المصوّر المبتسم ربيع معماري: رجل العائلة والمهنة الذي قتلته إسرائيل


2023-11-29    |   

المصوّر المبتسم ربيع معماري: رجل العائلة والمهنة الذي قتلته إسرائيل
الصورة الأخيرة التي التقطها ربيع معماري لنفسه في طيرحرفا جنوب لبنان

بعد مضيّ أسبوع على استشهاد زوجها، المصوّر الصحافي ربيع معماري، تجلس منال جعفر في منزلها مهدودة الحيل، تتقبّل التعازي أمام أعيُنِ ولديها. تضبط نفسها، ودموعها وأنفاسها أمامهما وتستبدلهما ببسمة تُفرحهما، هي التي لا زالت غير قادرة أن تصدّق فكرة رحيل ربيعِ حياتها. قبالتها تجلس والدته سناء الصعيدي، تبكي تارةً وتحدّث المعزّين عن ابنها “الآدمي والحنون” تارة أخرى. وبكلام مجبول بالوجع والدموع تحتضن صورة ابنها قبل أن تضعها أمامها ملقية نظرة عليها بين الحين والآخر.

أسبوعٌ كاملٌ من الآلام قد مرّ على استشهاد الزّميلين في قناة الميادين، المصوّر ربيع معماري والمراسلة فرح عمر، إضافة إلى المدني حسين عقيل الذي كان برفقتهما، إثر غارة إسرائيلية استهدفتهم في بلدة طيرحرفا جنوب لبنان.

وهذا الاستهداف الذي يعتبر جريمة حرب كون هدفه فريق إعلامي يضع إشارة صحافة واضحة ويغطّي العمليات الإسرائيلية في الجنوب، ليس الأوّل من نوعه تجاه الصحافيين الّذين يواجهون الرواية الإسرائيلية بالكلمة والصورة. فقد سبق أن استهدفت إسرائيل مجموعة من الصحافيين في 13 تشرين الأول الماضي بقصف مباشر في علما الشعب التي تقع على الحدود الجنوبية الفلسطينية، ما أدّى إلى استشهاد مصوّر وكالة “رويترز” الزميل عصام عبدالله وإصابة 6 آخرين لا زالوا يتلقّون العلاج ويعيشون بكنف الصّدمة: صدمة الخسارة وصدمة العودة من الموت إلى الحياة. وبعد ذلك وتحديدًا في 13 تشرين الثاني الجاري، استهدفت إسرائيل مجموعة صحافيين في بلدة يارون، حيث سقطت قذائف صاروخية بالقرب من سيارتي تلفزيونيّ “الجزيرة” و”الجديد”، وسُجّلت إصابة واحدة طفيفة برجل مُصوّر الجزيرة عصام موّاسي. 

ولكن المفارقة في استهداف طاقم “الميادين”، أنّه لم يبقَ أحدٌ منهم على قيد الحياة. ربيع وفرح خرجا من مبنى “الميادين” بمهمّة صحافية، وعادا إليه بطلَين محمولين في نعشين غطّاهما علم لبنان، وشُيّعا بداية بين الزّملاء والأصدقاء وأفراد عائلتيهما على وقع الزغاريد والتصفيق والبكاء ونثر الورود، قبل أن يواريا الثرى، فرح في مشغرة وربيع في روضة الشهيدين في بيروت. كانا والشاب حسين هم الحدث، والفخر، وكسرة القلب. كلّ وجوه المشيّعين كان يعلوها الغضب، إلّا وجه ربيع الضاحك في الصّور. هو الذي سبقَ زملاءه في الميدان بعدما ارتقى شهيدًا، وترك زوجته منال ووالدته سناء مع غصّة كبيرة وسؤال يتيم “لماذا أبكرت الرحيل يا بطل؟”.

ومن لا يعرف ربيع، فقد غاب عنه الكثير. ربيع مثال عن الانتماء للعائلة والمهنة. ربيع الضحكة التي لا تفارق، هو الابن والأخ الّذي جلّ ما أراده أن يكافئ والدته الّتي ربّته بظروف صعبة لم تمكّنه من متابعة تعليمه، هو الصّديق الأخ الذي لا تغيّره الظروف، والزّوج الشريك المحبّ، والأب الحنون الحاضر دائمًا، فكيف له الآن أن يغيب؟ هو من بدأ مسيرته المهنية من اللاشيء، فأنهكته الحياة وغدرته إسرائيل.

منال تعلم بدورها أنّ زوجها بطل، تعرب عن فخرها به، ولكنّ تعابير وجهها التي يعلوها الحزن تفضحها، وهذا ما بدا واضحًا أثناء تشييعه. احتضنت صورة ربيع بين ذراعيها وشدّته إلى صدرها مودّعة إياه للمرة الأخيرة، بينما حملت والدته قميصه ولوّحت به عاليًا بين الجموع، وأخذت كمشة من تراب قبره وكأنّما تتيمّم بها وتشمّ رائحته.

منال زوجة ربيع محتضنة صورته خلال التشييع (بعدسة محمد ياسين)
ووالدته سناء ملوّحة بقميصه (بعدسة محمد ياسين)

“أنا ربيع معماري”

ربيع ابن طرابلس البالغ من العمر 44 عامًا، احتضنت تعبه وطموحاته بيروت، رغم قساوتها. هو ابن أمّه وسرّ جدّته الحنون، ولم يزده انفصال والديه وهو في سنّ صغيرة إلّا إصرارًا على التقدّم في شتّى الظروف. تحمّل مسؤولية مع عائلته واضطرّ للعمل في سنّ مبكرة ليساعد والدته وأخاه. كانت حياته حافلة بالصّعاب، ولم تكن يومًا سهلة. ناضلَ، تحمّل، وتعب حتى صنع لهُ اسمًا وأحبَّ التواجد في الميدان، في الصّفوف الأمامية.

عمل في بداياته كمصوّر في أحد استديوهات بيروت، وتدرّج هناك إلى أن انضمّ إلى شبكة الميادين مع انطلاقتها في 1 تموز 2012 ليبدأ مسيرته المهنية الفعلية كمصّور صحافي. جنديّ خفيّ بارعٌ في عمله، عُرِف بشجاعته ومثابرته، وإصراره على خوض كلّ جديد من شأنه أن يزيد من خبرته ليثبت نفسه بين زملائه. وبمهنية عالية، شارك في تغطيات ميدانية عدّة بكاميرته، أبرزها أحداث كفرشوبا، والاشتباكات القائمة على الحدود اللبنانية الفلسطينية، وثورة 17 تشرين الأول 2019 في لبنان، ومعارك في سوريا والعراق منها معركة تحرير الموصل التي شكّلت نقطة مفصلية في حياته المهنية، فنقل تفاصيل هذه التجربة على المستوى الشخصي إلى زملائه في مكتب بيروت.

تأخّره في بدء مسيرة مهنية محترفة شكّل حافزًا أمامه للتميّز. اندفع نحو العمل، ولبّى النداء في كلّ مكان وزمان. أعطى المهنة من نفسه واعتاد أن يترك كلّ شيء ولو اضطرّه الأمر أن يبتعد عن عائلته ليستحوذ على فرص مهنية قد لا تتكرّر. أراد أن يثبت نفسه وفعلها، “بتنا جميعنا صغارًا أمام شهادته”، يقول زميله، الذي يعمل كمدير مسرح في قناة “الميادين”، محمد بركات لـ “المفكرة القانونية”. ويعلّق زميله المصوّر في القناة نفسها، أحمد دغيم، قائلًا “لقد سبقنا بأشواط، وأصبحت صوره في كلّ مكان لتذكّرنا بأنّه بطل مقدام”، ويستذكره بجملة عن لسانه “كان يقول: رغم كل شي، أنا ربيع معماري، أنا الـ4 (في إشارة إلى كاميرا درون بدون طيار 4k احترافية كان يمتلكها). وينطلق نحو العمل”. يُجمع كلّ من عرف ربيع، وبخاصة زملاؤه الذين أصبحوا أصدقاء مقرّبين له، على الضحكة التي لا تفارقه. هو سببُ البسمة لكلّ من رآه، وهو صبور إلى الحدّ الذي يتعب منه الصّبر.

ربيع الضحكة والصديق السند

عاش ربيع حياةً بسيطة، وكما كان حاضرًا في الميدان، حضر وسيبقى حاضرًا بين أصدقائه. طيّب القلب، كريم النّفس، وخدومٌ مع كلّ من أحبّ، فلم يتوانَ يومًا عن أن يكون سندًا لأصدقائه في السرّاء والضرّاء. تحت وطأة الفقد، يسترجع أحمد دغيم ذكرياته مع ربيع، ويتابع “ربيع كان الضحكة والبسمة لي، تحمّلني كثيرًا وبات بمثابة أخ. هو صديق عائلتي وليس فقط صديقي، تشاركنا الكثير سويًا ولطالما ذهبنا في رحلات صيد سويًا، فهي من الهوايات الأحبّ إلى قلبه. الآن يتزامن اغتياله مع موسم الصيد، ولأوّل مرة لن يكون ربيع حاضرًا بيننا”. ويستطرد: “قبل أيام من اغتياله نزل إلى البحر وحده وكان هذا مشوار الصّيد الأخير له. اصطاد سمكة كبيرة للمرة الأولى، وأرسل لي صورتها متباهيًا، قلت له “السمكة الكبيرة رزق”، فكانت رزقته هي الشهادة”. “هيدا الرفيق وين بدّي لاقي متله؟”، يسأل أحمد بحرقة، مؤكدًا أنّه صحيح أنّ الحياة سوف تستمرّ إلّا أنّ الذكريات والأيام الجميلة ستبقى لتخلّد اسمه.

في غياب ربيع، بقيت اللحظات البسيطة والصادقة التي جمعته مع أصدقائه حيّةً، وإن كان أجملها ما لم يُوثّق بالمقاطع المصوّرة لشدّة حقيقتها. لقد ترك حزنًا كبيرًا يترافق مع ضحكات تعلو وجه محبّيه عندما يستذكرون نهفاته. “ربيع المبتسم والخجول هو مثال الصديق الحقيقيّ، ومن مثله قلّة في هذا الزّمن. كلّ يوم كان في نهفة لربيع”، يقول صديقه محمد، ويضيف “غيابه سوف يترك فراغًا كبيرًا، وبخاصة في حياة طفلَيه، هما كسرة القلب. إنّنا اليوم كأصدقائه بتنا نهرب من فكرة الجلوس سويًا، نهرب من الحقيقة. التقبّل صعب، ولكن لا مفرّ من الحقيقة”.

ربيع وزميلة المصوّر أحمد دغيم

رجل العائلة الحنون

“ربيع رجل عيلة”، جملة تتكرّر على مسمع كلّ من يسأل من هو ربيع؟ تأهّل من زميلته التي تعمل في قسم المقابلات في “الميادين”، منال جعفر، وعاشا سويًا قصّة حبّ كانت ثمرتها ولديهما رامي (4 سنوات)، وماريا (سنتان). كرّس حياته مع زوجته للعائلة، ولم يبخل عليهم بالحُبّ والعطاء يومًا. رامي وماريا هما الحلم الّذي لم يصدّق أنّه سيتحققّ يومًا. ولمّا بدأت الحياة تنفرج أمامه، خطفته غارة إسرائيلية من بين أحبابه وسلبته الحياة.

ندخل غرفة الجلوس في منزل ربيع فتستقبلنا صوره وولداه اللّذان يلعبان بجوار والدتهما وباقي المعزّين. من على مقعدها، تقلّب منال بالصور الموجودة في هاتفها مستعيدة ذكرياتها مع زوجها، تتوقّف عند صورة معدّلة بواسطة أحد البرامج والتي كان قد أرسلها إليها لترى كيف سيصبح شكلهما عندما يتقدّمان بالعمر، تبتسم للحظة وتعلّق بالقول “ها نحن ذا لم نكبر سويًا يا ربيع”، يقاطعها صديقهم محمد بركات معلّقًا “جميعنا كبرنا بالعمر مئة عام في لحظة”. نعود إلى منال وهي لا تزال في عالم آخر تزوره من خلال صور ربيع معها ومع ولديهما. تحدّق بالصّور بتمعّن فتخونها دموعها “من سيعلّمهم كلّ هذا الآن؟ من سيملأ مكانه، لا أحد أبدًا باستطاعته أن يحلّ مكان ربيع. خسارة الأب لا تعوّض، فكيف إذا كان هذا الأب هو ربيع؟”. الرجل الذي كرّس حياته للعمل والعائلة كان أكثر من زوج، كان شريكًا. أُغرمت منال بالضّحكة التي حملها إلى حياتها، وباحترامه وحبّه، وبأبوّته التي لا مثيل لها. روتين عطلته الأسبوعية كان مكرّسًا لولديه، حتى أثناء تواجد منال في العمل، حرص دائمًا على أن يخرج معهما، أو حتى أن يخصّص وقتًا للّعب معهما ومشاهدة الأفلام في المنزل، موثّقًا ذلك بصور عفوية يشاركها مع منال عبر الهاتف. وهنا تعلّق منال “ربيع حبيبي وشريكي، في غيابي عن المنزل يكون هو الأم والأب”، وتتابع بغصّة “بكير، كتير بكير يا ربيع! رامي وماريا بعدهن صغار!”.

كلّ القوّة التي تستجمعها منال أمام أعين الناس وأمام طفلَيها، تخور بشكل نهائي عندما تجلس في المنزل بعيدًا عن أعين طفليها، فتسأل “ماذا سأقول لرامي؟ ماريا لا زالت صغيرة، ولكن رامي بدأ يسأل عن والده! ماذا أقول له؟ رامي بيكسرني”. تمسح دموعها عن وجهها، تستجمع قواها من أجل زوجها البطل، تاركة الأمر للوقت ومتحلّية بالكثير من الصبر والإرادة، وتعود لتبتسم بوجه صغيرَيها. أمّا والدة ربيع، فتُجالسُ صورته ليل نهار في منزلها الذي يعجّ بالمعزّين، وتبرّدُ قلبها بضمّ حفيدها رامي إلى صدرها عندما يزورها “رامي يشبه والده، رؤيته تسمح لقلبي بأن يستريح قليلًا وتطفئ ناره”، تقول، وتتابع “هو سندي، وقلبي، وروحي، استأجر هذا المنزل ليكون لي بمفردي، أراد أن يفرحني. قلت له مرات عدة هذا بيتك يا ربيع، وأنا لا أريد من هذه الحياة شيئًا إلّا أن أراك بخير مع زوجتك وطفلَيك، وكان ردّه الدائم: ما تعتلي همّي”. 

عبق الرّبيع في اللقاء الأخير

اللحظات والكلمات الأخيرة تكتسبُ معنى كبيرًا بعد الفراق الفجائي، حتى دلالاتها تتبدّل، وتُحفظ في ذاكرة الروح والجسد بشكل كامل، لا تتركُ أصحابها. يوم توجّهه إلى الجنوب للتغطية بدا ربيع وكأنّه في عالم آخر، حزم أمتعته، أوصل الطفلين إلى المدرسة وودّع زوجته يوم الاثنين صباحًا وبدا على عجلة من أمره، بحسب منال، التي لا تزال تشعر بعبق رائحته عندما قبّلته قبل الوداع. “عندما شارك في التغطية للمرة الأولى في الجنوب لم أتحمّل الأمر، ولكنّني هذه المرة قرّرت أن ألتزم الصّمت وألّا أقف في وجهه، فهذه إرادته”، تقول. وصل ربيع إلى عمله، استلم الدّرع والخوذة من صديقه أحمد قبل الانطلاق إلى الجنوب، وقد طلب منه الأخير أن ينتبه إلى نفسه فالوضع هناك يزداد سوءًا يومًا بعد يوم، واطمأنّ عليه بعد وصوله إلى الجنوب.

صباح يوم الثلاثاء، اطمأنّ ربيع على زوجته، وأكّد عليها أن تُلبس ابنهما رامي بدلة الجيش ليحتفل في المدرسة مع أصدقائه بعيد الاستقلال اللبناني، وهذا ما فعلته، وكانت الرسالة الأخيرة منها موجّهة إلى فرح عبر “واتساب”، حيث قالت لها “انتبهيلي عليه”. هذه الرسالة التي لم تتلّقاها فرح ولا ربيع بقيت حسرة من دون أيّ ردّ، وهنا تعلّق منال قائلة “لطالما أراد ربيع أن يترك بصمة بعمله، فكانت هذه هي بصمته”.

وبدوره شارك صديق ربيع، محمد بركات، تفاصيل حديثهما الأخير، حيث أرسل له ربيع قبل دقائق من الغارة صورة “سيلفي” ظهر فيها مبتسمًا كعادته وبدت خلفه السماء صافية والطقس جميل جدًا، كما طلب منه أن يتأكّد من جمالية الصورة قبل أن تظهر فرح على الهواء في النقل المباشر، فأعرب محمد بدوره عن إعجابه بالصورة التي كانت مثالية خالية من الشوائب، وأضاف “كنت آخر من تحدّث إليه، وكانت تلك من المرات القليلة التي أعرب فيها عن إعجابي باللّقطة من دون أن أنتقده ممازحًا. ينقبض قلبي ويعتريني الحزن الشديد لأنّني لم أودّعه كما يجب، فأنا لم أتمكّن من رؤيته منذ بداية الحرب”. 

ربيع محمولًا على الأكفّ (بعدسة محمد ياسين)
ربيع مبتسمًا للكاميرا..
انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، لبنان ، مقالات ، إعلام



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني