المغالطات الدستورية في بيان رئيس حكومة تصريف الأعمال


2021-03-27    |   

المغالطات الدستورية في بيان رئيس حكومة تصريف الأعمال
رئيس حكومة تصريف الأعمال حسّان دياب

أصدر رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب بيانا في 24 آذار 2021 ضمّنه جملة من المواقف السياسية التي اتّخذت لبوسا دستوريا معتبرا “أن الجدل القائم حول صلاحيات حكومة تصريف الأعمال يؤكّد الحاجة إلى تفسير دستوريّ يحدد سقف تصريف الأعمال ودور الحكومة المستقيلة في ظل الواقع القائم الناتج عن تأخر تشكيل حكومة جديدة. وإن هذا التفسير هو في عهدة المجلس النيابي الكريم الذي يمتلك حصرا هذا الحق، كما أكد المجلس نفسه سابقا”. ينطوي هذا البيان ليس فقط على جملة من الأخطاء الدستورية الفادحة، بل هو أيضا يعتبر هذه الأخطاء التي ينطلق منها مسلمات بديهية ويقدمها على اعتبارها حقائق لا نزاع فيها. لذلك كان لا بد من تفنيد مزاعم بيان رئيس حكومة تصريف الأعمال من أجل دحضها وفقا للتسلسل المنطقي التالي:

  • يعتبر بيان رئيس الحكومة أن تفسير الدستور هو صلاحية تعود للمجلس النيابي الذي يحق له تبعا لذلك تحديد نطاق تصريف الأعمال والسماح للحكومة المستقيلة بالاجتماع من أجل اتخاذ التدابير التي تظل تحت السقف الذي يحدده المجلس النيابي لتصريف الأعمال. إنّ هذا الادّعاء لا يستقيم إطلاقا: فمجلس النواب بوصفه إحدى السلطات التي أوجدها الدستور لا يحق له تفسيره. فأن يُمنح سلطة تفسيره يعني تخويلها التحكم بجميع السلطات ضمنا السلطة التنفيذية، الأمر الذي يخلّ بالمبدأ المنصوص عليه في الفقرة ” هـ ” من مقدمة الدستور التي تعلن صراحة أن “النظام قائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتوازنها وتعاونها”. فالتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية يمنع منح أي من السلطتين القدرة على فرض تفسيرها للدستور على السلطة الأخرى.
  • بالعودة إلى “هانس كلسن” الذي تشكل كتاباته حول نظرية القانون المرجع الفكري حول بنية النظام القانوني برمّته وعلاقة النصوص القانونية فيما بينها، يتبين لنا أنه يميز بين التفسير العلمي (interprétation scientifique) والتفسير الأصلي (interprétation authentique). فالتفسير العلمي أو الفقهي هو التفسير الذي يصدر عن فرد أو جهة معينة لكنه بغض النظر عن قيمته العلمية غير ملزم. أما التفسير الأصلي فهو التفسير الذي يصدر عن جهة خولها القانون تفسير النص. فالمحاكم مثلا في معرض تطبيقها للقوانين تقوم بتفسيرها وهي تستطيع فرض هذا التفسير بصرف النظر عن مضمونه. فالتفسير الأصلي لا يكترث بالمضمون بل هو فقط ينظر الى الجهة التي تبنته وهل هي مخولة قانونا لفعل ذلك. فالنص الذي جرى تفسيره بشكل أصلي لا يمكن له أن يحتمل أيّ تفسير مغاير للتفسير الذي صدر عن الجهة المخولة قانونا بذلك حتى لو جاء هذا التفسير غريبا جدا أو كان مخالفا لرأي غالبية فقهاء القانون. فالتفسير الأصلي ينتج مفاعيل قانونية بينما التفسير العلمي لا مفاعيل قانونية له. وبما أن الدستور لم يمنح صراحة مجلس النواب صلاحية تفسير الدستور وفقا لآلية واضحة تجعل من تفسيره تفسيرا أصليا ملزما للجميع، فأي تفسير يقوم به اليوم مجلس النواب بوصفه السلطة التشريعية هو في حقيقة الأمر مجرد تفسير علمي قد تكون له أبعاد سياسية بالغة الأهمية، لكنه غير ملزم من الناحية الدستورية ليس فقط للحكومة، بل أيضا للمحاكم على اختلافها.
  • إن المبدأ الذي يحكم تفسير النصوص القانونية يتم التعبير عنه بالتالي: ” Eius est interpretari legum cuius est condere ” أي أن السلطة التي تصدر القانون هي المخولة بتفسيره. فمن الطبيعي والمنطقي أن يتولى مجلس النواب تفسير القوانين التي يصدرها، وكي يصبح تفسيره ملزما عليه أن يقوم بالتفسير عبر التصويت على قانون جديد يشرح القانون المبهم. وبما أن كل تفسير هو شكل من أشكل التعديل المبطن، كان لا بد أن يصدر التفسير بالطريقة ذاتها التي يصدر بها التعديل. لذلك يعتبر تفسير الدستور نوعا من التعديل وذلك في حال أردنا أن يصبح هذا التفسير ملزما للجميع. وبالتالي، فإن الجهة التي يحقّ لها تفسير الدستور ليست إلا الجهة المخولة تعديله وهي في لبنان وفقا للقسم “ب” من الباب الثالث منه مجلس النواب، لكن ليس كسلطة تشريعية بل بوصفه السلطة التأسيسية المتفرعة التي يحق لها تعديل الدستور وفقا لشروط تختلف لجهة النصاب والتصويت وااقتراح التعديل عن الشروط المفروضة من أجل اقرار وتعديل القوانين العادية. فلو كان من الممكن أن يقوم مجلس النواب وفقا لصلاحياته التشريعية العادية بتفسير الدستور لكان ذلك يعني أنه يستطيع تفسيره بغالبية عادية ونصاب عادي دون احترام الشروط المشددة التي يفرضها الدستور من أجل تعديله، ما يخل بمبدأ سمو الدستور الذي يعتبر حجز الزاوية في كل النظام القانوني القائم في لبنان.
  • لقد منح الدستور في المادة 19 منه صلاحية مراقبة دستورية القوانين للمجلس الدستوري ما يعني أنه منحه حكما صلاحية تفسير الدستور في معرض رقابته حتى لو تم شطب هذه العبارة سنة 1990. وهذا يعني أن المجلس الدستوري هو الجهة المخولة لتقديم التفسير الأصلي للدستور علما أن هذا التفسير ليس صلاحية اعتباطية كون المجلس الدستوري ملزما أولا بتعليل قراراته، والأهم أن تلك الرقابة لا يمكن ممارستها إلا على القوانين. بالمقابل، فإن الاعمال الأخرى التي تصدر عن السلطات الدستورية لا تخضع لرقابته ولا لتفسيره. وهنا أيضا تتجلى بوضوح نظرية التفسير الأصلي: فلو فرضنا أن مجلس النواب قرر تفسير الدستور ليس عبر مجرد نقاش عام في مجلس النواب، بل من خلال اقرار قانون يفرض تفسيرا معينا للدستور، فإن هذا القانون يمكن الطعن به أمام المجلس الدستوري الذي سيتولى حينها “تفسير التفسير” أي مراقبة مدى مخالفة القانون للدستور.
  • مغاطة أخرى يقع فيها بيان رئيس حكومة تصريف الأعمال، قوامه أنه يعتبر أن نطاق تصريف الأعمال يتم تحديده من قبل مجلس النواب وهو أمر غير صحيح. فالتسليم بهذه المغالطة إنما يعني منح السلطة التشريعية القدرة على تحديد فحوى صلاحيات السلطة التنفيذية ما يخل بمبدأ الفصل بين السلطات. كما أنه يخالف اجتهاد مجلس شورى الدولة الذي اعتبر في أكثر من قرار له أن نطاق تصريف الأعمال يحدده القضاء الإداري الذي يراقب الأعمال التي تتخذها الحكومة والوزراء ويتحقق ما إذا كانت أعمالا عادية يجوز اتخاذها أو أعمالا تصرفية تخرج عن نطاق تصريف الأعمال. فالمرجع لتحديد نطاق تصريف الأعمال هو مجلس شورى الدولة وليس مجلس النواب.
  • وأخيرا اعتبر مجلس شورى الدولة أن الحكومة المستقيلة يمكن لها في في الظروف الاستثنائية اتخاذ قرارات تدخل ضمن نطاق الأعمال التصرفية. فالأوضاع الاستثنائية التي تتعلق بالنظام العام وأمن الدولة الداخلي والخارجي تسمح للحكومة المستقيلة باتخاذ تدابير ضرورية تخرج عن تصريف الأعمال. ” وفي هذه الحالات تخضع تدابير الوزارة المستقيلة وتقدير ظروف اتخاذها إلى رقابة القضاء الاداري بسبب فقدان الرقابة البرلمانية وانتفاء المسؤولية الوزارية” (قرار رقم 334/614، راشد/الدولة تاريخ 17/12/1967). أي أن الظرف الاستثنائي يسمح للحكومة المستقيلة باستعادة هذا الجزء من صلاحياتها الضروري لتداركه. وقد عرف لبنان سوابق من هذا القبيل عندما أقرت حكومة الرئيس كرامي المستقيلة مشروع الموازنة في سنة 1969 كذلك في سنة 1979 عندما اجتمعت حكومة الرئيس سليم الحص المستقيلة لإقرار مجموعة من مشاريع القوانين المستعجلة، وأخيرا سنة 2013 عندما أقرت حكومة الرئيس ميقاتي المستقيلة تشكيل الهيئة العامة للإشراف على الانتخابات. ويعود لمجلس شورى الدولة أيضا تقدير ما إذ كان الظرف الاستثنائي يفرض حقا اتخاذ هذا التدبير رغم قيام الحكومة بتصريف الأعمال أي أن المرجع هو مجددا القضاء الاداري وليس مجلس النواب.
  • ناقض بيان رئيس الحكومة تصرّفات هذا الأخير إذ أنه كان وافق على إصدار مراسيم عديدة تخرج عن نطاق تصريف الأعمال من بينها تمديد حالة الطوارئ دون اجتماع مجلس الوزراء عبر آلية الموافقات الاستثنائية الصادرة عن رئيسي الجمهورية والحكومة. فكل هذه القرارت الصادرة بموافقات استثنائية لم يعتبرها سابقا رئيس الحكومة تحتاج إلى موافقة مجلس النواب. فلماذا يتم التذرع اليوم بضرورة الحصول على هذه الموافقة بينما كان له، وبغض النظر عن دستورية هذا الأمر، الاستمرار بمنح الموافقة الاستثنائية لإصدار المراسيم التي تحتاج إلى اجتماع مجلس الوزراء؟

وهكذا يتبين لنا أن بيان الرئيس حسان دياب لا يستقيم اطلاقا من الناحية الدستورية بل هو يؤدي إلى خرق مبدأ الفصل بين السلطات، ويضعف أيضا من رقابة السلطة القضائية التي تغيب كليا عن منطق البيان، ويمنح البرلمان صلاحيات لا تعود له ما يؤدي إلى نتائج خطيرة بحيث يصبح الدستور خاضعا لمنطق التسويات وفقا للتوازن السياسي المتقلب القائم بين أحزاب السلطة.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، سلطات إدارية ، تشريعات وقوانين ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني