارسة، والقاعدة الدستورية بوصفها قاعدة قانونية لا يُلتجأ إليها إلّا حين الخلاف. فإذا حضر التباين طُبِّقت قاعدة السيادة المحبَّبة لعقل كارل شميت.

إنّ طبيعة النظام السياسي التونسي لا تتجاوز فرضيَّتَيْن. أولاهما، التوافق بين رئيس الجمهوريّة وأغلبيّة البرلمان. في هذا المثال يكون رئيس الجمهوريّة ماسكاً سلطة مطلقة، لا بحكم موقعه الدستوري ولكن، فضلاً عن ذلك، بوصفه زعيماً للأغلبيّة. يتحوّل رئيس الحكومة بذلك إلى مجرّد منسّق للأغلبيّة المدينة بوجودها لشرعيّة الرئيس. وقد أضاف رئيس الجمهوريّة السابق، الباجي قايد السبسي، بوفاته مزيداً من التأكيد على هذه الفرضيّة حين جعل الانتخابات التشريعية لاحقة لانتخاب رأس الدولة.

أمّا الفرضيّة الثانية فتتباين فيها الأغلبيّات. يشكّل البرلمان حكومة لا قول فيها لرئيس الجمهوريّة تنفّذ سياسات يرسمها رئيس الحكومة، ما عدا السياسة الخارجية والأمن القومي. وهنا، يتمتّع رئيس الجمهوريّة في هذه الحالة بقدرة عالية على الإزعاج: ترؤّس المجالس الوزارية، اقتراح مشاريع القوانين، تعطيل دخول القوانين حيّز النفاذ بممارسة حقّ الردّ أو بالطعن في الدستوريّة…

هذه الهندسة المتغيّرة للنظام السياسي تفترض لنجاحها ثلاثة شروط أساسية: رئيس يسعى إلى فوز تنظيمه السياسي أو مناصريه بأغلبيّة برلمانية، ومحكمة دستورية تحكّم الخلاف المُفترَض وقوعُه بين رأسَيْ السلطة التنفيذية، ونخبة حاكمة منفتحة على التفاوض والتنازلات. وقد كان الدستور ضحيّة غياب هذه الشروط الثلاثة منذ سنة 2014.

بالإضافة إلى ذلك، واجه الدستور تهمة – هو براء منها – منذ دخوله حيّز النفاذ، وهي نزعه المسؤوليّة السياسية والانتخابية عن الحاكمين عمّا تمّ اقترافه طوال الثماني سنوات الأخيرة. لا يمكن لأيّ نصّ قانوني أن ينظّم بطريقة عقلانية مجرّدة سلوكيّات الخطّ الأمامي للطبقة السياسية التونسية.

فحين عيّن الباجي قايد السبسي الحبيب الصيد من خارج حزبه لترؤّس حكومته الأولى، كان هو مَن نزع الطابع الحزبي عنها وعن ضرورة تحمُّل قيادة نداء تونس المسؤوليّة. تماماً كما كان فعل حين عيّن يوسف الشاهد رئيساً للحكومة متوقّعاً منه أن يكون طيّعاً في يده وفي أيدي المحيطين به. كذلك كان الأمر بالنسبة إلى راشد الغنوشي الذي لم يرد أن تنافسه أيّ شرعيّة أخرى على رأس حزبه بتعيين شخص جاز تصنيفه في الصفّ القيادي السابع في حركة النهضة. هل يمكن لأيّ دستور أن ينظّم سلوكاً سياسيّاً منحرفاً كذلك الذي فعلته قيادة حركة النهضة، حين رشّحت عبد الفتّاح مورو إلى الانتخابات الرئاسيّة لتعمل لاحقاً على إفشاله؟ هل يمكن لأيّ نص دستوري أن يتعامل بعقلانيّة مع أحزاب تريد تصدُّر المشهد سياسياً بدون تحمُّل مسؤوليّة مباشِرة في واجهة الحكم؟ قطعاً لا. التأكيد نفسه يمسّ كذلك رئيس الدولة قيس سعيِّد الذي أوكل له الدستور دوراً تحكيمياً لإيجاد صيغة توافقية لتشكيل حكومة في حال فشل الحزب الأوّل في الانتخابات، فاستعمل إمكانيّة حلّ المجلس النيابي كسيف ديموقليس على رأس مجلس منتخب ديمقراطياً، ليعيّن موالين له على رأس الحكومة، أمّنه أوّلهما وخانه الثاني.

لم يكن دستور 2014 مثالياً، وهذه حتميّة تاريخية. فغياب حقّ مطلق لرئيس الجمهوريّة أو لرئيس الحكومة في حلّ المجلس والدعوة إلى انتخابات تشريعية مبكرة مثّلت أبرز نقاط ضعفه. إذ إنّ حلّ البرلمان كان يمكن أن يكون آليّة مهمّة لحسم الصراعات وتنفيس الاختناق الذي يمكن أن تمرّ به المؤسّسات الديمقراطية، سواء التنفيذية أو التشريعية. ولكن، حتّى لو توفّرت هذه الآليّة هل كان ليكون ذا جدوى في ظلّ حضور رئيس دولة يقبل على الانتخابات الرئاسية ويشارك فيها ويرفض جمع أنصاره وحاملي مشروعه في قائمات تتقدّم تحت قيادته إلى الانتخابات التشريعية؟

ما من دستور في الأرض يقدر على حلّ مثل هذه المعادلات حتّى وإن صيغ على المقاس.

هل يُجهز النظام الرئاسي على الديمقراطيّة الفتيّة في تونس؟

الآن وقد وقع تعليق الدستور وافتتاح مسار تأسيس جديد، تنطلق الدعوة إلى إقامة نظام رئاسي بحظوظ وافرة في سباق رسم معالم النظام السياسي الجديد. لكنّ تفصيلاً صغيراً يصاحبها، وهو غياب أيّ مقترح آخر إلى جانبها على خطّ الانطلاق.

الأكيد أنّ شكل الأنظمة السياسية لا يحمل في جوهره عوامل التأسيس للديمقراطيّة أو الاستبداد. فالنظام الرئاسي في الولايات المتّحدة والبرلماني في بريطانيا وفي أغلب الديمقراطيّات في العالم والمختلط في فرنسا حافظت جميعها على الديمقراطية، ولم يمنعْ النظام الرئاسي في تونس بعد 1956 أو البرلماني في أثيوبيا أو المختلط في جمهوريّة فايمار من السقوط في الاستبداد. رغم هذا التأكيد، تبقى فكرة النظام الرئاسي مقامرة عالية المخاطر في ذهن مَن لا يزال يأمل إقامة نظام ديمقراطي في تونس. فلنفترض جدلاً أنّ من حقّ هؤلاء، وإن كانوا أقلّيّة، ومن حقّنا المُشاركة في حالة الفوضى العارمة المميِّزة للنقاش العامّ في هذه الفترة.

إنّ فترات التأسيس للديمقراطيّة، ومراحل تمتينها لاحقاً، قد تتصادم مع خاصّيّات تميّز النظام الرئاسي لتعيق عمليّة بناء ديمقراطيّة مستقرّة ومتجذّرة. ومن قَبِيل التذكير، لا بدّ من العودة إلى ما تحمله الصفحات الأولى من أيّ مرجع قانون دستوري حول النظام الرئاسي: هو نظام يوصَف بكونه قائماً على فصل جامد أو حادّ بين السلطات وعلى التوازن المطلَق بينها. تنبع السلطتان التشريعية والتنفيذية من الانتخاب المباشِر لتنتج رئيساً يكون المسؤول الوحيد عن الحكومة التي يجسّدها في شخصه، وبرلماناً لا ينازعه أحد فيه على صلاحيّة التشريع. فضلاً عن أنّ أيّاً من السلطتين – التشريعية والتنفيذية – لا تمتلك آليّة ضغط حاسمة في مواجهة الأخرى: لا مسؤوليّة سياسية للرئيس أمام البرلمان ولا إمكانيّة لحلّ البرلمان من قِبل الرئيس. ممارسة هذا النظام في الولايات المتّحدة، المثال المرجعي للنظام الرئاسي، اقترنتْ بإرساء تقنيّات هدفها تخفيف جمود الفصل بدون المساس بجوهره. ولا بدّ من التذكير هنا أنّ بعض الداعين إلى مثل هذا النظام في تونس يدافعون عن إضافات تمسّ جوهره وتؤسّس لنظام آخر مختلف. ولكنّ هذا حديث آخر سيأتي وقته لاحقاً.

خاصّيّات النظام الرئاسي إذاً قد تعيق التأسيس لديمقراطيّة سليمة ما زالت في سنواتها الأولى. ويجب التذكير هنا أنّ الديمقراطيّة الوحيدة تقريباً في العالم التي تعتمد مثل هذا النظام هي الديمقراطيّة الأميركية التي تقوم كذلك على نظام فدرالي وعلى ثنائيّة حزبية مطلقة ذات هياكل جدّ ليّنة، وعلى تجديد دوري للأغلبيّات البرلمانية عن طريق الانتخابات النصفية. ولكن، ما الذي يؤكّد خطورة النظام الرئاسي على التأسيس الديمقراطي؟ الأكيد ليس النظام في ذاته. فديمقراطيّة سليمة بنظام رئاسي تبقى نظرياً فرضيّة ممكنة التحقيق، ولكنّ العوامل الخمسة التالية قد تجعلها صعبة المنال[1]:

1- وجود شرعيَّتَيْن[2] مختلفتَيْن بما يمكن أن ينجرّ عن ذلك من صراع بين الشرعيَّتَيْن. قد يؤدّي هذا الاختلاف إلى تعطيل تامّ لسير الدولة، بخاصّة مع غياب آليّات تحكيمية بين السلطتَيْن. يزيد الطين بلّة في هذه الحال انفراد كلّ من السلطتين بمجال تدخُّل بدون قدرة الأخرى على منازعتها فيه. مثال على ذلك، يمكن للبرلمان حجب التمويلات عن الخطط التنفيذية للرئيس كما يحدث أحياناً في الولايات المتّحدة. النتائج الكارثية للـ shutdown هناك يتمّ تلافيها بحكم الطبيعة الفدرالية للدولة. ولكنّ العنصر المهمّ هنا هو غياب قطبيّة حادّة في الساحة السياسية الأميركية. النزاعات التي قد تحصل بين تصوّرات الرئيس والأغلبيّة المناوئة له لا تهمّ بتاتاً طبيعة المجتمع أو شكل الدولة أو مسائل مجتمعية قد تسبّب انقساماً حادّاً في المجتمع، بل هي تهمّ سياسات عمومية وبرامج حكم، بينما يختلف الوضع تماماً في تونس. ولكن، كيف لمدافع عن نظام 2014 أن يقدّم هذه الحجّة ضدّ النظام الرئاسي في حين أنّ الأحداث الأخيرة التي شهدتها البلاد تعلّقت بتنازع شرعيَّتَيْن، رئيس الدولة والبرلمان؟

تصوّر النظام التونسي قائم على إمكانيّة الخلاف، ولكن يتحوّل الصراع حينها إلى داخل السلطة التنفيذية، بين رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة، لا بين السلطة التنفيذية كاملة مقابل البرلمان. هذا فضلاً على الفصل 101 من الدستور[3] في حين تغيب أيّ إمكانيّة لتحكيم الخلاف بين السلطتين التشريعية والتنفيذية.

ولكن، عوداً على نقطة ذُكرت سابقاً، سبب النجاح الرئيسي للنظام الرئاسي في الولايات المتّحدة مرتبط أساساً بوجود نُخَب توافقية منفتحة على الحلّ والتفاوض. كان يمكن للنخب التي قادت العمليّة السياسية حتّى 2014 أن تتطوّر في هذا الاتّجاه، أمّا تلك الصاعدة حديثاً، فيمين مَن ينفي عنها هذه الصفة صادق لا محالة.

2- المدّة الثابتة للفترة الرئاسية قد تجعل من احتمالات وقوع تعديلات على السياسات والتوجّهات العامّة شبه منعدمة. لا يمكن بأيّ حال من الأحوال في النظام الرئاسي، وبالنسبة لأيّ شخص حامل قناعة ديمقراطية، المسّ من شرعيّة الرئيس ومدّته. ولا يمكن منازعة سياساته، خصوصاً في ظلّ برلمان مناصر له طوال فترة تولّيه المنصب. في هذه الصورة، تصبح إمكانيّة تجاوز الأزمات، مهما كان شكلها، شبه مستحيلة أمام عدم إمكانيّة تغيير المسؤول الأوّل عن رسم السياسات. هذه الوضعيّة تحوّل الأزمات السياسية إلى أزمات نظام: الأزمات في النظام البرلماني وفي النظام المختلط أزمات حكومات يكون فيها رئيسها صمّام أمان يُطرَد من موقع الحكم متى ساء الوضع أو تنتج حلّاً للبرلمان لتحكيم المواطنين في الخلافات. مقابل ذلك، ولأنّ المدد الرئاسية ثابتة قد تتحوّل مواجهة الأزمات إلى إرادة إسقاط كامل البناء المؤسّساتي كما يمكن أن تفتح أبواب تدخُّل أطياف لا يجب بتاتاً أن تقترب من الإدارة المدنية للدولة.

3- المعادلة الصفرية: علاوة على الإشكالات المؤسّساتية، إنّ تعقيدات سياسيّة قد تصاحب كذلك تأسيس نظام رئاسي. علّة ذلك أنّ طبيعة نمط التصويت على الأفراد (رئاسياً أو تشريعياً) تحمل في جوهرها معادلة صفرية على قاعدة أنّ الرابح يفوز بالكلّ (winner-take-all-outcome). المتحصّل على صوت واحد أكثر من نصف عدد المقترعين يتمكّن من السلطة كاملة بما يعنيه ذلك من إقصاء في التمثيليّة لجزء واسع من الناخبين، ولكن أيضاً إفراطاً في تمثيل الأغلبيّة. قد تنطبق القاعدة نفسها على فرضيّة فوز لون سياسي واحد بالأغلبيّة البرلمانية، ولكن في هذه الحالة تبقى إمكانيّة تمثيل المعارضات قائمة مع دور رقابي مهمّ. ويبقى العنصر الأخطر، في ما يخصّ هذا المعطى، غياب أيّ حاجة لدى الرئيس وإدارته أو حكومته إلى بناء توافقات أو مفاوضات أو تنازلات، ذلك أنّه لا يحتاج إلى أيّ شكل من أشكال التحالف في حكمه. أمّا إذا كانت الأغلبيّة البرلمانية معارِضة له فهذا يعود بنا إلى إمكانيّة الانسداد المؤسّساتي.

4- في المجتمعات التي تخلّصت حديثاً من منظومات استبدادية، يبقى الحنين إلى الحكم الفردي قائماً في الأذهان مُشكِّلاً عنصر مقاومة لعمليّة التحرّر الديمقراطي. يناسب النظام الرئاسي هذا الحنين أكثر من غيره من الأنظمة من خلال خلق زعيم مرّة كلّ أربع أو خمس سنوات. وجود هذا الزعيم ينزع الجانب العقلاني المجرَّد عمّا تفترضه الديمقراطيّة مِن حكم المؤسّسات لتنتقل إلى صيغة أخرى مشخصنة للسلطة والشرعيّة. في مقابل ذلك، إنّ النظامَيْن الآخرَيْن يحدّان من عمليّة الشخصنة هذه، وذلك إمّا عبر اقتسام السلطة التنفيذية بين شخصَيْن في النظام المختلّ وإمّا عبر وجود شخص منزوع الصلاحيّات لكنّه ذو مكانة معنوية ورمزية أعلى من ممارِس السلطة الفعلية في الأنظمة البرلمانية. ولا حاجة ملحّة في هذه الربوع بقدر تلك المتعلّقة بنزع هالة القدسيّة والأبويّة والولائيّة عن متدبّري الشأن العامّ على رأس دول تحمل في جيناتها عشق الاستبداد ومعاداة الحرّيّة.

5- يفتح نمط تنظيم الانتخابات في النظام الرئاسي باباً واسعاً لمرشّحين من خارج المنظومات التقليدية لتحقيق اختراقات مهمّة داخل النظام لتأتي بشخصيّات مثل فوجيموري أو زيلنسكي أو ترامب أو سعيِّد. قدوم مثل هذه الشخصيّات إلى المنصب الأوَّل في الدولة يحمل معه ضرباً عنيفاً لاستقرار المنظومة السياسية ولعناصر ديمومتها ويجعل الصراع مع النخب التقليدية دائماً. وهو يحمل كذلك معاداة لقيم الديمقراطيّة والأجسام الوسيطة والتعديلية ويساهم في إضعاف دور الأحزاب السياسية.

ختاماً، لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ ما يدعو إليه العديد من أنصار “الحركة التصحيحية المجيدة” لا يمتّ بصلة إلى النظام الرئاسي. الدعوة موصولة إلى ابتداع تسمية تصف نظاماً يكون فيه رئيس الدولة في موقع الحكم والقدرة على حلّ البرلمان بدون أدنى شرط يحقّق حدّاً أدنى من الرقابة على السلطة التنفيذية. في عوالم أخرى، مثل هذا النظام يُسمّى “الرئاسوي”، ولكن مقترح تصعيد برلمان على عديد مراحل التصفيات المعتمَد فيها على الحظّ وعلى إمكانيّة فقْد النيابة في أيّ لحظة، ليس بسبب جرائم قد تُرتكَب ولكن بسبب مواقف سياسية، سيخلق في المحصّلة برلماناً ربّما كان لبرلمانات بن علي مكانة أعلى منه. إنّ نظاماً رئاسياً حقيقياً يفترض خلق برلمان قويّ بإمكانيّات ضخمة، مُحصَّن ضدّ جور سلطة رئيس الجمهوريّة أو بديله رئيس الدولة ولكن، وبالأخصّ، برلمان تُحترَم سيادته من قِبل السلطة التنفيذية ويُحترَم دوره كسلطة تأسيسية فرعية لا ينازعها فيها منازع.

يعيش العالم اليوم لحظة حنق شعبي عريض ضدّ مختلف البرلمانات، ولكن كذلك ضدّ فكرة وجود البرلمان نفسه كهيكل وكسلطة وضدّ الديمقراطيّة كمسار تداولي. حالة تعيد إلى الأذهان كامل الإرث الفاشي والاستبدادي والشمولي المعادي للديمقراطية في ذاتها. لقد شكّلت سلوكيّات البرلمانيين عناصر دفع لتصاعد هذه النقمة ولكنّ السعي إلى تجاوز هذه الانحرافات الخطيرة لا يجب أن يغفل أنّ جزءاً من النقد في معاداة البرلمانية (l’antiparlementarisme) يحمل إرثاً ليس الهدف منه خدمة “الشعب” بل إرادة راسخة في الهيمنة الثقافية والتسلّط السياسي. كذلك لا بدّ من الإشارة إلى أنّ أحد الأسباب الرئيسة لما سبق هو المتابعة الإعلامية اللصيقة لأعمال البرلمانات. علّه، كما قال أحد المعلّقين المشهورين، يُصرَف النظر نهائياً عن تقديس الرؤساء، إذا نقل لنا يوماً أحدهم ما يحصل في قصورهم.

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة


[1] تمّ الاستئناس في صياغة هذا النقد بنصّ شهير لأستاذ العلوم السياسية خوان لينز بعنوان The perils of Presidentialism صاغه سنة 1990. نوقِش هذا النصّ وصيغت في نقده مقالات أخرى عدّة، خصوصاً مِن كانت إيتون وسكوت ماينوارينغ وماثيو شوغارت. ليس هذا مجال عرض هذه الحوارات، بخاصّة أنّ الهدف من هذه المقالة نقد النظام الرئاسي لا عرض نقاط ضعف أو قوّة مختلِف الأنظمة الأخرى.

[2] نستخدم هنا مصطلح “قانونيّة” للتعبير عن Légalité، ومصطلح “شرعيّة” للتعبير عن légitimité.

[3] ينصّ الفصل 101 من الدستور على أن “تُرفَع النزاعات المتعلّقة باختصاص كلّ من رئيس الجمهوريّة ورئيس الحكومة إلى المحكمة الدستورية التي تبتّ في النزاع في أجل أسبوع بناء على طلب يُرفَع إليها مِن أحرص الطرفين”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

حريات ، سياسات عامة ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، حراكات اجتماعية ، حريات عامة والوصول الى المعلومات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني