الملكيّة الضائعة: الدولة والمواطن والثروة العقارية في مصر


2021-06-28    |   

الملكيّة الضائعة: الدولة والمواطن والثروة العقارية في مصر
مصلحة الشهر العقاري (ويكيبيديا)

تتراوح قيمة الثروة العقارية في مصر بين 150 و200 تريليون جنيه مصري، وهي أرقام مرشَّحة للزيادة، آخذين في الاعتبار مؤشّرات التضخّم ومعدّلات القوّة الشرائية وغيرها من المؤثّرات التي تشكّل عوامل حاسمة في قياس قيمة العقارات[1]. وانعكس هذا الأمر تضخّماً هائلاً في حجم الثروة العقارية في مصر على مدار العقود القليلة الماضية. في الوقت نفسه، يُعتبَر الانتشار غير المسبوق لظاهرة البناء غير الرسمي/غير المخطط أحد أهم أسباب هذا التضخم، بخاصّة في المناطق ذات الكثافة السكّانية العالية، وعلى أطراف المدن والقرى على مستوى الجمهورية. وهو الأمر الذي أدّى إلى وجود ملايين العقارات التي يسكنها المصريون ويتداولون ملكياتها بدون أيّ تسجيل أو حصر رسمي من قِبل الدولة. فوفقاً لتقديرات مجلس الوزراء “إنّ نحو 95% من عقاراتنا في مصر غير مسجَّلة”[2]. وعليه، يمكننا القول إنّ المعضلة الأساسية لنمط التوسّع العمراني في مصر خلال العقود الماضية تتمثّل في سمتين رئيسيتين: أوّلاً، وجود ملايين الملكيّات العقارية المتداوَلة التي لا يستطيع أصحابها إتمام إجراءات تسجيلها بشكل رسمي. ثانياً، الضغط الهائل الواقع على أجهزة الدولة من أجل اللحاق بهذا الزحف العمراني غير المنظَّم، عن طريق محاولة توفير كافّة الخدمات والمرافق الأساسية لتلك المجتمعات العمرانية غير المخطَّط لها، ممّا قد يؤدّي إلى تقويض فرص تنمية المجتمعات العمرانية الناشئة بشكل مخطَّط، نظرًا إلى قلّة موارد الدولة المالية.

خلال العامين الماضيين، وبهدف التصدّي لهذه الظاهرة والأخطار الناتجة عنها، اتّخذت أجهزة الدولة المختلفة عدداً من الإجراءات غير المسبوقة سواء على مستوى القرارات التنفيذية، أو على الصعيد التشريعي، من أجل العمل على حصر هذه العقارات وتوفيق أوضاعها القانونية[3]. ويُعَدُّ المشروع القومي لمنظومة حصر وإدارة الثروة العقارية وتخصيص رقم قومي للعقارات أحد أبرز تلك الخطوات التي تأتي في إطار تنفيذ استراتيجيّة مصر للتنمية المستدامة (مصر 2030)[4]، والتي تهدف في أحد جوانبها إلى تحسين كفاءة وفاعليّة الأجهزة الحكومية، وتمكين الإدارة المحلّية، وهي الأمور التي يصعب تحقيقها بدون الوصول إلى حصر حقيقي ودقيق لحجم الثروة العقارية في مصر[5]. ولكن، على الرغم من مشروعيّة اتّخاذ الدولة مثل تلك الخطوات وضرورتها لا يمكن بأيّ حال من الأحوال التعامل مع مثل هذا الواقع، المستمرّ منذ عقود عديدة، إلّا من خلال استراتيجيّات جديدة تصاحبها رؤى تشريعية متطوّرة تهدف إلى إنهاء هذا الوضع والفوضى المصاحبة له. لذلك، تأتي هذه المقالة لمناقشة الآثار الاجتماعية المترتِّبة على الخطوات الأخيرة التي اتّخذتها الدولة في إطار مدى احترامها للحقوق الأساسية للمواطنين كالحقّ في الملكيّة والحقّ في السكن.

الملكيّات غير المُسجَّلة نتيجة طبيعية لنموّ عمراني “غير منظَّم”

لا يمكن بأيّ حال من الأحوال دراسة الواقع القانوني المُنظِّم لبناء المساكن في مصر، وما يتبعه من إجراءات خاصّة بتسجيل تلك العقارات بشكل رسمي، دون الأخذ في الاعتبار كلّاً من السياق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والأمني الذي صاحب النموّ العمراني في مصر خلال نصف القرن الماضي. فمن دون الخوض في تفاصيل معقَّدة، يمكننا حصر الأسباب التي أدّت إلى عشوائيّة التوسع العمراني في مصر في أربعة أسباب رئيسية: أوّلاً، الإفراط في الممارسات ذات النزعة المركزية التي أدّت إلى تركّز فرص النموّ الاقتصادي والترقّي العملي في القاهرة والإسكندرية وعواصم المدن الكبرى، بدرجات متفاوتة، وبالتالي هجرة عدد كبير من السكّان إلى تلك البؤر الاقتصادية الحيوية، وزيادة هائلة في عدد المقيمين في هذه المدن؛ ثانياً، محدوديّة التوسّع العمراني على طول الظهير الصحراوي الموازي لوادي النيل، حيث لم تشجّع المدن الجديدة المواطنين على الانتقال إليها[6]؛ ثالثاً، توغُّل الفساد الإداري في المستويات الدنيا من أجهزة الحكم المحلّي في مصر مثل الأحياء وإدارات المراكز والقرى، ممّا سهّل بناء ملايين العقارات على مستوى الجمهورية بدون تراخيص و بدون احترام المواصفات المنصوص عليها قانوناً؛ رابعاً، عدم قدرة الدولة على التصدّي الجادّ لظاهرة البناء غير المنظَّم خوفاً من غضب المواطنين وما قد ينتج عنه من اضطرابات، حيث جرت العادة أن تصدر قرارات إدارية أو أحكام قضائية بإزالة المباني المخالفة، لكن دائماً ما كانت تأتي إجابة الأجهزة الأمنية بتعذّر تنفيذ تلك القرارات والأحكام لاعتبارات الأمن العامّ[7].

وفقًا لتقرير صادر مؤخَّراً عن وزارة الإدارة المحلّية بشأن مخالفات البناء عن الفترة من يناير عام 2000 حتّى شهر سبتمبر عام 2017 على مستوى المحافظات، يبلغ إجمالي المباني المخالِفة مليونَيْن و878 ألفاً و808 مباني.[8] وهي العقارات التي تتركّز بشكل رئيسي في المناطق ذات الكثافة السكّانية العالية في محافظات القاهرة والإسكندرية، بالإضافة إلى ملايين العقارات الأخرى الموجود بمعظمها في المناطق الريفية ذات الطابع الزراعي. ممّا يعني أنّ أغلب قاطني تلك العقارات ينتمون إلى الطبقات الوسطى والفقيرة في مصر. في الوقت نفسه، فشلتْ الحكومات المصرية المتعاقبة في استيعاب هذا الكمّ الهائل من النموّ العمراني غير المنظَّم داخل الإطار الرسمي لمنظومة التسجيل العقاري في مصر، والتي تُعدّ من أقدم نظم الشهر العقاري في المنطقة العربية ومنطقة الشرق الأوسط[9]. لكنّ هذه المنظومة ذات الطابع البيروقراطي لم تتطوّر بمرور الزمن فوقفت عاجزة أمام التعامل مع العقارات المَبْنِيَّة عشوائياً. فعلى على سبيل المثال، أحد الشروط الأساسية لتسجيل أيّ عقار في الشهر العقاري هو خلوّ هذا العقار من أيّ مخالفات تتعلّق بشروط وقياسات البناء، كعدد الطوابق، أو أيّ من مواصفات البناء الأخرى. وهو الأمر غير المتوفّر في معظم العقارات في مصر التي بُنِيَتْ بشكل غير منظَّم. كما تشترط مصلحة الشهر العقاري ضرورة تسجيل الأرض المقام عليها العقار أوّلاً، وهو إجراء لا يمكن تجاوزه من أجل الموافقة على تسجيل عقار ما في سجلّات الشهر العقاري؛ وهو ما وقف حائلاً أمام تسجيل العقارات المخالِفة التي تمّ بناؤها على أراضٍ زراعية أو مملوكة للدولة.

عليه، ومن أجل التغلّب على تلك الإشكاليّات، دأب المواطنون على إتمام تصرّفاتهم العقارية، عن طريق إقامة دعاوى قضائية تحفّظية كدعوى صحّة التوقيع، لإثبات عمليّات البيع والشراء، في محاولة لإثبات ملكيّاتهم (أو الأدقّ لإظهار صفة المالك) في ظلّ عدم تمكّنهم من تسجيل عقاراتهم في الشهر العقاري[10]. ففي مثل تلك الدعاوى يقوم القاضي بفحص التوقيعات الممهورة على العقود المختلفة، وتأكيد صحّتها بدون فحص ملكيّة العقار وتسلسلها بأيّ شكل من الأشكال. ولعلّ أبرز ما ساعد على انتشار هذا النوع من الممارسات القانونية البديلة، هو غياب نصّ قانوني يلزم مُلّاك العقارات بتسجيلها في الشهر العقاري، بالإضافة إلى قبول كافّة الجهات الرسمية المسؤولة عن تزويد العقارات بالمرافق (كالكهرباء والماء والغاز والصرف الصحي)، التعامل بموجب الأحكام القضائية الصادرة في دعاوى صحّة التوقيع كسند يثبت ملكيّة العقار. الأمر الذي يترك واقعاً عملياً مُعقَّداً للغاية، يضع معه حقّ الأفراد في ملكيّاتهم في مهبّ الريح.

السياسة القانونية لحصر العمران في مصر: ماذا تفعل الدولة لتفادي أخطاء الماضي؟

يُعتبَر وقف التمدُّد العمراني العشوائي بشكل نهائي أحد الأهداف الرئيسية للاستراتيجية القومية للتنمية المستدامة “مصر 2030”. وهو الأمر الذي يبدو المحرِّك الأساسي للسياسة التنفيذية والتشريعية المتعلّقة بتنظيم أعمال البناء في مصر خلال العامين الماضيين، ليصبح شعارها بوضوح: لا مزيد من ممارسات البناء غير المنظَّم. وعليه، في مايو 2020، اتّخذت الحكومة قراراً بوقف إصدار التراخيص الخاصّة بإقامة أعمال البناء بجميع أنواعها، في القاهرة والإسكندرية وعواصم المحافظات الأخرى لمدّة ستّة أشهر قابلة للتمديد[11]، وذلك لحين الانتهاء من الدراسات اللازمة لوضع شروط ومواصفات البناء الجديدة، والتي قد تتضمّن وقف أعمال البناء نهائياً في عدد من الأحياء أو المدن. وبذلك تكون قد ضمنت الدولة إيقاف أيّ زيادات عمرانية غير مخطَّط لها، من شأنها أن تبقي جميع محاولات حصر الثروة العقارية محاولات للّحاق بسراب لن يتحقّق أبداً.

وبذلك، أصبح الهدف التالي للحكومة تقنين الأوضاع المخالفة للعقارات الحالية، حتّى يصبح دمجها داخل المنظومة الرسمية للسجلّ العقاري ممكناً في المستقبل، من أجل الوصول إلى الهدف الأكبر وهو حصر الثروة العقارية في مصر بشكل شامل ودقيق. بناء على ذلك، تمّ البدء في تفعيل أحكام قانون التصالح في مخالفات البناء الصادر عام 2019، بهدف تقنين أوضاع العقارات المخالِفة مقابل دفع غرامات مالية خلال فترة سماح معيَّنة[12]. الأمر الذي أثار غضب عدد كبير من المواطنين بسبب ارتفاع القيمة المالية للغرامات المطلوب سدادها، ممّا دفع بالحكومة إلى تخفيض رسوم التصالح أكثر من مرّة، وإتاحة أنظمة سداد متنوّعة على دفعات مختلفة[13]. تؤكّد المرونة التي أظهرتها الحكومة في إدارة أزمة التصالح على مخالفات البناء، بشكل قاطع، أنّ مشكلة البناء وحصر الثروة العقارية في مصر على رأس أولويّات السلطة الحالية، وأنّها مستعدّة للتراجع بعض الخطوات لتهدئة الرأي العامّ من أجل تحقيق الهدف المنشود من وراء جميع هذه الإجراءات[14]. ويُعتبر هذا الأمر خطوة إيجابية في إدارة هذا الملفّ، توحي بإمكانية تخفيف أعباء تلك الأزمة عن كاهل المواطن ولو بشكل محدود.

واستكمالاً لهذا النهج الذي يهدف إلى تقنين الأوضاع المخالِفة للعقارات الحالية ودمجها في منظومة التسجيل الرسمية، وافقت لجنة الشؤون التشريعية والدستورية في مجلس النوّاب على مشروع قانون مقدَّم من الحكومة بشأن إقرار قانون جديد خاصّ بأحكام السجلّ العيني، بدلاً من القانون الحالي الصادر عام 1964[15]. وعلى الرغم من عدم إقرار هذا القانون بشكل نهائي من قِبل مجلس النوّاب، لأسباب غير معروفة، لقد تضمّن عدداً من الأحكام التي قد تعطي بعض المؤشّرات إلى نوايا المُشرِّع تجاه كيفيّة التعامل مع أزمة الثروة العقارية غير المُسجَّلة في مصر. ففي ما يتعلّق بالعقارات التي لا يملك أصحابها عقوداً مُشهَرة من قِبل مصلحة الشهر العقاري تثبت ملكيَّتهم لتلك العقارات، ألزم مشروع القانون عدداً من الجهات كالجهاز المركزي للتعبئة العامّة والإحصاء، ومصلحة الضرائب العقارية، ووحدات الإدارة المحلّية، وغيرها من الجهات ذات الصلة، بمساعدة مأموريات السجل العيني وإمدادها بالبيانات التي تُمكّنها من التثبّت من الملكية الحالية للعقار، والتعامل معها كسند يصلح لقيد العقار في السجلّ العيني[16]. وعلى الرغم من الصعوبة العملية لإنفاذ مثل ذلك الإجراء، بالإضافة إلى إمكانيّة التلاعب في العديد من البيانات بخاصّة الصادرة عن وحدات الحكم المحلّي المعروف عنها تفشّي الفساد الإداري، إنّنا نرى أنّ مثل هذا القانون، في ظلّ الوضع الراهن، قد يفتح الباب أمام ملايين المُلّاك لتسجيل ملكيّاتهم، ممّا قد يشكّل حلّاً جزئياً لأزمة حصر الثروة العقارية في مصر.

في الوقت ذاته، تجدر الإشارة إلى أنّ السياسة القانونية التي اتّبعتها الدولة في التعامل مع إشكاليّة تنظيم البناء وحصر الثروة العقارية حتّى الآن، تحلّت بقدر كبير من المرونة بشكل عامّ، لامتصاص غضب الرأي العامّ، رغبةً منها في إتمام تلك المهمّة المعقّدة. فعلى الرغم من إقرار عدد من القوانين تهدف إلى الحدّ من هذه المشاكل دون حوار مجتمعي حقيقي يسمح للمواطنين بصياغة مشكالهم، كانت الاستجابة للرأي العامّ حاضرة بشكل ملحوظ من أجل تأجيل أو تسهيل الإجراءات التي تقرّرها تلك القوانين الجديدة. فللمرّة الثانية، وبعد الإشكاليّات التي أثيرت حول قانون التصالح، تمّ تأجيل إنفاذ عدد من التعديلات بشأن قانون الشهر العقاري التي كان من المقرَّر بدء العمل بموجبها في مارس 2021[17]. ووفقًا لتلك التعديلات، تلتزم شركات الكهرباء والمياه والغاز، وغيرها من الشركات والجهات الحكومية، بعدم توصيل المرافق والخدمات، أو نقلها، أو اتّخاذ أيّ إجراء يتعلّق بالعقار إلّا بعد تقديم ما يثبت تسجيل هذا العقار في الشهر العقاري[18]. وهو الأمر الذي من شأنه حرمان الملايين من ملّاك العقارات غير المسجَّلة من الحصول على تلك الخدمات ويهدّد حقّهم في التمتّع الكامل بملكيّتهم. فضلاً عن ذلك، إنّ إنفاذ مثل تلك الإجراءات بهذا الشكل المفاجئ، يؤثّر بالضرورة على سوق العقارات وحركة البيع والشراء. فمن المستحيل أن يقدم أحد الأفراد على شراء عقار جديد لا يستطيع إدخال المرافق الخاصّة به، أو نقلها لاحقاً لشخص آخر. يُعتبَر تأجيل إنفاذ هذه الأحكام لمدّة عامين قادمين أمراً جيّداً إلّا أنّه يطرح تساؤلات أخرى مهمّة. على سبيل المثال، كيف يستطيع المواطنون تسجيل عقاراتهم خلال تلك المدّة في ظلّ الصعوبات التي سبق وأشرنا إليها؟ ما هي الضمانات التي يجب أن يراعيها أيّ نصّ تشريعي قادم في ما يتعلّق بحقّ المواطنين في التمتّع بكامل ملكيّاتهم بدون أيّ نقصان؟

ما العمل؟ تشريع جديد لا يكفي

إنّ الآثار المترتِّبة على التوسّع في حصر وتسجيل ملكيّة ملايين العقارات التي تقبع خارج منظومة التسجيل الرسمية في مصر عديدة ومتنوّعة. فبالإضافة إلى الهدف المعلَن بشأن تعظيم قيمة الثروة العقارية، وضمان الحقوق المرتبطة بها، وما سوف ينتج عن ذلك من وفرة حقيقية للمعلومات والبيانات الخاصّة بتلك العقارات وعدد المستفيدين منها، ممّا قد يحسّن الخدمات المقدَّمة إلى المواطنين، يُعتبر تحفيز الاستثمار الأجنبي على ضخّ المزيد من رؤوس الأموال في السوق المصرية أحد تلك الآثار التي لا يجب الالتفات عنها. فوفقاً لمؤشّر “تسجيل الملكيّة” الصادر عن البنك الدولي، والمعني بتقييم كلٍّ من الخطوات والوقت والتكلفة اللازمة لتسجيل الملكيّات العقارية، تحتلّ مصر التصنيف رقم 130 على مستوى العالم[19]. الأمر الذي يؤثّر بالضرورة على فرص وحجم الاستثمارات الأجنبية في مصر بشكل سلبي بسبب عدم وجود قاعدة للملكيّة العقارية بشكل واضح وشفّاف.

لذلك، يجب أن ينطلق أيّ نقاش حول أزمة تسجيل الملكيّات العقارية في مصر من نقطة أنّ حلّ هذه الإشكاليّة لا يمكن أن يتمّ عن طريق تبنّي نصّ تشريعي جديد فقط. بدلًا من ذلك، يجب إنشاء نظام جديد يضمن الاستقلاليّة الكاملة لمصلحة الشهر العقاري لتصبح هيئة مستقلّة بذاتها، تعمل على تسيير أمورها، دون أيّ تدخّل من السلطة التنفيذية المتمثّلة في وزارة العدل، كما هو الحال في العديد من دول العالم. فوفقاً لرئيس مصلحة الشهر العقاري الأسبق، تتلخّص مشاكل الشهر العقاري في ثلاث نقاط أساسية هي عدم وجود مقرّات مطوَّرة، والعجز الشديد في عدد الموظّفين والعاملين في المصلحة، بالإضافة إلى تعدُّد التشريعات التي تنظّم إجراءات وعمل الشهر العقاري والتي تتسبّب في المزيد من البيروقراطية وسوء الخدمات المقدَّمة  إلى المواطنين[20]. الأمر الذي يجعل استقلاليّة مصلحة الشهر العقاري وربطها إلكترونياً بباقي الهيئات ذات الصلة ضرورة ملحّة في الوقت الراهن. فضلاً عن أنّ إقرار تشريع جديد خاصّ بتنظيم عمل المصلحة وإجراءات التسجيل بشكل مبسَّط وواضح وبدون أعباء مالية كبيرة من شأنه أن يساهم في تشجيع ملّاك العقارات على تسجيل ملكيّاتهم بشكل رسمي. هذا وقد سبق وأن أثار رئيس مجلس النوّاب السابق الدكتور علي عبد العال هذا الاقتراح، وشدّد على أنّ عدم استقلاليّة الشهر العقاري قد يُمثِّل مخالفة لنصوص الدستور[21].

من جانبنا، إننا نرى أنّ لا أزمة حقيقية في ما يتعلّق بوضع المجتمعات العمرانية الجديدة التي أُنشئت مؤخَّراً، كونها حديثة العهد ولم يتمّ تدول ملكيّتها أكثر من مرّة، بالإضافة إلى أنّ الدولة هي المالك الأوّل لهذه الأراضي[22]. بالتالي، إنّ مسألة بحث وتسجيل ملكيّة العقارات التي أُنشئت على تلك الأراضي لن تكون معضلة بأيّ حال من الأحوال. ولن يواجه أصحاب الملكيّات العقارية في تلك المجتمعات العمرانية الصعوبات نفسها التي قد يواجهها أصحاب الملكيّات العقارية القديمة، التي تداول ملكيّاتِها عددٌ كبير من المُلّاك، ممّا يزيد تعقيد وصعوبة إثبات تلك الملكيّات التي يتمّ تداولها عبر عقود.

وعليه، تقترح هذه المقالة أن يُفرَّق بين الإجراءات الواجب اتّباعها عند تسجيل العقارات الموجودة في المجتمعات العمرانية الجديدة، وبين العقارات التي تمّ بناؤها في الماضي سواء بشكل مخطَّط أو غير مخطَّط، على أن تراعي تلك الإجراءات الجديدة الوضع الحالي لملّاك تلك العقارات وقاطنيها. وذلك عن طريق التوسّع في طرق إثبات الملكيّات الحالية، بدون إلقاء عبء إثبات الملكيّات السابقة التي توالت على العقار على عاتق المالك الحالي. ففي الوقت الذي تسعى فيه الدولة إلى حصر الثروة العقارية بشكل دقيق، لا يمكن التعدّي على حقّ المواطنين في ملكيّاتهم، أو إرهاقهم بسيل من الإجراءات من أجل التمتّع بها. وفي النهاية تجب الإشارة إلى أنّ الحقّ في الملكيّة وضوابطه والأحكام المنظِّمة له تتشكّل بالأساس وفقاً للاحتياجات الاقتصادية في مجتمع ما والظروف الاجتماعية المحيطة بها. فكما تشرح إيجنا مارتنكوت، “إنّ حدود الملكيّة وضوابطها نسبية إلى حدّ كبير، وتعتمد بشكل رئيسي على التاريخ المحلّي، والتوافق المجتمعي، ومتنازَع عليها بشدّة على الصعيد العالمي”[23]. لذلك، وفقاً لاحتياجات مجتمع يعيش نحو 95% من سكّانه في عقارات ملكيّتها غير مسجَّلة، يجب أن يتمّ تطويع النظام الحالي لا بل تطويره ليتناسب مع الاحتياجات الاقتصادية لتلك الجماعة البشرية في هذه اللحظة من التاريخ، وما تحتّمه من ضرورة التعاون لإنهاء أزمة طالما بقيت بدون حلّ نهائي.

[1] كم تبلغ قيمة الثروة العقارية في مصر؟ مسؤول يجيب، حوار تلفزيوني مع وكيل لجنة الإسكان في مجلس النوّاب المصري، موقع قناة العربية، 3 مارس 2021.

[2] الحكومة: 95% من العقارات في مصر غير مسجَّلة، جريدة الشروق، 28 فبراير 2021.

[3] أحمد صالح، الدولة المصرية في مواجهة العشوائيات: قرار بوقف أعمال البناء لمدّة ستّة أشهر، المفكّرة القانونية، 16 يونيو 2020.

[4] حصر الثروة العقارية وإعداد قاعدة بيانات لاستكمال خدمات الحكومة الإلكترونية، موقع المصري اليوم، 12 يناير 2021.

[5] استراتيجية مصر للتنمية المستدامة (رؤية مصر 2030)، موقع الهيئة العامّة للاستعلامات، 7 يوليو 2020.

[6] سياسة المدن الجديدة في مصر: أثر متواضع وعدالة غائبة، موقع مبادرة تضامن المعنية بسياسات التخطيط العمراني في الشرق الأوسط.

[7] للمزيد حول ظاهرة البناء غير المنظَّم في مصر: حسن مسعد، التهجير القسري للصفيح في مصر، المفكّرة القانونية، 14 ديسمبر 2017.

[8]  23 مليون عقار في مصرهل تنجح الحكومة في حشد المُلّاك بمكاتب الشهر العقاري لتوثيق ممتلكاتهم؟، موقع بوّابة الأهرام، 3 يونيو 2018.

[9] على الرغم من أنّ محاولات إنشاء نظام “سجلّ عيني” شامل يتضمّن كافّة العقارات الموجودة في القطر المصري قد بدأت منذ بدايات القرن الماضي، وتحديداً في 1902، تمّ إنشاء مصلحة الشهر العقاري في 1946 جنباً إلى جنب مع مجلس الدولة في إطار مخطَّط أوسع يهدف إلى تطوير شكل المنظومة القانونية في مصر. والمقصود بنظام السجلّ العيني الاعتماد على تسجيل “العين” أو “العقار” بالأساس، ومن ثمّ إثبات الحقوق العقارية المتعلّقة بها، مختلفاً بذلك عن نظم التسجيل الشخصي التي كانت تعتمد على الأفراد كمحور نظام تسجيل الملكيّات العقارية. بشكل أكثر تبسيطاً، يمكن اعتبار صحيفة الشهر العقاري الصادرة لعقار ما كشهادة الميلاد التي تصدر للشخص الطبيعي عند ميلاده. لكن في حالة العقار، تظلّ صحيفة الشهر العقاري هي المستند الذي يتمّ من خلاله إثبات كافّة التعاملات التي تتمّ بخصوص العقار من بيع وشراء ورهن ووقف وما إلى ذلك من تعاملات. وهو المعنى عينه الذي عبّر عنه قانون السجلّ العيني في مادّته الأولى حينما عرّف السجلّ العيني بأنّه “مجموعة الصحائف التي تبيّن أوصاف كلّ عقار وتبيّن حالته القانونية وتنصّ على الحقوق المترتّبة له وعليه وتبيّن المعاملات والتعديلات المتعلّقة به”. وبذلك يتيح نظام الشهر العقاري للجميع العلم بالموقف القانوني للعقار بشكل قاطع، ومن ثمّ يصبح نافذاً في مواجهة أيّ طرف من الأطراف التي قد تتنازع العقار.

[10] يتمّ رفع دعاوى صحّة التوقيع بناءً على نصّ المادة (45) من قانون الإثبات في الموادّ المدنية والتجارية رقم 35 لسنة 1968، التي تنصّ على أنّه  “يجوز لمن بيده محرّر غير رسمي أن يختصم من يشهد عليه ذلك المحرّر ليقرّ بأنّه بخطّه، أو بإمضائه، أو بختمه، أو ببصمة إصبعه ولو كان الالتزام الوارد به غير مستحقّ الأداء ويكون ذلك بدعوى أصلية بالإجراءات المعتادة”.

[11] أحمد صالح، الدولة المصرية في مواجهة العشوائيات: قرار بوقف أعمال البناء لمدة ستة أشهر، المفكّرة القانونية، 16 يونيو 2020.

[12] التصالح في مخالفات البناء في مصر: بين الدولة والمواطن والمحليات، المفكّرة القانونية، 17 أكتوبر 2020.

[13] محافظ القاهرة يقرر تخفيضات جديدة في رسوم التصالح بمخالفات البناء، موقع جريدة المال، 29 أكتوبر 2020.

[14] الحكومة تعلن مَدّ فترة التصالح في مخالفات البناء حتّى آخر مارس 2021، موقع اليوم السابع، 31 ديسمبر 2020.

[15] «تشريعيّة البرلمان» توافق على قانون السجلّ العيني، موقع المصري اليوم، 7 يوليو 2019.

[16] (س) و (ج).. كل ما تريد معرفته عن اثبات الحقوق فيقانون السجلّ العيني، موقع اليوم السابع، 29 سبتمبر 2019.

[17] رسميا.. تأجيل تعديلات الشهر العقاري حتّى 2023 وتوصيل المرافق بدون تسجيل، جريدة الوطن، 6 مارس 2021.

[18] كلّ ما تريد معرفته عن التعديل الجديد لقانون الشهر العقاري، موقع اليوم السابع، 24 فبراير 2021.

[19] الموقع الرسمي لمؤشّر الملكيّة السنوي الصادر عن البنك الدولي.

[20] رئيس مصلحة الشهر العقاري الأسبق، نقل التبعيّة منالعدلإلىالتخطيطلن يحلّ المشكلة، جريدة الوطن، 25 ديسمبر 2019.

للاطّلاع على مزيد من الرؤى المتعلّقة بهذا الطرح: استقلال الشهر العقاري، موقع دار الهلال، 20 يناير 2021.

[21] رئيس البرلمان: عدم وجود هيئة مستقلّة للشهر العقاري مخالَفة جسيمة للدستور، موقع اليوم السابع، 8 ديسمبر 2019.

[22] إذا ما أُخذ في الاعتبار أنّ كافّة المجتمعات العمرانية الجديدة قد شُيِّدَت على أراضٍ صحراوية غير مأهولة على أطراف المدن الرئيسية، وتملكها الدولة بحكم القانون، لن يواجه قاطنو تلك المجتمعات الجديدة أزمة ضرورة إثبات الملكيّة المتداوَلة لعقاراتهم على مدار السنين، كون الدولة هي التي شيَّدت تلك العقارات وهي المالك الأوّل للأراضي. لمزيد من الإيضاح: المادّة (6) من القانون رقم 21 لسنة 1995 بشأن أراضي وعقارات الدولة.

[23] Inga Martinkute, State Interference with Private Property, Max Planck Encyclopaedia of Comparative Constitutional Law, (2020), P.1.

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، سياسات عامة ، البرلمان ، سلطات إدارية ، تشريعات وقوانين ، الحق في السكن ، بيئة وتنظيم مدني وسكن ، مصر



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني