“
نص الدستور المصري الصادر عام 2014 في مواده الانتقالية على البدء في تطبيق نظام جديد للإدارة المحلية بشكل تدريجي خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذه[1]. يعتمد النظام المنصوص عليه بشكل أساسي على اللامركزية الإدارية والمالية لوحدات الإدارة المحلية، مع منحها قدر كبير من الاستقلالية وسلطة اتخاذ القرارات. وهو يضع تبعا لذلك التزامًا صريحًا على عاتق كلا من السلطة التنفيذية والتشريعية بضرورة إجراء انتخابات المجالس المحلية أو ما يعرف “بالمحليات” قبل بداية عام 2019، بالإضافة إلى تهيئة الجهاز الإداري بالدولة وتأهيل العاملين به على كيفية التعامل مع تلك المجالس وفقًا للاختصاصات الجديدة الممنوحة لها بموجب الدستور. ومقابل هذا الاستحقاق الدستوري، نجد أنه لم يتم حتى الآن إصدار القانون المنظم لتلك الانتخابات، أو تهيئة الرأي العام لإجرائها من الأساس.
فنادرًا ما يتم ذكر (المحليات) في الخطاب الرسمي للدولة في السنوات الأخيرة أو حتى في وسائل الإعلام المختلفة. الأمر الذي يأتي بالتزامن مع ازدياد التضييق على ممارسة أي عمل سياسي في مصر. وذلك بداية من ملاحقة عمل الأحزاب السياسية الشرعية[2] مرورًا بوأد كافة التنظيمات النقابية المستقلة من قبل تأسيسها[3] ومحاربة التنظيمات القائمة بالفعل[4]، نهاية إلى محاولة القضاء على ما تبقى من المجتمع المدني المصري بعد إصدار قانون الجمعيات الأهلية الذي يحدّ من عمل تلك المنظمات [5]. لذا نحاول أن نستعرض في هذا المقال أهمية المجالس المحلية في إثراء الحياة السياسية بشكل عام، ودورها كآلية لصنع القرار في سبيل تطبيق اللامركزية.
هيكل الحكم المحلي في مصر
تعتبر مصر من أوائل الدول التي اعتمدت نظام الإدارة المحلية[6]، وذلك عندما أنشأت ما سُمي “بمجالس المديريات” كفروع للإدارة المركزية في جميع أنحاء البلاد بموجب “القانون النظامي المصري” الذي أصدره الخديوي توفيق عام 1883[7].
ثم جاء دستور 1923 الذي اعترف بنظام الإدارة المحلية على نحو صريح[8] وأوضح اختصاصات والتزامات تلك المجالس. ومن بعده، أخذت كافة الدساتير المتعاقبة بنفس النظام حتى دستور 1971 الذي صدر بموجبه القانون رقم 43 لسنة 1979 بشأن نظام الإدارة المحلية الساري حاليًا. وبموجب دستور 2014 الحالي، ينقسم نظام الإدارة المحلية في مصر إلى “وحدات الحكم المحلي” والتي تتمتع بالشخصية الاعتبارية مثل (المحافظات، المدن، المراكز، الأحياء، القرى) والتي لها الاختصاص الأصيل في إنشاء وإدارة جميع المرافق العامة الواقعة في دائرتها ومُباشرة جميع الاختصاصات التي تتولاها الوزارات بمقتضى القوانين واللوائح وفي حدود السياسة العامة للدولة[9]. يضاف إليها “مجالس محلية” أو ما يعرف “بالمحليات” التي تشكل على مستوى كل وحدة من وحدات الحكم المحلي عن طريق الانتخاب المباشر. مما يعني انتخاب “مجلس محلي” لكل محافظة، مدينة، حي…إلخ، تكون وظيفته الأساسية الرقابة على عمل تلك الوحدات المحلية ومتابعة أداء القائمين عليها ومحاسبتهم. ولكن لم يكن الحال هكذا أبدًا، حيث كانت المحليات وعلى مدار عقود متتالية أكبر بؤر الفساد في مصر، وتلقي الرشاوي وإهدار المال العام. فسيطر الحزب الوطني، الحاكم في ذلك الوقت، على مقاعد تلك المجالس، كما سيطر على مقاليد الدولة كلها[10]. ومع اندلاع ثورة يناير 2011، تمّ حلّ كافة المجالس الشعبية المحلية على مستوى الجمهورية. ولكن حتى الآن، أي منذ أكثر من ثماني سنوات تقريبًا، لم يتم انتخاب مجالس محلية جديدة، في الوقت الذي تقدمت فيه الحكومة أكثر من مرة بمشاريع قوانين خاصة بنظام الإدارة المحلية. كان آخرها المشروع المقدم في أبريل 2017 والذي ناقشته لجنة الإدارة المحلية بمجلس النواب[11]. ولكن حتى الآن لم يعلن البرلمان بشكل رسمي عن النسخة النهائية المقرر طرحها على الأعضاء للتصويت. ذلك على الرغم من ضرورة إجراء تلك الانتخابات في 2019 كحد أقصى، كما أشرنا في المقدمة.
ثماني سنوات من دون محليات
طرح تأجيل إجراء انتخابات المجالس المحلية حتى الآن العديد من علامات الاستفهام حول أسبابه ومبرراته. وهو ما ظهر صراحة أثناء المؤتمر الدوري الخامس للشباب الذي انعقد في مايو الماضي؛ حيث سُئل رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسي بشكل مباشر عن ميعاد تلك الانتخابات وأسباب تأجيلها. وهو ما قابله اعتراف لأول مرة بأن الإنتخابات المحلية كان من المقرر لها أن تتم في 2017، ولكن نظرًا لما يواجهه البرلمان من تحديات تتعلق بتهيئة البنية التشريعية لتتماشى مع أحكام الدستور الجديد في مختلف المجالات وما يتطلبه ذلك من إصدار عدد كبير من القوانين لها الأولوية كان من الضروري تأجيل إجراء تلك الانتخابات، على حد قول الرئيس[12]. ثم عاد مرة أخرى أثناء مؤتمر “إسأل الرئيس” الذي أقيم في يوليو الماضي وأعرب عن تمنيه أن يتم الانتهاء من قانون المجالس المحلية خلال الأشهر المتبقية من عام 2018 على أن يتم إجراء الإنتخابات بداية 2019[13]. ولكن بالنظر عن قرب إلى أداء البرلمان خلال العامين الماضيين وتحليل المشكلات والتحديات التي تدخل المشرع من أجل تنظيمها، نجد أنه لم يكن طوال الوقت يشتبك مع مواضيع ذات أهمية قصوى أو أولوية عاجلة. بل على النقيض تمامًا، ناقش البرلمان وأقر عدداً من القوانين التي كان من الممكن عدم إقرارها أو حتى تأجيلها على أقل تقدير[14]. وهو ما يعني أن ثمة أسبابا أخرى لتأجيل تلك الانتخابات، غير التي تحدث عنها الرئيس.
فنلاحظ أن الدولة اتخذت عدداً من الإجراءات التي تعكس سعيا منها إلى إحلال أعضاء مجلس النواب محل أعضاء المحليات، من خلال عقد لقاءات شهرية بالمحافظين وأعضاء ونواب المحافظات، ومناقشة مطالب المحافظة لحين إجراء الانتخابات المحلية[15]. وهو ما يؤكد على فكرة “نائب الخدمات” التي ترسخت في عقلية الناخب المصري بل والنائب البرلماني أيضًا. وهذه الفكرة تتمحور حول جعل النائب مسؤولا عن حل المشكلات المتعلقة بالدائرة التي انتخبته والتوسط مع السلطات التنفيذية. وهو ما يؤثر على الدور الحقيقي للنواب في الرقابة والتشريع. ومن جانبنا نرجح أن أبرز الأسباب التي أدت إلى تأجيل انتخابات المجالس المحلية هي خشية النظام الحالي من نجاح عدد من ممثلي جماعة الإخوان المسلمين في تلك الانتخابات، نظرًا لقدرتهم التنظيمية الهائلة، خاصة في القرى والمحافظات الريفية وصعيد مصر، على الرغم من الملاحقات الأمنية التي يتعرضون إليها. فالانتخابات المحلية تتسم بكثرة أعداد المرشحين والفائزين الذي يصل عددهم إلى الآلاف، مما يصعب معه ضمان موالاة جميع هؤلاء إلى النظام الحالي، في ظل غياب تنظيم حقيقي لحزب حاكم مثل الحزب الوطني في الماضي. وهو الأمر الذي ظهر من خلال تقرير أمني نُشرت مقتطفات منه يتناول خشية الدولة والأجهزة الأمنية من تسلل الإخوان لهذه المجالس مما يتسبب فى تعطيل عملية التنمية، على حد قول التقرير[16].
المحليات كبوابة للامركزية
ظهر لفظ “اللامركزية” كنظام للإدارة لأول مرة في الدستور المصري عام 2007 إبان التعديلات التي طالت عددا من مواد دستور 1971[17]. وذلك بعد أن نصّ على أن “يكفل القانون دعم اللامركزية“. والمقصود بالقانون هنا هو قانون الإدارة المحلية[18]. ولكن، كالمعتاد، لم يتدخّل المشرع لتعديل أي من نصوص القانون تفعيلًا لهذه المادة الدستورية. وهو ما أدى أن تبقى هذه المادة مجرد تعديل لفظي لم ينتج عنه أي نتائج ملموسة على أرض الواقع، حيث لم تتخذ الحكومة وقتها أي خطوات من شأنها دعم أو تفعيل اللامركزية كنظام للإدارة. ثم جاء دستور 2014 ليكون أكثر وضوحًا في تبنيه للامركزية الإدارية، وذلك بعد أن نص على أن “تكفل الدولة دعم اللامركزية الإدارية والمالية والاقتصادية“، بالإضافة إلى ضرورة تحديد برنامج زمني واضح لنقل السلطات والموازنات إلى وحدات الإدارة المحلية[19] التي يجب أن يكون لها موازنات مالية مستقلة[20]. كما وضح الدستور الجديد اختصاصات المجالس الشعبية المحلية التي تتركز حول مراقبة أوجه النشاط المختلفة داخل الوحدات الإدارية، وممارسة أدوات الرقابة على الأجهزة التنفيذية بداية من تقديم الاقتراحات وطلبات الإحاطة والاستجوابات وغيرها، وصولاً إلى سحب الثقة من رؤساء الوحدات المحلية[21].
وبالإمكان القول أن تلك الأحكام جيدة في مجملها إذا لحقها قانون يتبنى اللامركزية بشكل واضح ويصنع من تلك الخطوط العريضة التي رسمها الدستور بداية لنهضة إدارية في مصر. فاللامركزية هي بالأساس عملية إصلاح في بنية نظام الدولة. وبالتالي فإن تطبيقها يجب أن ينبع من رغبة لدى النظام القائم في إجراء تعديل حقيقي في سياسته ونظامه المالي والإداري وليس مجرد نصوص دستورية أو قانونية. وهو ما اتبعته دول عديدة وخاصة الدول الأوروبية التي وجدت في “اللامركزية” الحل الأمثل لرفع كفاءة الأداء الحكومي، وخاصة فيما يتعلق بإدارة المرافق العامة وتقديم الخدمات المباشرة للمواطنين كالتعليم والصحة[22]. فتطبيق اللامركزية بشكل سليم يؤدي إلى نتائج عدة أبرزها إزاحة العبء عن كاهل مؤسسات الدولة المركزية فيما يتعلق بالمرافق والخدمات، وذلك بأن تتولى الوحدة الإدارية سواء كانت المحافظة أو القرية متابعة توفير تلك الخدمات ومراقبة جودتها بدلاً من أن تتدخل الوزارات والهيئات المختلفة لحل كل المشكلات الفنية والإدارية في كل المناطق.
لذا يستوجب التطبيق الحقيقي للامركزية إيجاد نوع من “تقسيم العمل” بين الإدارة المركزية المتمثلة في الوزارات والمصالح الحكومية الرئيسية ووحدات الإدارة المحلية بمختلف درجاتها[23]. بالإضافة إلى أن الوحدات المحلية هي الأقدر على إدارة شؤونها بصورة أكثر كفاءة وفعالية حيث أن رئيس الحي وعمدة القرية هم الأكثر دراية بالمشكلات التي تواجه مجتمعاتهم الصغيرة وبالتالي هم الأكثر كفاءة لحلها. كما يؤدي تطبيق اللامركزية المالية إلى توزيع أفضل للموارد من الناحية الاقتصادية، حيث سيذهب الإنفاق الحكومي لإشباع الحاجات الحقيقية لسكان هذه المناطق[24].
فعلى سبيل المثال، قد تضع الدولة خطة قومية لبناء ألف مدرسة في صعيد مصر، وتعمل على ذلك في حين أن هذه المنطقة تحتاج إلى مستشفى مثلا وليس إلى مدرسة. كما يعزز هذا النموذج مشاركة المواطنين في صنع القرار، بالإضافة إلى رقابتهم المباشرة على القائمين على إدارة شؤون حياتهم اليومية.
خاتمة
تتميز الدولة المصرية بالمركزية الشديدة، فعلى الرغم من الأخذ بنظام المجالس البلدية والمحلية منذ أواخر القرن التاسع عشر إلا أن دوائر صنع القرار طالما كانت نابعة من الإدارة المركزية بكافة صورها. وهو الأمر الذي يجعل الوصول إلى اللامركزية أمراً شديد الصعوبة خاصة في ظل تفشي البيروقراطية والفساد داخل الهيكل الإداري للدولة المصرية. كما يتطلب الأمر تغيير الثقافة العامة لدى جموع المواطنين بأهمية وحدات الإدارة المحلية والمجالس الشعبية المنتخبة. وقبل هذا وذاك، يجدر التساؤل حول مدى توافر الرغبة لدى النظام الحاكم في تطبيقها وهو الأمر المشكوك في صحته. فحتى الآن، نرى أن منصب المحافظ دائمًا ما يكون لشخصيات عسكرية وشرطية (رجال) اعتقادًا من السلطة أن تلك هي الوسيلة الأنسب للسيطرة على مقاليد الأمور.
- نشر هذا المقال في العدد | 12 | أغسطس 2018، من مجلة المفكرة القانونية | تونس |. لقراءة العدد انقر/ي على الرابط ادناه:
العدالة المشوّشة بصراع الإيديولوجيات: ذاكرة فئوية لغد فئوي؟
- للإطلاع على النص مترجما الى اللغة الإنكليزية يمكنك/ي الضغط هنا
[1] نص المادة (242) من الدستور: “يستمر العمل بنظام الإدارة المحلية القائم إلى أن يتم تطبيق النظام المنصوص عليه في الدستور بالتدريج خلال خمس سنوات من تاريخ نفاذه، ودون إخلال بأحكام المادة (180) من هذا الدستور.“
[5] يراجع/ منة عمر – مشروع قانون الجمعيات، نحو القضاء على المجتمع المدني المصري؟ – موقع المفكرة القانونية – 28/11/2016
[6] نظام الإدارة المحلية هو نظام يعتمد بشكل رئيسي على اللامركزية كأسلوب في التنظيم والإدارة يقوم على أساس توزيع السلطات والاختصاصات بين السلطة المركزية وهيئات أخرى مستقلة قانونًا. راجع/ ورقة بعنوان “نظام الإدارة المحلية” – الصادرة عن الملتقى العربي الأول لنظم الإدارة المحلية بالوطن العربي – أغسطس 2003.
[8] نص دستور 1923 في المادتين (132) و(133) على أن يتم تشكيل جميع المجالس [بلديات – مديريات] عن طريق الانتخاب، كما منح الدستور المجالس اختصاصات تتعلق بتنفيذ السياسة العامة محلياً، وألزمها بنشر ميزانيتها وأن تكون جلساتها مفتوحة للمواطنين.
[9] راجع نص المادة (2) من القانون رقم 43 لسنة 1979.
[10] الحزب الحاكم لمصر لمدة حوالي 40 عامًا، والذي أنتهت فترة حكمه مع إندلاع ثورة 25 يناير 2011.
[14] حيث انشغل البرلمان في العامين الماضيين بإقرار القوانين التي تتسم بفرض مزيد من الرقابة والتشديد على مختلف المجالات، مثل الإعلام والصحافة وحرية الإبداع وفرض مزيد من الرقابة على مستخدمي الانترنت والاتصالات. وفي الوقت نفسه أقر عدد من القوانين الغير مهمة بالمرة في الوقت الحالي مثل قانون “معاملة كبار قادة القوات المسلحة“.
[17] نص المادة (161) من دستور 1971 بعد التعديل: “تقسم جمهورية مصر العربية إلى وحدات إدارية تتمتع بالشخصية الاعتبارية، منها المحافظات والمدن والقرى، ويجوز إنشاء وحدات إدارية أخرى تكون لها الشخصية الاعتبارية إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك. ويكفل القانون دعم اللامركزية، وينظم وسائل تمكين الوحدات الإدارية من توفير المرافق والخدمات المحلية, ……”
[18] قانون رقم 43 لسنة 1979.
[19] راجع نص المادة (176) من دستور 2014.
[20] راجع نص المادة (177) من دستور 2014.
[21] راجع نص المادة (180) من دستور 2014.
[24] راجع المرجع رقم (21) – ص6.
“