المحاماة تحت سقف “السائد”: تأديب أم إخضاع؟


2022-12-26    |   

المحاماة تحت سقف “السائد”: تأديب أم إخضاع؟

بتاريخ 19/12/2022، أصدر المجلس التأديبي للمحامين في طرابلس قرارا بحقّ المحامي خالد مرعب على خلفية تعليقه على قرار وزير الداخلية بسام المولوي المتصل بحظر “التّرويج للشذوذ الجنسي” بناء على طلب دار الإفتاء. وقد استند المجلس في تعليل قراره بمنع مرعب من مزاولة مهنة المحاماة لأربعة أشهر على تصريحيْن نشرهما في هذا الخصوص على صفحته الخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي فيسبوك:

التصريح الأول جاء فيه: “عاجلا أم آجلا سيشرّع الزواج المدني وسيأخذ المثليون حقوقهم. يا فاسد ومقبت وقبيح. دريان بالسرقة والفساد وساكت”. وأرفق به صورة لمفتي الجمهورية عبد اللطيف دريان. وإذ أدلى مرعب بأنه لم يقصد بعباراته تلك شخص المفتي، إنما النظام الذكوري ككل، اعتبر المجلس التأديبي إن وضع صورة المفتي تحت هذه العبارات إنما يدلّ بصورة واضحة على ارتباطها وتوجيهها لصاحب الصورة. وقد اعتبر المجلس أن هذا التصريح لا ينتقد أفعالا منسوبة للمفتي إنما ينمّ عن إهانات لشخصه تخرج عن حقّ النقد المباح وموجب اللياقة وتُصنّف ضمن الذم والقدح المُسيئ لكرامة المفتي. ولم يكتفِ المجلس التأديبي بتحديد الضرر من التصريح على هذا الوجه، إنّما شدّد على أنه يمسّ علاوة على ذلك ما يمثّله هذا الأخير كأعلى مرجعية دينية إسلامية أو كما ورد في مكان آخر أعلى رمز ديني إسلامي. ونفهم من تتمّة القرار أن هذه الإضافة لعبت دورا في تكوين قناعة المجلس وفي تحديد العقوبة، طالما أنّ المجلس اعتبر أنها دليل على نيّة مرعب في ازدراء الأديان (وهو جرم آخر) فضلا عن تسبّبه بإثارة النعرات العصبية وفتنة اجتماعية.

أما التصريح الثاني فقد جاء فيه: “الكتب الأسطورية التاريخية التي تؤمنون بها طبّقوا تعاليمها على أنفسكم ولكن لا يحقّ أن تفرضُوها على غيركم ممن لا يؤمنون بها”. ونستشفّ من القرار أنّ المجلس التأديبي توقّف مليّا عند هذا المنشور حيث ورد حرفيا فيه أنّه “لدى سؤال مرعب عن قصده بالكتب السماوية وهل المقصود منهما القرآن والإنجيل أجاب بأنه يقصد كل الكتب الفلسفية والإنجيل والمصحف وذلك في الصفحة الرابعة من المحاكمة، وبالتالي فإن المحامي المحال يمعن في خروجه عن آداب المهنة وأصولها تارة بالتعرض لشخص مفتي الجمهورية وتارة بالتعرض للكتب السماوية بوصفها بالكتب الخرافية والأساطير”. وقد رأى المجلس أن ذلك يؤكد تصميم المحامي على ازدراء الأديان والإساءة لها وللكتب السماوية، وتاليا خروجه عن آداب المهنة.

وإذ أثار مُرعب في دفاعه بأن ملاحقته تخرج عن صلاحية السلطة التأديبية للنقابة طالما أنها تهدف إلى معاقبة معتقداته وآرائه الشخصية، وليس كيفية أدائه لمهنته، ردّ المجلس التأديبي بأنه “لا يسأل المحامي المُحال عن معتقداته الخاصّة بل ينحصر دوره في مدى التزام المحامي بسلوكيّات وآداب المهنة”. بمعنى أنه للمحامي أن يعتقد ما يشاء، إلا أنه يكون المجلس ممارسة سلطته التأديبية في تقييم مدى التزام  المحامي بالآداب المهنية فور التعبير علنا عما قد يعتقد به. فالمحامي ملزم “بأن يتمتع وبصورة دائمة بالسيرة الحسنة والسمعة الطيبة في مجتمعه”، وأن هاتين المواصفتين “لصيقتان بشخص المحامي سواء خلال ممارسته المهنة أو خارجها في الصورة النمطية التي تُعطى للغير”. وكأن المجلس يعلن أنّ سلطته تمتدّ لمحاسبة أيّ قول أو فعل يصدر عن المحامي ولو خارج حدود ممارسة المهنة، إذا كان من شأنه أن ينعكس سلبا على سيرة المحامي وسمعته لدى الناس طالما أن من شأن ذلك أن يؤثر على سمعة المحامين وصورتهم جميعا. فعلى نقيب المحامين “موجب الدفاع عن نقابة المحامين من أيّ خدش لكرامتها يرتكبه محامٍ في أعماله المهنية أو خارجا عنها وفي كل عمل يحطّ من كرامة المهنة ويرتدّ سلبا على كرامة النقابة”.

ومن هذه الزوايا، بدا قرار المجلس التأديبي بمثابة حلقة متماسكة مؤداها استخدام السلطة التأديبية لتأطير المحامين وإخضاعهم في أقوالهم وأفعالهم للمسلمات الاجتماعية، بمعزل عن مدى ارتباطها بمهنة المحاماة أو ما تفترضه من آداب وسلوكيات. وما فاقم من خطورة هذا القرار هو أن المجلس التأديبي لم يجد حرجا في سياق مجاملة دار الإفتاء والقوى السائدة في استسهال الحديث عن المقدس والاتّهام بازدرائِه من دون إيلاء أي انتباه للمخاطر الناجمة عن ذلك في منطقة شكلت فيها اتهامات كهذه مدعاة للقتل. وهو خطر يفاقم من العقوبة القاسية التي قررها من دون أن يكبد نفسه عناء البحث في مدى تناسبها مع خطورة المخالفة، بحجة أن للمجلس التأديبي “حق مطلق” في تقدير العقوبة.

وهذا ما سنعمد إلى تفصيله في هذا المقال.

  • توسّع في تعريف المقدس:

المفتي رمز ديني والحديث عن الأساطير الدينية ازدراء بالدين

أول ما يجدر التوقف عنده هو أن المجلس التأديبي وسع من مفهوميْ “المقدس” و”ازدراء الأديان” مع ما يستتبع ذلك من قيودٍ غير مبرّرة لحريتيْ المعتقد والتعبير.

نستشف هذا الاتجاه أولا من تشديد القرار على أن المسّ بالمفتي ليس مسّا بشخصه وحسب، إنما هو أيضا مسّ بالدين الإسلامي، طالما أنه أعلى مرجعية دينية إسلامية وأنه رمز ديني كما ورد تباعا في متنه. وبذلك، يصبح أي تعرّض للمفتي بمثابة تعرّض للطائفة التي يرمز إليها مع ما يستتبع ذلك من إثارة وفتنة اجتماعية. وإذ تماشى موقف المجلس التأديبي مع محاولات سابقة لتعديل قانون العقوبات في اتجاه توسيع مفهوم تحقير الشعائر الدينية لتشمل المسّ بالقيادات الدينية ورموزها (ومنها التعديل الذي أدخلته اللجنة الفرعية للجنة الإدارة والعدل في 2002) وهي محاولات لم تنجح، فإنه بدا أيضا في حالة تماهٍ مع المواقف المتشنّجة الصادرة عن مرجعيات دينية وسياسية اعتبرت بدورها أي تعرض لشخص المفتي تعرضا للطائفة السنية برمتها. ومن النافل القول أن الخلط بين “رجال الدين” و”الدين” إنما يؤدي إلى تقديس أشخاص انتخبتهم أو عيّنتهم مراجع دنيوية على نحو يمهد لتقييد حرية التعبير من دون مبرر.

وما فاقم من ذلك هو توقّف المجلس التأديبي في تحقيقاته كما في حكمه مطوّلا أمام المنشور الثاني المنسوب لمرعب بتوصيف الكتب الدينية بالكتب الأسطورية، معتبرا إياها دليلا على إصرار المحامي على ازدراء الدين. وينمّ هذا الموقف عن تزمّت كبير وجهل بتاريخ الأديان. فمنذ الأزل، ما هو دين بالنسبة إلى من يعتنقه هو أسطورة بالنسبة لمن لا يعتنقه. وهكذا، آلهة الفراعنة والسومريين والبابليين والفينيقيين والإغريق والتي أقيمت لها المعابد بتضحيات الناس المؤمنين بها كلها باتت اليوم تعدّ آلهة أسطورية. الأمر نفسه قد يصحّ بما يتصل بقصص آلهة ما تزال محلّ عبادات واسعة كما هي آلهة الهندوس. وهكذا، أن يقال أن المسيح هو ابن الله هو مجرّد أسطورة بالنسبة إلى المسلمين. وأن يقال أن محمدا هو نبي الله أنزل الوحي عليه، هي أسطورة أخرى لمن ليس مسلما. وأن يقال أن الخلق حصل وفق سفر التكوين، إنما يشكل أسطورة وفق نظريات علمية لا مجال للتوسع فيها هنا. ومن هذه الزاوية، فإن مجرد إعلان الدستور بأن حرية المعتقد مطلقة (مادة 9) إنما يعني الاعتراف حكما بحريّة كلّ شخص بتوصيف الدّيانات التي لا يؤمن بها على أنها أساطير. هو اعتراف يجسّد في عمقه مبدأ أن لا إكراه في الدين الوارد في القرآن الكريم. أما أن يصرّ المجلس التأديبي على خلاف ذلك، فإنه بذلك ينتهك الحرية الدستورية ويخرج تماما عن آداب مهنة المحاماة التي توجب على المحامين أن يكونوا أول المدافعين عن الحريات العامة لا أن ينتهكوها. هذا فضلا عن أن المجلس يزايد من خلال ذلك على القرآن الكريم من خلال إصراره على أنه خلافا لما جاء فيه، لا بأس من الإكراه في الدين. 

  • المحامي تحت سقف المقبول اجتماعيا 

أسوأ من ذلك، هو السبب الذي برر فيه المجلس التأديبي وضع يده على القضية، ومفاده أن ازدراء الدين والتعرّض لمقاماته والذي أقدم عليه مرعب لا يفقده “السيرة الحسنة والسمعة الطيبة في مجتمعه” وحسب، إنما يؤذي أيضا سمعة النقابة والصورة النمطية التي تُعطى للغير عن المحامي. بمعنى أن النقابة تستمد هنا صلاحيتها التأديبية ليس فقط من واجبها بفرض سلوك معيّن على المحامين حفاظا على “سمعتهم الطيبة”، ولكن أيضا من واجبها في الحفاظ على سمعة النقابة والصورة النمطية للمحامي في المجتمع. فكأنما النقابة تشرّع لنفسها بحجة حماية سمعتها والصورة النمطية للمحامين التحكم بمعتقدات هؤلاء وآرائهم وربما نمط عيشهم وضمنا تقييد حريات مكرسة دستورا يفترض أن تشكل النقابة ضمانة لها لا أن تفتك بها.

ومؤدّى ذلك فرض تصوُّر للمحامي النّموذجي ومواصفاته قوامه أنه المحامي الملتزم بما هو سائد اجتماعيا والخاضع له حفاظا على “سيرته الحسنة” وسمعته “الطيبة”. وهو تصوّر يقصي أي تصورات أو نماذج أخرى، ومنها نموذج المحامي المناصر لقيم مخالفة للقيم السائدة أو للحقوق والحريات المنتهكة باسم التقاليد الموروثة أو بشكل أعمّ المحامي المناصر للفئات المغبونة اجتماعيا وربما قانونا، وهي نماذج تدخل كلها في صميم مهنة المحاماة وتعكس جوانبها التي قد تكون الأكثر نبلا. فجيد أن يدافع المحامي عن حقّ مسلم به اجتماعيا وضمن المسلمات الاجتماعية، لكن ماذا عن مهامّ المحامين التي ترمي للدفاع عن حقوق ترفضها القوى المهيمنة أو السائدة أو يعدّ مجرد الدفاع عنها بمثابة مذمّة للمحامي الذي يتجرأ على ذلك؟ وألا يتميز المحامون الذين يقومون بذلك بشجاعة ينتظر من النقابة التي انوجدت لضمان حق الدفاع للجميع تقديرهم من أجلها بدل تأديبهم بسببها؟ وألا يشكل من هذه الزاوية مجرد الحديث عن إرادة فرض صورة نمطية للمحامي إلغاء لتعدّدية هذه المهنة ونماذجها وتوجهاتها وهي ضمانة أساسية لتعددية المجتمع وديمقراطيته؟

ومن هنا، يجد السؤال المطروح في عنوان هذا المقال كل معناه: تأديب أم إخضاع؟ فهل تصرف المجلس التأديبي كسلطة تعمل على تأديب محام على خلفية إخلاله بآداب مهنية أم أنه عمد إلى استغلال السلطة المناطة به لفرض نموذج موحّد للمحامي الذي تريده النقابة وهو المحامي الذي يجترّ كل المسلمات الاجتماعية من دون الخروج عن أي منها، حفاظا على سمعته وسمعة زملائه؟    

  • عقوبة لا تتناسب مع خطورة الفعل

وما يزيد من خطورة هذا القرار هو أنّ المجلس التأديبي شدّد صراحة على أن له “حق مطلق” بتحديد العقوبة بحق مرعب لينتهي إلى منعه من مزاولة المهنة لأربعة أشهر. كما اعتبر أن له حق بفرض نفاذها فور إبلاغ القرار إياه من دون انتظار مرور مهلة الطعن به أمام القضاء المختص (محكمة الاستئناف في الشمال) بل من دون أن يكون للطعن مفعول معلّق لنفاذه، وفق ما يفرضه قانون أصول المحاكمات المدنية. وبذلك، بدا المجلس التأديبي هنا أيضا في خلاف مع المبادئ القانونية التي كان يجدر أن يعمل على هديها. نكتفي هنا بالتذكير بالحكم الصادر بتاريخ 25/6/2012 عن محكمة استئناف بيروت التي خفضت العقوبة الصادرة عن مجلس تأديبي في نقابة بيروت بحق المحامي محمد المغربي من الحرمان من مزاولة المهنة (محمد المغربي) إلى مجرد تنبيه، بعدما اعتبرت أن العقوبة التأديبية الصادرة بحقه لا تتناسب مع خطورة الفعل المنسوب إليه. كما شددت المحكمة نفسها على أن المجلس التأديبي خالف قانون أصول المحاكمات المدنية حين اعتبر حكمه معجل التنفيذ في حين أن القانون وحده يحدد القرارات التي تنفذ فور صدورها ولا يعلق الاستئناف مفعولها.  

هذا فضلا عن أن المجلس التأديبي لم يجدْ حرجا في سياق مجاملة دار الإفتاء والقوى السائدة من تضمين قراره حيثيات من شأنها تعريض المحامي لخطر داهم، وهو خطر يفاقم من العقوبة القاسية التي قررها. ففي حين كان بإمكانه أن يتوقف عند الإساءة الشخصية للمفتي وأن يصدر قراره على هذا الأساس. إلا أنه آثر أن ينقل المسألة من مسألة التعرض لهذا الأخير إلى مسألة ازدراء للدين، وذلك من باب إضفاء مشروعية أكبر على العقوبة القاسية التي أراد فرضها. وهو بذلك ارتكب زلّة أخرى قوامها تعريض أحد أعضاء النقابة لخطر حقيقي على خلفية تعرضه للدين بشهادة نقابته بالذات. 

لقراءة المقال باللّغة الانكليزيّة، إضغط/ي هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد القضائي ، حرية التعبير ، لبنان ، مقالات ، المهن القانونية ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني