الممارسات الريعية في الصفقات العمومية: عندما يعجز النصّ عن تغيير الواقع


2022-03-10    |   

الممارسات الريعية في الصفقات العمومية: عندما يعجز النصّ عن تغيير الواقع
رسم: عثمان السلمي

احتلّ مفهوم الاقتصاد الريعي، خلال السنوات الأخيرة، حيّزاً هامّاً من النقاش العامّ في تونس. وكثيراً ما يوجِّه الخطاب المناهض للريع أصابع الاتّهام إلى الدولة، سواء لتشريعها احتكار فاعلين اقتصاديين نافذين قطاعاتٍ معيّنة، عبر نظام الرُّخَص وكرّاسات شروط مُفصَّلة على المقاس، أو لعجزها وتواطئها أمام الممارسات المُخِلَّة بالمنافسة. إلّا أنّ دور الدولة لا يقتصر على التشريع والتنظيم والزجر، وإنّما هي أهمّ “مستهلك” في الاقتصاد، وأهمّ مموِّل له، عبر الصفقات العمومية. إذ تمثّل هذه الأخيرة أكثر من 15.3% من الناتج الداخلي الخام للدولة التونسية ونحو 35 % من ميزانيّة الدولة، وذلك حسب آخر الإحصاءات[1][2]. أرقام تُسيل لعاب أغلب الفاعلين الاقتصاديين الذين يحاولون جاهدين الاستفادة من مواقعهم وعلاقاتهم وامتيازاتهم للظفر بأكبر عدد ممكن من الصفقات العمومية، ممّا يؤدّي إلى إقصاء الشركات الأقلّ نفوذاً وقرباً من مواقع القرار. ورغم تطوُّر الإطار التشريعي للصفقات العمومية في تونس في اتّجاه دعم الشفافيّة وحظر الممارسات غير النزيهة وتدعيم قدرة الشركات الصغرى على الولوج إلى الحياة الاقتصادية، لا تزال الصفقات العمومية، في الواقع، ميداناً خصباً للممارسات الريعية.

صعوبات تطبيق مبدأ تفضيل الشركات الصغرى والمنتَجات المحلّية

تَطرح أهمّيّة الصفقات العمومية كأداة لتنشيط الاقتصاد السؤالَ حول المستفيدين منها. إذ تؤدّي قاعدة اختيار العرض الأقلّ ثمناً إلى مَنْح فرص أكبر للشركات الكبرى للحصول على الصفقات، نظراً إلى قدرتها على الضغط على تكاليفها، بالإضافة إلى إلمامها بإجراءات الصفقات العمومية. لذلك تحاول النصوص المنظِّمة لهذا النشاط تعديل الكفّة لصالح الشركات الصغرى، بما يجعلها قادرة على منافسة بقيّة المشاركين. وقد تضمّن الأمر عدد 1039 لسنة 2014 المتعلّق بالصفقات العمومية قسماً خامساً خاصّاً بالأنظمة التفاضلية يُخصِّص من خلاله كلُّ مشترٍ عمومي سنوياً نسبة 20% من القيمة التقديرية لشراءاته لفائدة الشركات الصغرى حصراً[3]. ويضع هذا الفصل معيارَيْن لتعريف الشركات الصغرى، وهما رقم المعاملات للمؤسّسات الناشطة، وحجم الاستثمار للمؤسّسات حديثة النشأة. لكنّ هذا المبدأ يصطدم بصعوبات كبيرة أثناء التطبيق. إذ لا يطبّق الموظّفون العموميون المتدخّلون في عمليّة إسناد الصفقات هذا الالتزام دائماً. على سبيل المثال، حصّة الشركات الصغرى، وحتّى المتوسّطة، ضعيفة جدّاً في الصفقات المُسنَدة في قطاع الصحّة العمومية، مقارنة ببقيّة الشركات[4]. كما تشير دراسة أنجزتها الهيئة العليا للطلب العمومي في سنة 2019 إلى أنّ نسبة الشراءات العمومية المُسنَدة للمؤسَسات الصغرى والمتوسَطة لا تتجاوز 17% من جملة الصفقات العمومية، وهي نسبة أقلّ من السقف الذي حدّده الفصل 20 من الأمر[5]. ويدعو هذا الأمر إلى التساؤل عمّا إذا كانت نسبة الـ 20% المخصَّصة لفائدة الشركات الصغرى التزاماً ببذل عناية أو تحقيق نتيجة؟

كذلك الأمر بالنسبة إلى أولويّة المُنتَجات الوطنيّة في الصفقات العمومية. إذ ينصّ الفصل 26 من الأمر المنظِّم للصفقات العمومية على تفضيل عروض المقاولات التونسية في صفقات الأشغال على عروض المقاولات الأجنبية، وكذلك المنتوجات تونسية المنشأ في جميع صفقات التزوُّد بموادّ على المنتجات الأخرى مهما كان مصدرها، إذا كانت في مستوى الجودة نفسه، طالما لم يتجاوز الفرق في الثمن هامش الـ 10%. لكنّ هذا الهامش يبقى غير كاف لدعم حظوظ المنتوج التونسي، بخاصّة في ظلّ التنافسيّة العالية لمنتوجات الشركات الأجنبية ونفوذ المورِّدين، ممّا يجعل الشركات الصغرى صاحبة المنتوج التونسي عاجزة عن المنافسة حتّى مع تطبيق شرط التحفيز.

أخيراً، وحتّى على مستوى خلاص المزوِّدين، تُعمِّق هذه النقطة الفوارق لصالح الشركات النافذة. حيث تعتمد الإدارة، بخاصّة في ظلّ الصعوبات المتفاقمة للماليّة العمومية، نظام الأولويّات في الخلاص، وهو معيار غير موضوعي. حيث يصبح بإمكان الشركات الكبرى ممارسة شتّى أنواع الضغوطات على الإدارة، كقَطع التزويد أو محاولة تقديم الهدايا والرشاوى والواسطة، أو التقرّب من بعض الموظّفين لتنال أولويّة الخلاص. في المقابل، يؤدّي تأخّر خلاص الشركات الصغرى إلى تعقيد وضعيّتها الاقتصادية والتقليص أكثر فأكثر من تنافسيّتها.

الشفافيّة والرقمنة، بين طموح النصوص وحِيَل الواقع

إذا كانت الشفافيّة تُعتبَر الحلّ السحري الكفيل بضمان التنافسية وتكافؤ الفرص والحدّ من الفساد داخل الصفقات العمومية، فإنّ الرقمنة تبدو أداتها السحرية. وضع الأمر المنظِّم للصفقات العمومية في سنة 2014 حجر الأساس لمنظُومة الشراء العمومي على الخطّ، بفرض إعلان الصفقات العمومية ونتائجها عبر المرصد الوطني للصفقات العمومية، وتخصيص منظومة “تونبس” «TUNEPS» للشراءات الإلكترونية. لكنّ التطوّر الأبرز جاء مع صدور الأمر عدد 416 لسنة 2018 المنقِّح له، الذي ينصّ في فصله الثالث على إجباريّة اعتماد منظومة “تونبس” الإلكترونية في الصفقات العمومية ابتداء من غرّة سبتمبر 2018 بالنسبة إلى الوزارات والمؤسّسات العمومية، التي لا تكتسي صبغة إدارية، والمنشآت العمومية وغرّة سبتمبر 2019 بالنسبة إلى المؤسَّسات العمومية والجماعات المحلّية. لكنّ تفعيل هذه المنظومة على أرض الواقع أثبت أنّه غير كافٍ وحده لتحقيق الشفافيّة والنزاهة والحدّ من الريع والفساد في الصفقات العمومية، ابتداء من مرحلة إعداد الحاجيّات وانتهاء بعمليّة إمضاء العقود.

تفتقد منظومة “تونبس”، وحتّى منظومة الإجراءات الورقية سُبل مراقبة إعداد الحاجيّات. فالإعلان عن حاجيّات هيكل عمومي معيَّن، على مستوى تحديد الكمّيّات والخصائص الفنّية، تبقى مسألة داخلية نادراً ما يتمّ التطرّق إليها رغم أهمّيّة هذه المرحلة، لِما لها من انعكاسات على جميع الأصعدة. فهي التي تحدّد سباق المنافسة، وهي التي تحكم توجيه المال العمومي. في بعض الأحيان، يستغلّ المشتري العمومي بصفة عامّة، والموظّفون المسؤولون عن تحديد الحاجيّات بصفة خاصّة، قُربَهم من إحدى الشركات التي يستفيدون منها بطريقة أو بأخرى لإعداد قائمة على المقاس. ويصعب التفطّن بهذا التلاعب نظراً إلى خلوّ لجان مراقبة الصفقات من أشخاص تكون مهمّتهم التدقيق في المواصفات الفنّية المُعلَن عنها. هذا التوجيه في الحاجيّات يُفرِغ مبدأ الشفافيّة والنزاهة والمساواة من محتواه، إذ من شأنه أن يُقصي جميع العروض على المستوى الفنّي ما عدا عرض الشركة المُقرَّبة من الهيكل العمومي، ويشرّع للممارسات الريعية. فظاهراً، يبدو طلب العروض منشوراً وفق الإجراءات التي يمليها التشريع الجاري به العمل، ومُبرماً في إطار القانون، لكنّه في باطنه يخرق جميع المبادئ التي يجب أن تقوم عليها الصفقات العمومية.

ولئن أصبحت إعلانات الصفقات العمومية، منذ تعميم استعمال منظومة “تونبس”، متاحة لجميع مُستخدِمي شبكة الإنترنت، فإنّ المشاركة في طلب العروض تكون مقتصِرة على المؤسّسات المتحصِّلة على مفاتيح عبور لدى الوكالة الوطنية للمصادقة الإلكترونية “TUNTRUST” للتمكُّن من الولوج إلى موقع “تونبس”. وقد استغلّت الوكالة احتكارها هذه الخدمة، كي تضاعف سعر اقتناء مفتاح العبور بأكثر من خمس مرّات دفعة واحدة، بعد تعميم استخدام الموقع ليبلغ قرابة 420 ديناراً باحتساب الأداء على القيمة المضافة، بدون تمديد مدّة صلاحيّته، وهو ما قد يشكّل عبئاً مالياً على الشركات الصغرى.

إضافة إلى ذلك، ورغم أنّ القانون يتيح إمكانيّة طلب إيضاحات واستفسارات، فكثيراً ما يكون ردّ الإدارة منقوصاً أو تتجاهل الردّ أحياناً. إذ من مصلحة بعض الأطراف أن يبقى كرّاس الشروط مُبهماً لتفضيل شركة على أخرى. كما أنّ للإدارة وحدها السلطة التقديرية لتحديد أهمّيّة الاستفسار من عدمه، الأمر الذي يتيح الفرصة للالتفاف على القانون وخرق مبدأ الشفافيّة وإفساح المجال أمام الممارسات الريعية.

لا تخلو مرحلة التقييم الفنّي من ممارسات مُخلّة بالشفافيّة والنزاهة، من قبيل تمرير بعض الوثائق وغضّ النظر عن أخرى، وإفشاء أسعار الملفّ السرّي وغيرها من الانتهاكات، بالتعاون مع موظّفين نافذين. وما يشجّع هذه المخالفات أنّ أعمال لجنة التقييم غير علنية، إذ يقتصر الأمر على تنزيل نتائجها، نظريّاً[6]، على منظومة “تونبس”. وفي معظم الإدارات، يتولّى مقرّر اللجنة إعداد محضر التقييم وحده، بدون عقد اجتماع في الغرض للأعضاء الذين يكتفون بالإمضاء على المحضر لاحقاً، بدون التثبّت من محتواه. كما إنّ غياب المختصّين ضمن لجان الصفقات يجعل هذا التجاوز يمرّ مرور الكرام بدون التفطّن إليه.

هذا وتعمّدت بعض الشركات التي تمتلك نفوذاً قويّاً داخل إدارة ما إلى تقديم ملفّ فنّي، يتضمّن نوعيّة ممتازة مقابل ثمن زهيد. ولا تقوم لجنة التقييم بمراسلة السلطات المعنيّة للإعلان عن كون الثمن مفرط في الانخفاض، فتكون النتيجة إسناد الصفقة إلى هذه الشركات تتسلم بعده الإدارة البضاعة، بغضّ النظر عن مخالفتها الملفّ الفنّي المقدَّم. هذه الممارسة لا تمسّ النزاهة والمساواة أمام الطلب العمومي فحسب، بل تنعكس سلباً على جودة المرفق العامّ، كما تخلق ريوعاً صغيرة، بناء على علاقات زبائنية أو عائلية مع موظّفين عموميين، وهو ما يؤدّي إلى استنزاف الأموال العمومية بدون وجه حقّ.

كما تستغلّ بعض الشركات قربها من بعض الموظّفين في الإدارة لتقديم شهادة في الحصريّة من شركات أجنبية لمنتوجات معيَّنة، الأمر الذي يمكّن المشتري العمومي من إبرام صفقة معها بالتفاوض المباشِر، أي من دون اتّباع إجراءات طلب العروض أصلاً. تشكّل هذه الممارسة نوعاً من الريع، حتّى أنّ مثل هذه الشهادات تكون أحياناً مزوّرة ولا يقع التثبّت منها. وقد حصل وأن ظهرت شركات أخرى متحصَّلة على تلك الشهادة من الشركة الأمّ نفسها، وكان من الممكن التفطّن إليها لو كان أُعلن عن الصفقة وفق مبادئ الشفافيّة والنزاهة والمساواة.

جميع هذه الممارسات تُظهر حدود منظومة الشراء العمومي على الإنترنت، وقصورها عن تحقيق الشفافيّة والنزاهة، إذ إنّ أغلب المشتَرين العموميين يعتبرونها بمثابة موقع إلكتروني لنشر الطلبات العمومية وإتاحتها للمعنيين بالأمر، بدون الاعتناء بباقي الإجراءات، وكأن مبدأ الشفافيّة يتلخّص في جعل طلب العروض منشوراً على الإنترنت شأنه شأن الجرائد الإلكترونية أو الموقع الإلكتروني للإدارة المعنيّة. تالياً، يجب على المسؤولين الانتباه إلى أنّ الفساد ينطلق منذ إعداد عمليّة التقييم ونشر طلب العروض أو الاستشارة على موقع “تونبس”، الذي لا يقي من إمكانيّة إسناد الإدارة صفقة معيّنة إلى ذات معيّنة بدون وجه حقّ. كما إنّ عدم نجاعة الرقابة وعدم تدعيم الهياكل الرقابية بالكفاءات اللازمة من المختصّين جعل هذه الإصلاحات في الشراء العمومي لا ترتقي قط إلى درجة تجعل منه شفّافاً ونزيهاَ، ولا تضع حدّاً للصفقات المشبوهة والممارسات الريعية.

نشرت هذه المقالة في العدد 24 من مجلة المفكرة القانونية – تونس: الريع المُخضرم


[1] Amira TLILI, Réforme de la réglementation des marchés publics en Tunisie : Étude comparée avec les normes internationales, Université de Strasbourg, 2014, p. 11.
[2] المؤسف غياب تحيينات إحصاءات الصفقات العمومية في تونس رغم وجود موقع للشراءات العمومية تابع لرئاسة الحكومة قائم الذات.
[3] الفصل 20 من الأمر عدد 1039 لسنة 2014 المنظِّم للصفقات العمومية.
[4] عبد الكريم حيضرة، “دور الشفافيّة في مكافحة الفساد – الصفقات العمومية نموذجاً” مجلّة الحقوق والحرّيّات، مارس 2016، ص. 94.
[5] OCDE, Améliorer l’accès des PME aux marchés publics en Tunisie, 2019, p. 11.
[6]معظم المشترين العموميين لا يقومون بتنزيل نتائج التقييم على “تونبس”، نظراً إلى ضيق الوقت وصعوبة العمل على المنظومة، التي تعمل بنظام كلّ فصل أو منتوج على حدة، وليس كامل القسط من الصفقة دفعة واحدة. وهو ما يجعل عمل الإدارة مضاعفاً ويدفع أغلب المسؤولين عن طلب العروض إلى التهرّب من هذه العمليّة المُضَيِّعة للوقت والجهد وتحديداً المملّة.
انشر المقال

متوفر من خلال:

قطاع خاص ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني