المقاطعة أم التصويت بـ”لا”: قراءة في مواقف المعارضة التونسية


2022-06-29    |   

المقاطعة أم التصويت بـ”لا”: قراءة في مواقف المعارضة التونسية

تمّ تحيينه بتاريخ 2022-08-09

كُتبت فصول الدستور الجديد داخل لجان مغلقة وغير معلومة التركيبة. ولا يُدرك الرأي العام التونسي إلى حدّ الآن إلا نُذرا من المداولات والمقترحات والخلافات التي جرتْ داخل غُرف الصياغة. ومن المنتظر أن يُفصح الرئيس قيس سعيّد أواخر شهر جوان الجاري عن النص النهائي للدستور الجديد بعد إخضاعه للمراجعة والتنقيح. اعتمد الرئيس سعيّد استراتيجية “العَدْو السياسي السريع” وجعل خصومه وأصدقاءه -على حد السواء- يركضون وراءه من أجل عقلنة سرعة الزمن السياسي والسماح لأنفسهم بمزيد من الفهم.

إن الرئيس الذي يقول عن نفسه إنه بصدد صناعة التاريخ في مدة زمنية قصيرة، أدخَل المعارضات الحزبية في مأزق البحث عن آليات ناجعة لإسقاط الاستفتاء ومشروع الدستور الجديد خلال مدة قصيرة لا تتجاوز الشهر. وتتأرجح المواقف الرئيسية إلى حدّ الآن بين “المقاطعة” و”التصويت بلا” و”تأجيل الموقف إلى حين”. وبخصوص هذه المواقف الثلاثة، تُطرح بعض الأسئلة: أي معنى للمشاركة في ظلّ مسار انتخابيّ غير نزيه ومتكافئ وتحت رقابة الرئيس؟ هل تُفلح المقاطعة في إضعاف شرعيّة الرئيس أم أنها ستزيد من عزلة المعارضات؟ هل سيكون الصندوق أفقًا للنضال من أجل إسقاط الرئيس أم أن المعارضات ستبحث عن آليات مواجهة أخرى؟ ما هي البدائل المطروحة من أجل تركيز شروط سياسيّة وقانونيّة أكثر ديمقراطيّة؟

هذه الأسئلة، يحاول هذا المقال البحث عنها داخل تصوّرات الأحزاب السياسية المعارضة، التي شَرعَ جزء كبير منها في إعلان مواقفه من الدستور الجديد والاستفتاء ومشروع الرئيس قيس سعيد. خاصة وأنّ الاتحاد العام التونسي للشغل أعلن بتاريخ 28 جوان 2022 مشاركته في حملة الاستفتاء من دون حسم التصويت بـ”نعم” أو “لا”، إلى حين صدور نص الدستور الجديد. وسيكون لموقف الاتحاد تأثيرٌ كبيرٌ في مواقف بقيّة المعارضات الحزبية خلال المرحلة المقبلة.

 لموقفِ اتحاد الشغل تأثيرٌ كبيرٌ في مواقف المعارضات الحزبية

تيّار المقاطعة: وِحدة الموقف وتناقض التشخيص والمصير

لا يُجسّد تيار المقاطعة وحدة صمّاء، وإنما يشقّه خلافٌ جوهريّ حول تشخيص مرحلة ما قبل 25 جويلية وحول تصوّرات المرحلة القادمة. ويضمّ تيّار المقاطعة إلى حدّ الآن ائتلافيْن كبيريْن، هما “جبهة الخلاص الوطني” و”الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء”. وتُعتبر جبهة الخلاص امتدادًا لتحالف “مواطنون ضد الانقلاب” الذي يضمّ حركة النهضة الإسلامية وحلفاءَها، وقد توسّعت الجبهة بانضمام حزب “أمل” وبخاصة النشاط البارز لزعيمه أحمد نجيب الشابي. أما الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء، فتتكوّن أساسًا من الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية، وهي حزب التيار الديمقراطي وحزب العمال وحزب التكتّل من أجل العمل والحريات والحزب الجمهوري وحزب القطب.

يتفق جلّ المقاطعين حول الطعن في المسار الانتخابي الحالي بوصفه مسارا غير ديمقراطي، ووُضعت شروطه التقنية والقانونية والسياسية من أجل تزكية مشروع الرئيس وإزاحة خصومه. ويُبدي المقاطعون شبه يقين بأن نتائج الصندوق معلومة مسبقا وستؤدّي في المحصّلة إلى وضع جديد غير ديمقراطيّ. وهو ما عبّر عنه نبيل حجي القيادي في حزب التيار بقوله: “المسار غير ديمقراطي ولن يؤدي إلى بناء دولة ديمقراطية”. ويفضّل المقاطعون أيضا استعمال الصيغة السياسية القائلة بـ “معارضة المسار” برمّته وليس معارضة الاستفتاء فقط.

ولكن ما هو الأفق السياسي للمقاطعة؟ لا يلوح أن تيّار المقاطعة يحمل تصوّرا موحّدا حول آليات الخروج من الأزمة الدستورية والسياسية الحالية، وهو نابع من اختلاف مكوّناته حول تشخيص العشريّة الفارطة وتوزيع المسؤوليات. ففي الوقت الذي تذهب فيه الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء نحو تحميل حركة النهضة وحلفائها السابقين مسؤولية إضعاف الحياة الديمقراطية، فإن جبهة الخلاص الوطني تعتبر أن “الجميع شارك في العشرية السوداء بأقساط مختلفة” على حدّ تعبير رضا بالحاج عضو الهيئة التنفيذية لجبهة الخلاص. وعلى هذا الأساس، تقترح قيادة جبهة الخلاص العودة إلى اللحظة التي سبقتْ تفعيل الفصل 80 يوم 25 جويلية 2021، بوصفها لحظة “ديمقراطية ودستورية” وإصلاح نقائصها المؤسساتية والتشريعية، ثم الشروع في حوار وطنيّ، تعقبه الدعوة إلى انتخابات تشريعية ورئاسية سابقة لأوانها. أمّا الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء، فإنها لا تؤيّد العودة إلى ما قبل 25 جويلية، ولكنها تقترح هي الأخرى تنظيم حوار وطني وتنظيم انتخابات سابقة لأوانها، وتقترح أيضا تعديل القانون الانتخابي على غرار ما صرح به خليل الزاوية القيادي في حزب التكتل للمفكرة القانونية في وقت سابق.

رغم التشابه في المقترحات، فإنّ الخلاف يبدو جليّا حول التعاطي مع الوضع السياسي والمؤسساتي الذي أفرَزته انتخابات 2019. ففي الوقت الذي تدعو فيه جبهة الخلاص إلى إعادة تفعيل المؤسسات المُجمّدة والشروع في إصلاحها تمهيدا لانتخابات جديدة، فإن الحملة الوطنية لإسقاط الاستفتاء لا تؤيّد العودة إلى مؤسسات 2019، وإنّما تدفع نحو بداية مرحلة مؤسساتية وسياسية جديدة يكون مُنطلقها الحوار الوطني من دون المساس بدستور 2014.

المشاركة بـ”لا”: هل هو موقف ديمقراطي داخل لعبة غير ديمقراطية؟

يُعتبر حزب “آفاق تونس” حتّى الآن الأكثر تعبيرا داخل المعارضة التونسية عن موقف المشاركة في الاستفتاء بـ”لا”. ويُدافع هذا الموقف عن نفسه من خلال اعتبار الزمن السياسي الحالي “زمن بناء الديمقراطية” وليس شبيهًا ب “زمن ما- قبل الثورة”، حسب ما أشار إليه رئيس الحزب فاضل عبد الكافي. كما يعتبر حزب آفاق تونس أن نتائج الصندوق ليست محسومة سلفًا لصالح الرئيس سعيد، وأنّه ما زال بالإمكان إصلاح المنظومة – التي يعتبر الحزب نفسه جزءًا منها – عن طريق المشاركة الانتخابية وشرح أسباب المعارضة للجمهور الانتخابي والتخلّي عن سياسة “الكراسي الفارغة”. ولا يختلف الموقف المدافع عن التصويت بـ”لا” عن موقف المقاطعين في اعتبار أن المعارضة تهدف في أساسها إلى مناهضة مشروع الرئيس سعيد ومساره الانفرادي وليس معارضة الدستور الجديد فقط.

يُحيل الخلاف بين موقفيْ “المقاطعة” و”المشاركة بلا” إلى الانشقاقات الكبرى التي شقّت المعارضات التونسية طيلة تاريخها السياسي، وبخاصة الخلاف التاريخي حول تقييم السنوات الأولى لصعود الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي. ففي الوقت الذي اعتبرها البعض بداية انفراج سياسيّ ذاهب نحو دَمَقرطة الحياة السياسية وتصفية الإرث الفردي البورقيبي، اعتبرها البعض الآخر حلقةً جديدةً نحو تأسيس حكم استبداديّ جديد رافضًا الانخراط في “الميثاق الوطني” الذي دَعتْ إليه السلطة في 07 نوفمبر 1988. رغم أن السياقات مختلفة بين سنتي 1987 و2022، فإن تقييم المسألة الديمقراطيّة مازال يُعتبر مسألةً خلافيّةً داخل المعارضات التونسية. إذ أن كلا الموقفين – المقاطع أو المشارك بـ”لا”- يَستخدمان نفس الحجة، وهي الدفاع عن الديمقراطية ضدّ حكم الفرد. إضافة إلى أنّ هناك خلافًا أكبر حول تقييم الوضع الديمقراطي في مرحلة العشر سنوات، هل هي “ديمقراطية لم تكُمل مسارها” أم هي “ديمقراطية فاسدة”؟ وستظلّ هذه الخلافات مُحدّدة في رسم تكتيكات المعارضة التونسية في المدّة القادمة.      

يُحيل الخلاف بين موقفيْ “المقاطعة” و”المشاركة بلا” إلى الانشقاقات الكبرى للمعارضات التونسية تاريخيا

 الحزب الدستوري الحرّ و”مسرَحة” المعركة

رغم إعلان الحزب الدستوري الحرّ في شهر أفريل الفارط نيّته مقاطعة الاستفتاء، فإن رئيسته عبير موسي عادتْ لتؤكّد أنّ الحزب لم يتّخذ قراره بخصوص المشاركة أم المقاطعة. يُمكن فهم هذا الموقف بوصفه تأجيلا “تكتيكيا” للقرار، لأن متابعة السلوك السياسي للحزب الدستوري الحرّ تعطي انطباعًا بأنّه يمارس المعارضة “التخاصميّة”، التي تَطرح مواقفها وبرامجها على وقع الاشتباك الدائم مع خصومها. لذلك يُكثّف الحزب من الشكايات القانونية والطعون الإدارية أمام المحاكم، ويُراوح بين الالتجاء الى التقاضي والقيام بأنشطة ميدانية سواء المسيرات أو الاعتصامات. وعادة ما تلجأ رئيسة الحزب الدستوري الحرّ إلى “مسرحة” خطاباتها، على غرار القيام بـ”مناظرات بيضاء” تنتهي بانتصارها على خصومها الغائبين. وعلى هذا الأساس، فإنّ الإعلان المُبكر عن المقاطعة قد يُضعف منطق استمرار المعركة الذي يُهيكل السلوك السياسيّ للحزب الدستوريّ الحرّ. كما أنّه سيُدرجه ضمن تيار المقاطعين الذي يضمّ الخصوم الألدّاء على غرار حركة النهضة. ولكن بمجرّد إعلان هيئة الانتخابات عن قائمة المشاركين في حملة الاستفتاء، تبيَّن أن الحزب الدستوريّ الحرّ ليس ضمن المشاركين، وهو ما يجعله موضوعيا ضمن تيار المقاطعة دون التّصريح بذلك. وقد صرّحت رئيسته عبير موسي في وقت لاحق أن الهدف السياسي للحزب ليس المقاطعة وإنما الحيلولة دون تنظيم الاستفتاء والتشكيك في شرعيته السياسية والقانونية.

يُراوح الموقف السياسي للحزب الدستوري الحر بين الالتزام بالحياة الديمقراطية والعودة إلى شرعية الصندوق، وبين التشكيك في قدرة الرئيس على تصفية ما تطلق عليه رئيسة الحزب “الأخطبوط الأخواني”. يعترض الحزب عمومًا على إضرار الرئيس بقواعد اللعبة الديمقراطية القديمة وإغلاق منافذ المنافسة السياسيّة عبر الهيمنة الأحادية على القرار السياسي، لأن هذه السيّاسات ستضعف موقعه داخل المشهد السياسيّ. ويأتي الشعور بالقوة من النتائج الأوليّة لاستطلاعات الرأي التي تعطي الحزب الدستوري الحرّ المرتبة الأولى في الانتخابات التشريعية، لذلك دائما ما تُطالب رئيسة الحزب عبير موسي بتنظيم انتخاباتٍ تشريعيّة مبكرة. ويعتبر الحزب أنّ مضمون الدستور الجديد الذي يُمهّد لتغيير النظاميْن السياسي والانتخابي سيكون مدخلًا لإثنائه عن الوصول إلى الحكم والسماح للرئيس قيس سعيد بالاستمرار على رأس السلطة. ومن هذا المنطلق، انخرط الدستوريّ الحرّ طيلة المدة الفارطة في معركة الطعن القانونيّ والسياسيّ في الدستور الجديد والتشكيك في المسار الانتخابي برمّته.

وبعيْد الإعلان عن نتائج الاستفتاء التي جاءت لصالح مشروع الدستور الجديد، دعتْ رئيسة الحزب الدستوري الحر خلال مؤتمر صحفي في 28 جويلية، إلى تأسيس جبهة سياسية واسعة معارضة للرئيس قيس سعيد، وتضمّ في صفوفها من أطلقت عليهم وصف “القوى التقدمية”. وأشارت إلى أن الهدف السياسيّ المُباشر من هذه الجبهة خوض الانتخابات التشريعية بقائمات مُوحّدة وتشكيل قوّة برلمانيّة قادرة على تغيير دستور 22 جويلية 2022. وتُعتبر هذه الدعوة تطورًا في المواقف السياسيّة للحزب الدستوريّ الحرّ الذي ظلّ إلى وقت قريب ينأى بنفسه عن التحالفات والجبهات ويراهن على تعزيز قوّته الانتخابيّة. ولكن هيمنة الرئيس على العملية السياسية وسعيه الدائم إلى إضعاف كلّ خصومه ومعارضيه جعلتْ الدستوريّ الحرّ يفكّر من زاوية تكتيكية في التقليص من نفوذ الرئيس في اتّجاه إسقاط مشروعه.

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني