محمد مغربي المحامي المشاكس، الذي كسر الصمت حول ملفات كثيرة، سواء في القضاء أو في المحاماة، نجح في 2012 بعد معركة مضنية دامت قرابة عشر سنوات ليس فقط بالغاء العقوبات التأديبية القاسية التي وصلت الى حد شطبه من جدول المحامين على خلفية تصريحاته وانتقاداته، انما أيضا باثبات حجم التعسف الذي لحق به. وقد وصل هذا التعسف الى حد حبسه احتياطيا بحجة انتحال صفة محام لاستمراره في تعاطي المحاماة بانتظار حكم الاستئناف. وفق محكمة الاستئناف، لا انتحال لصفة، المغربي كان وما زال محاميا فالطعن في قرار الشطب يوقف تنفيذه خلافا لما جاء في النظام الداخلي للنقابة، وهو نظام مخالف لهذه الجهة للقانون. كما أن قرار شطبه لا يتناسب قط مع الأفعال المنسوبة اليه. قضية المغربي مثلت في ذهنية المحامين في العقد الأخير نموذجا للمصير الذي قد يلقاه محام يسعى الى انتقاد نقابته بشيء من الحدة: وكان من الطبيعي اذ ذاك أن يشكل القراران، بما آلا اليه، دعوة لنقابة المحامين بمراجعة نظامها الداخلي وأصول التأديب المعتمدة لديها بما يتناسب مع مبادئ القانون والحرية، كما كان من الطبيعي أن يفتحا آفاقا جديدة أمام المحامين في تفاعلهم مع نقابتهم. الا أنه بعد عام من صدور هذا الحكم، بقيت النقابة على صمتها وكأن شيئا لم يحصل: فلا هي اعتذرت من مغربي لما تسببت به من غبن بحقه، ولا هي لاحقت الذين تسببوا بذلك، ولا هي دعمت مغربي في مطالبه بمحاسبة القضاة الذين تسببوا باحتجازه تعسفا، ولا هي أجرت ورشة تعديلية لمواءمة نظامها الداخلي مع حكم محكمة الاستئناف. لذلك، وتحريكا لهذا الملف، نعيد هنا نشر تعليق سابق كتبه المحامي كارلوس داوود حول قرار المحكمة، كانت المفكرة القانونية قد نشرته في عددها رقم. 5 (المحرر).
أصدرت محكمة الإستئناف في بيروت، الغرفة الناظرة في القضايا النقابية والمؤلفة من الرئيس أيمن عويدات والمستشارين عُلى رمضان ونوال صليبا وعضوي نقابة المحامين في بيروت الأستاذين ناضر كسبار وفادي بركات، قرارين بتاريخ 25/6/2012 في دعويين قدمهما المحامي محمد مغربي ضد نقابة المحامين في بيروت. وتناولت الدعوى الأولى الطعن بالقرار الصادر عن المجلس التأديبي لدى نقابة المحامين بتاريخ 4/4/2002 بمنع مغربي من مزاولة مهنة المحاماة لمدة ثلاث سنوات، فيما تناولت الدعوى الثانية القرار الصادر عن المجلس التأديبي لدى النقابة نفسها بتاريخ 17/1/2003 والذي قضى بشطب مغربي من جدول النقابة ابتداء من تاريخه. وأصدر رئيسمجلس القضاء الأعلى الأسبق القاضي طانيوس الخوري، بناء لطلب النقيب الأسبق للمحامين ريمون شديد،تعميماً في 4/9/2003 لكافة المحاكم اللبنانية باعتبار المحامي مغربي ممنوعاً منممارسة مهنة المحاماة بصورة نهائية ومعجلة التنفيذ استناداً للنظام الداخلي للنقابة.
وقد طلبت نقابة المحامين من المحكمة ردّ الإستئنافين المقدمين من مغربي بالذات شكلا لأنهما موقعان من غير ذي صفة طالما أنه لم يعد محاميا. واستندت في موقفها إلى نص المادة 110 من النظام الداخلي[1] لنقابة المحامين في بيروت التي نصّت أنّ قرار المجلس التأديبي يكون “معجل التنفيذ”، بالإضافة إلى نص المادة 111 من قانون تنظيم مهنة المحاماة[2] التي نصّت على أنه “يحظر على المحامي الموقوف عن الممارسة خلال مدّة توقيفه، أن يأتي بنفسه عملاً من أعمال المهنة…”. الا أن محكمة الإستئناف ردت هذا الدفع بعدما رأت أنّ قانون أصول المحاكمات المدنية يعتبر معجل التنفيذ الحكم أو القرار الذي يمنحه القانون (دون سواه) هذه الصفة[3]، وأنه لا يجوز تاليا تطبيق المادة 110 منالنظام الداخلي للنقابة والتي تنص على تعجيل تنفيذ القرار التأديبي لتعارضها “مع النص الأعلى درجة والمنصوص عليه قانوناً، الأمر الذي يؤدي إلى اعتبار المستأنف لا يزال يتمتع بصفته كمحام سيما وأنّ قرار شطبه من جدول نقابة المحامين لا يتمتع بصفة النفاذ المعجل ولا يزال غير مبرم“[4].
وبعيداً عن النقاش القانوني المحض، تكمن أهميّة القرارين المذكورين في أنهما كرّسا جملة مبادئ أساسية تظهر دور القضاء المجتمعي في مجال تعزيز وحماية الحقوق والحريات… المبدأ الأوّل، تكريس “سيادة القانون” وخضوع الهيئات النقابية له وللقاضي الذي يتولى تطبيقه. فالحرية التي يتمتع بها مجلس نقابة المحامين بإدارة شؤون النقابة ووضع نظامها الداخلي إنما تترافق مع رقابة قضائية لصيقة على التشريعات الداخلية تبقي للقانون سموّه على النظام الداخلي[5]. المبدأ الثاني، حفظ ضمانات خاصة للمحامي، أهمّها استمرار احتفاظه بصفته كمحام يتمتع بكامل الحقوق والإمتيازات التي تخوّله إيّاها القوانين وممارسة حق الطعن بالأحكام أمام مرجع حيادي ومنصف في مواجهة مقاربة فوقية للسلطة النقابية وأنظمتها؛ المبدأ الثالث، طبّقت المحكمة “مبدأ التناسب” من خلال الموازنة بين الحق (المتمثل بحرية المحامي بالتعبير عن رأيه[6] ) وبين الضرر الذي قد ينتج عنه، وانتهت الى ابطال العقوبات القاسية مكتفية بعقوبة “التنبيه” وهي أدنى عقوبة تأديبية وفق قانون تنظيم مهنة المحاماة. وبذلك تكون المحكمة قد راعت بدرجة معينة حق المحامي بالتعبير عن رأيه[7] والنقد، بما يتصدى لإشكالية عانى منها المحامون في السنوات السابقة تمثلت بظاهرة “التعاميم” التي يصدرها النقباء ويمنعون بموجبها المحامي من الظهور الإعلامي وإبداء رأيه بمواضيع عامة، تحت طائلة الملاحقة تأديبية. المبدأ الرابع، طرح قرارا محكمة الإستئناف في إحدى حيثياتهما إشكالية المحاكمة التأديبية وعدم توفيرها ضمانات المحاكمة العادلة. وهذا ما نستشفه بوضوح حين أشارا أنّ نصوص قانون تنظيم مهنة المحاماة ” لم تتضمّن أحكاماً خاصة تتعلّق بإعطاء مهلة معيّنة للجواب وإبلاغ صاحب العلاقة نسخة عن المستندات الموجودة في الملف، وفق ما هو الحال في ما يتعلّق بأحكام قانون أصول المحاكمات المدنية“وعمليا دعوة مفتوحة للنقابة لإعادة النظر بتشريعاتها لجعلها أكثر عدالة. وهذه الحيثية هي بمثابة انتقاد من المحكمة لأصول المحاكمة أمام المجالس التأديبية لنقابة المحامين. فحق الشخص بالدفاع عن نفسه وفق ما تقدم، هو من المبادئ القانونية العامة التي ينبغي التقيّد بها حتى ولو لم يرد النص بشأنها، باعتبار أنها إحدى ضمانات الحق بمحاكمة عادلة.
والملفت في القرارين، إشارتهما الى موقف نقيب المحامين في بيروت نهاد جبر الذي طلب من المحكمة “وضع حدّ للنزاعات المثارة بين المستأنف ونقابة المحامين“، وهي نزاعات أثيرت على خلفية ممارسة مغربي لحقه بالتعبير عن رأيه. إنّ موقف النقيب “التسامحي”[8] هذا جاء منسجماً مع أوّل قرار اتخذه بعد انتخابه “بالسماح للمحامين بإبداء الرأي في وسائل الإعلام“[9] عقب شكوى كانت قد تقدّمت بها النقيبة السابقة أمل حداد ضدّ المحاميين نزار صاغية وكاتب هذا المقال لنشرهما مقالاً ينتقد التعميم الصادر عنها بتاريخ 3/3/2010 واقتراح تنظيم علاقة المحامي مع وسائل الإعلام، كونهما ينتهكان حرية الرأي والتعبير. من هنا أهمية أن يتلقف المحامون موقف النقيب واجتهاد المحكمةاللذين يشكلان إقراراً بالتجاوزات التي كانت تحصل، وعودة إلى ثقافة الحرية، ويطلقوا، على هذا الأساس، حراكاً داخلياً هادفاً نحو فرض المعايير الدولية في ممارسة العمل النقابي وتكريس الحقوق الأساسية للمحامين أهمها حقهم بتأسيس الجمعيات وحق الإنتخاب للمحامين المتدرجين وإطلاق ورش العمل لهذه الغاية على أوسع صعيد… ودفع نقابتي المحامين نحو إطلاق حملة جدية للمطالبة باستقلال القضاء وضمان نزاهته ومكافحة الفساد فيه، تتخطى سقف البيانات الدورية أو التوقف عن العمل[10] التي لم تثبت جدواها، كما التوقف عن تبني خطاب الطبقة السياسية في الإصلاح للمطالبة بانتخاب كامل أعضاء مجلس القضاء الأعلى من القضاة وفق ما يفرضه اتفاق الطائف والمعايير الدولية لاستقلال القضاء.
من ناحية أخرى، لا يمكن أن نفصل قراري محكمة الإستئناف عن حراك قضائي أوسع بتنا نلاحظه إلى حدّ ما في لبنان عبر مجموعة من المواقف العلنية وأحكام قضائية تصدر عن قضاة يقاربون فيها قضايا حقوقية واجتماعية وإنسانية بذهنية مختلفة جاعلين القانون في خدمة الإنسان، وتحاكي بشكل أو بآخر الحراك القضائي العربي الذي لا بدّ أن ينعكس على واقع المهن الحقوقية في لبنان.
[3]– بذات المعنى يراجع: محكمة الإستئناف المدنية في بيروت، الغرفة الأولى، القرار الرقم 9 تاريخ 27/3/1971. وأيضاً:Cass. Civ. 7/3/1949, Dalloz 1949, 457.
[4]– بذات المعنى: محكمة الإستئناف المدنية في بيروت، الغرفة الثالثة عشرة، القرار الرقم 5 تاريخ 17/3/1999. ومحكمة الإستئناف المدنية في بيروت، الغرفة الحادية عشرة، القرار الرقم 7 تاريخ 17/3/1997. والهيئة العامة لمحكمة التمييز، القرار الرقم 8 تاريخ 26/3/2004.
[5]– المحامي الياس أبو عيد، المحامي حقوقه، أتعابه وواجباته، حصانته وضماناته، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، الطبعة الأولى 2001، الجزء الثاني، الصفحة 540 و541.
[6]– “بالنظر لما تحتاج إليه ممارسة مهنة المحاماة من إطار لحرية الرأي والقول والعمل واسع المدى ليتمكن المحامي من القيام بواجب الدفاع على أكمل وجه”، محكمة الإستئناف المدنية في بيروت، الغرفة السادسة، القرار الرقم 8 تاريخ 11/6/1973.
[7]– أصدر القاضي المنفرد الجزائي في بيروت زياد مكنا بتاريخ 27/11/2008 قراراً بحق المحامي محمد مغربي اعتبر بموجبه أنّ “حرية إبداء الرأي… مكفولة بموجب المادة 13 من الدستور اللبناني” وأنه “لا يحدّها إلا القانون… بصورة ضيّقة واستثنائية”، وكلام المحامي مغربي “مكفول بموجب الدستور اللبناني ولا يشكل أيّ جرم جزائي”.
[8]– “وحيث أنّ نقيب المحامين الذي حضر مرتين ترك الأمر للمحكمة مما عكس المنحى التسامحي لديه”، محكمة الإستئناف المدنية في الشمال، الغرفة السادسة، القرار الرقم 152 تاريخ 16/2/2004.
[9]– “ويأتي هذا القرار بعد أعوام على تعميم نقابي حظر على المحامين التعاطي الإعلامي إلا بعد إذن من النقابة وفي حالات ضيقة”، جريدة النهار تاريخ 30/11/2011.
[10]– راجع بيان مشترك للنقيبين جبر والداية، جريدة النهار تاريخ 24/3/2012.
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.