الكوليرا (1): تردّي نوعية المياه في لبنان يطرح سؤالاً عن تأخّر الوباء وليس عودته


2022-11-05    |   

الكوليرا (1): تردّي نوعية المياه في لبنان يطرح سؤالاً عن تأخّر الوباء وليس عودته
نهر الليطاني في منطقة البقاع ملوّث بمياه الصرف الصحي والنفايات الصناعية

بعد نحو شهر من ظهور إصابة الكوليرا الأولى في لبنان، يشير عدّاد وزارة الصّحة إلى وجود 2421 حالة مؤكّدة ومشتبهاً فيها، و18 حالة وفاة في ارتفاع ملحوظ عن أرقام كانت نشرتها منظمة الصحة العالمية الاثنين الماضي (أكثر من 1400 حالة بين مشتبه فيها ومؤكدة)، ودفعتها حينها إلى التحذير من انتشار سريع للوباء الذي أعلنت أنّه وصل إلى كافة المحافظات بعدما كان محصوراً في الأقضية الشماليّة.

ارتفاع عدّاد الحالات سيستمر على ما يبدو وستتوسّع دائرتها حيث تخوّف وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال فراس الأبيض الخميس الماضي من انتشار الكوليرا في المنطقة الشمالية من بعلبك وفي منطقة بر الياس وضواحيها، طبعاً إضافة إلى ازدياد الحالات في عكار والمنية وفي عرسال. يتزامن كلام وزير الصحة مع إعلانه عن تسلم 13440 جرعة لقاح مضاد للكوليرا مقدّمة من فرنسا، وهي الدفعة الأولى من اللقاحات، على أن تصل 600 ألف جرعة أخرى كان طلبها لبنان ووافقت عليها الجمعية الدولية لتنسيق اللقاحات التابعة لمنظمة الصحة العالمية خلال عشرة أيام مجّاناً.

ولكن يقلل خبراء صحيّون من جدوى التلقيح في حال عدم القضاء على أسباب تلوث المياه ومن بينها شبكة الصرف الصحي المهترئة، إذ إن فعالية لقاح الكوليرا تبدأ بالتراجع بعد 3 أشهر على تلقي الجرعة. كذلك تتفق منظمة الصحة العالمية واليونيسف ووزارة الصحة والخبراء على أنّ أيّ مجابهة لوباء الكوليرا من دون إيجاد حلول تضمن توفير المياه الآمنة وإصلاح شبكات الصرف الصحي تبقى كمن يضع ماء في سلّة مثقوبة، وستفشل ليس فقط في منع الانتشار بل في منع ظهور أمراض أخرى، لا سيّما أنّ لبنان تحوّل إلى أرض خصبة لها نتيجة السياسات الحكومية القائمة على المحاصصة والزبائنية في تلزيمات وعقود البنى التحتية خصوصاً الصرف الصحي التي بلغت قيمة عقوده التي أجراها مجلس الإنماء والإعمار خلال 20 عاماً (2001-2020)، 763.3 مليون دولار بحسب مبادرة “غربال”.

في  آخر مؤتمر صحافي، قبل تحذير منظمة الصحة، أمل وزير الصحة أن يدقّ وباء الكوليرا “ناقوس الخطر للمسؤولين في قطاعات المياه والنفايات والصرف الصحي للعمل سريعاً على سد الثغرات وإعادة العمل في محطات ضخ المياه وتكرير المياه المبتذلة”. الناقوس نفسه الذي تتكرّر المطالبات بدقّه منذ سنوات لا سيّما بعد الانهيار الاقتصادي العام 2019 “حتى لا يتحوّل لبنان إلى بؤرة من الأمراض التي نسي العالم في القرن الواحد والعشرين أنّها لا تزال موجودة” على حدّ تعبير عدد من المعنيين.

لكن سبق أن حذرت اليونيسف في شهر آب من العام الماضي، في بيان من احتمال تعرّض أكثر من 4 ملايين شخص في لبنان، الذي يمتلك أكبر ثروة مياه جوفية في المنطقة، لنقص حاد في المياه، مشيرة إلى أنّ لجوء هؤلاء إلى مصادر مياه غير آمنة سيعرّض الصحة والنظافة العامة للخطر بما فيه خطر زيادة في الأمراض المنقولة عبر المياه. وأشارت اليونسيف حينها إلى ضرورة  اتخاذ إجراءكانتااات حازمة ومنهجية لحماية الأطفال وضمان الوصول للمياه وجميع الخدمات الأساسية، محددة المياه والصرف الصحي وشبكات الطاقة والرعاية الصحية.

لم يحرّك التحذير المعنيين اللبنانيين على الرغم من أنّه سبق وتبعته تحذيرات عدّة من اختصاصيين. وبعد أشهر من ذلك التحذير وفي شهر حزيران الماضي تحديداً عادت وظهرت إصابات مؤكدة بالتهاب الكبد الفيروسي (Hepatitis A) أو اليرقان في مدينة طرابلس وقضاء زحلة ومحافظة عكار، والذي يرتبط انتشاره بتلوث المياه، وقالت حينها وزارة الصحة إنّ اليرقان فيروس مستوطن في لبنان وكلّ عام يتمّ تسجل حوالي ٥٠٠ إصابة ولكن اللافت كان ارتفاع عدد الحالات ضمن مناطق جغرافية محدّدة، وفي فترة زمنية مكثفة، ما استوجب الكشف عن المصدر، الذي رُجّح أن يكون الماء، لوقف الانتشار المجتمعي.   

تدريجياً خفت الحديث عن اليرقان وتوقّفت وزارة الصحة عن إصدار نشرات يومية، وبعد أشهر قليلة وتحديداً في الخامس من تشرين الأوّل سُجّلت الإصابة الأولى بالكوليرا في محافظة عكّار الشماليّة وبدأ الوباء بالانتشار حتى وصل إلى جميع المحافظات. يومها، توقف مستوصف الإيمان في ببنين، التي شهدت تسجيل أولى حالات الكوليرا، عن إحصاء إصابات اليرقان ليفتح سجلّاً منفصلاً للكوليرا.

ستحاول “المفكرة القانونية” ومن خلال سلسلة من التحقيقات ننشرها تباعاً تسليط الضوء على البيئة الحاضنة لتفشّي الأمراض في لبنان، وتدقّ “نواقيس خطر” من أنّ البلاد مهددة ليس فقط بوباء الكوليرا بل بلائحة طويلة من الأمراض التي يمكن أن تنتشر بسبب تلوّث المياه وسوء إدارة قطاع الصرف الصحي، وفوضى الآبار الجوفية المتجاورة مع حفر يُعمد إلى تسميتها بالصحّية، والبداية ستكون بتقرير عام عن الكوليرا.

نهر بيروت (منطقة الحازمية) ملوث بمياه الصرف الصحي

تحذير من انتشار أوسع

وبالعودة إلى خريطة انتشار وباء الكوليرا واعتماداً على الأرقام التي تنشرها وزارة الصحة بشكل يومي يتبيّن أنّه حتى تاريخ الثالث من تشرين الثاني (بعد 3 أيام من تحذير منظمة الصحة العالمية)، بلغ عدد الحالات المثبتة والمشتبه فيها 2421 حالة (413 مثبتة) فيما وصل عدد الوفيات إلى 18 حالة.

وحسب بيانات الوزارة فإن نسبة من احتاج رعاية استشفائيّة من المصابين كانت 18% مقابل 82% لم يضطروا إلى دخول المستشفى، ويبلغ حالياً عدد الأسرّة المستخدمة للحالات المثبتة أو المشتبه فيها 92.

وتشكّل حسب بيانات وزارة الصحّة المنشورة في تاريخ الثالث من تشرين الثاني، فئة الأطفال تحت سن الرابعة النسبة الأكبر من الحالات المشتبه فيها والمثبتة (24%) بينما تشكّل الفئة العمرية فوق الـ 65 عاماً النسبة الأقل من الحالات وهي 7%.

وفي ما خصّ الانتشار حسب المحافظات فتسجّل عكّار النسبة الأعلى من الإصابات تليها محافظة الشمال ومن ثمّ جبل لبنان وبعلبك الهرمل ومن ثمّ البقاع.

النهر الكبير على الحدود اللبنانية الشمالية ملوّث بمياه الصرف الصحي

تاريخ الكوليرا ولماذا لبنان؟

تذكر منظمة الصحّة العالمية على موقعها أن الكوليرا انتشرت خلال القرن التاسع عشر في جميع أنحاء العالم “انطلاقاً من مستودعها الأصلي في دلتا نهر الغانج في الهند”  وشهد العالم بعدها ست جوائح من المرض حصدت أرواح الملايين من البشر في جميع القارات، ومن ثمّ  جائحة سابعة كانت الأخيرة  في جنوب آسيا في العام 1961 ووصلت إلى إفريقيا في عام 1971 ثم إلى الأمريكتين في عام 1991.

وكانت منظمة الصحة العالمية تحدّثت  عن زيادة مقلقة في تفشي الكوليرا في جميع أنحاء العالم، إذ  أبلغت 26 دولة في أول تسعة أشهر من هذا العام وحده عن تفشي الكوليرا فيها.

وعند الحديث عن الكوليرا غالباً ما تربط المنظمة بين هذا الوباء وبين التنمية والعدالة، ففي تعريف الكوليرا تورد المنظمة عبارة ” ولا تزال الكوليرا تشكل تهديداً عالمياً للصحة العامة ومؤشراً على انعدام المساواة وانعدام التنمية الاجتماعية” ذاكرة من ضمن المناطق المعرّضة “للخطر تقليدياً الأحياء الفقيرة في المناطق الحضرية، وكذلك مخيمات المشرّدين داخلياً أو اللاجئين”.

في لبنان ظهرت الكوليرا آخر مرّة العام 1993 أي قبل ثلاثين عاماً تقريباً، وعند سؤال عن سبب ظهورها مجدّداً تقول رئيسة الجمعية اللبنانية للأمراض الجرثومية والعضو في لجنة الكوليرا في وزارة الصحة في لبنان مادونا مطر بداية إنّ الكوليرا غير متوطّنة في لبنان وأنّ الحالة الأولى التي ثبت أنّها أصيبت بالجرثومة كانت خارج الحدود اللبنانيّة، ومن ثمّ حصل التفشّي واليوم هناك أكثر من 2421 حالة (بين مثبتة ومشتبه فيها) غير الحالات غير المبلّغ عنها.

وتضيف مطر: “الوضع في لبنان كان “واقف على صوص ونقطة” منذ زمن والمياه ملوثة عندنا، ولكن لم يكن لدينا جرثومة الكوليرا، ظهرت هذه الجرثومة في آب الماضي في سوريا دخلت عبر شخص كان في سوريا، والحدود كما هو معروف مفتوحة، ومتى دخلت هذه الجرثومة إلى الصرف الصحي والماء تنتشر بسرعة، فهي جرثومة تحب الماء وتنتشر بسرعة، وهذا ما حصل”.

وتتابع أنّه “لولا نظام الصرف الصحي المهترئ لما كانت انتشرت الكوليرا، لو كنّا في بلد يتمتّع ببنى تحتيّة جيّدة وحيث المياه مفصولة 100% عن مياه الصرف الصحي لما كانت انتشرت الكوليرا”.

وهذا أيضاً ما تشير إليه منظمة الصحة العالمية إذ تؤكّد “أنّه من الممكن أن تسفر العواقب المترتبة على وقوع أية كارثة إنسانية – مثل تعطّل شبكات المياه ومرافق الصرف الصحي أو نزوح السكان إلى مخيمات غير ملائمة ومكتظة – عن زيادة خطورة انتقال الكوليرا إذا كانت بكتيريا المرض موجودة فيها أو إذا وفدت إليها من مكان ما”.

وصحيح أنّ الكوليرا  غير متوطن في لبنان كما تؤكّد مطر إلّا أنّ رئيسة الفريق التقني في منظمة الصحة العالمية في لبنان أليسار راضي  تعتبر أنّ انتشاره في لبنان كان متوقعاً نظراً لانتشاره في بلدان مجاورة (سوريا) وبسبب ضعف أنظمة تأمين المياه والوصول إلى الصرف الصحي وللأزمات المزمنة المرتبطة بمعالجة النفايات في لبنان.

الخطر الصحّي المحدق  بلبنان لا يتعلق فقط بظهور الكوليرا، إذ تؤكّد راضي في حديث مع “المفكرة” أنّ  لبنان يعتبر منطقة عالية الخطورة فيما خصّ الأمراض التي تنتقل بالمياه للأسباب التي سبق وذكرناها فضلاً عن مخاطر تتعلّق بظهور أمراض ترتبط بتراجع قدرة سكّان لبنان، ولاسيّما في المناطق التي تعاني من فقر مدقع، على الحصول على اللقاحات.

وبما أنّ العوامل التي تحضن جرثومة الكوليرا متوافرة في لبنان، تؤكّد راضي، وعند سؤالها عن المدى المتوقّع لخروج لبنان من الكوليرا، “أنّ الأمر يرتبط بقدرة الدولة على توفير مياه آمنة ومعالجة أزمة الصرف الصحي فضلاً عن تأمين اللقاحات والتعامل مع الوضع الراهن”، مشدّدة على ضرورة العمل بشكل متواز بين جميع الوزارات والسلطات والشركاء معاً لمواجهة التفشي.

وليس بعيداً تؤكّد أستاذة علوم الصحة البيئيّة ورئيسة دائرة الصحة البيئيّة في الجامعة الأميركيّة في بيروت  مي جردي أنّه طالما وُجد في مياهنا ما يُسمّى أجسام برازية fecal organism ما يعني مباشرة توقُّع أن تحمل المياه جراثيم تؤدي إلى ظهور أمراض منها الكوليرا والدوسنتاريا (Dysentery) والتهاب الكبد الفيروسي ولائحة طويلة من الأمراض التي تنتقل بالمياه. فوجود هذه الأجسام يعني تعرّض المياه لتلوّث جرثومي على الأرجح نتيجة اختلاطها بمياه الصرف الصحي، وهذا يستوجب المعالجة الجرثوميّة الفوريّة. وتلفت إلى أنّه في ظلّ فقر الموارد البشريّة والماليّة كان يمكن للمعنيين فقط إجراء فحص للمياه يتعلّق بهذا المؤشّر، وفي حال وجوده نتوجّه إلى المعالجة الفوريّة، وتقول: “إذا أردنا إجراء فحوصات عن كل نوع من الميكروب، نحتاج إلى موارد بشرية ومالية كبيرة فضلاً عن الوقت الذي تستغرقه العملية لذلك هناك ما يُسمّى المؤشرات، لتبسيط الأمور إذا هناك اختلاط مع مياه الصرف الصحي والذي يتبيّن من خلال وجود أجسام برازية يعني كل الجراثيم التي يمكن أن تكون في المجارير يمكن أن تكون موجودة في المياه يعني احتمال انتشار الأمراض”.

نهر الليطاني في منطقة البقاع ملوّث بمياه الصرف الصحي والنفايات الصناعية

من المسؤول عن مياهنا والصرف الصحي؟

يعتبر المدير العام السابق للاستثمار في وزارة الطاقة والمياه غسّان بيضون أنّ توقّع انتشار الأمراض التي تنتقل بالمياه الملوثة هو أمر طبيعي في بلد يُدار فيه قطاع المياه وشبكات الصرف الصحي بطريقة تتّسم بسوء الإدارة والاستنسابيّة والفوضى التي تسود قطاع المياه والصرف الصحّي الذي أوكل إلى مؤسسات المياه الأربعة بموجب القانون ٢٢١/ ٢٠٠٠.

ويوضح أنّ القانون رقم 221 لسنة 2000  المتعلق بتنظيم قطاع المياه يولي صراحة وزارة الطاقة والمؤسسات العامة الاستثمارية للمياه والصرف الصحي (مؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان، مؤسسة مياه لبنان الشمالي ومركزها مدينة طرابلس، مؤسسة مياه البقاع ومركزها مدينة زحلة ومؤسسة مياه لبنان الجنوبي ومركزها مدينة صيدا) واجب رصد ومراقبة وكيل وإحصاء ودرس الموارد المائية وتقدير الحاجات إلى المياه ومجالات استعمالها في المناطق كافة، ومراقبة نوعية المياه السطحيّة والجوفيّة وتحديد معاييرها ووضع مشروع المخطط التوجيهي العام للمياه والصرف الصحي وتحديثه، ما يعني أنّ  هناك مسؤولية كبيرة على عاتق هذه الوزارة ومؤسسات المياه الخاضعة لرقابتها ووصايتها في موضوع انتشار وباء الكوليرا المرتبط بتلوث المياه.

ويضيف بيضون أنّه من أسباب تلوّث المياه في لبنان هو شبكات الصرف الصحي التي بأغلبها غير مكتملة أو تصب في الوديان والأنهر أو تختلط بشبكات المياه المهترئة وتصل من خلالها إلى البيوت، ناهيك عن تسرّب الزيوت والشحوم المستعملة إلى المياه الجوفية من محطات المحروقات وغيار الزيت، ومن النفايات المنزلية والصناعية والطبية وغيرها التي لا تخضع للمعالجة فتتسرّب عصاراتها وسمومها إلى المياه الجوفية وإلى شبكات المياه التي تصل إلى المنازل.

وكانت مبادرة غربال كشفت أنّ قيمة عقود الصرف الصحي التي أجراها مجلس الإنماء والإعمار خلال 20 عاما (2001-2020)، وصلت إلى 763,3 مليون دولار. وقيمة القروض والمنح التي خصصت لمشاريع الصرف الصحي وصلت إلى 1.5 مليار دولار خلال 30 عاماً.

سمك الكارب النافق بسبب تلوّث بحيرة القرعون

الإجراءات بالكاد “استجابيّة”

يرى وزير الصحّة فراس الأبيض أنّ لبنان لا يزال “في مرحلة استباقية لإمكان تفشي الوباء بشكل واسع”   مؤكداً في آخر مؤتمر صحافي أن “العمل يصبح محدود الفعالية عند انتشار الوباء لذلك لا بدّ من تفعيل الأمور الاستباقية سواء في ما يتعلق بالمياه النظيفة والتعقيم وضخ المياه النظيفة وتكرير مياه الصرف الصحي بالإضافة إلى نشر اللقاح والجهوزيّة”.

وفي ما خصّ الجهوزيّة تشرح الدكتورة مادونا مطر أنّ الوزارة وضعت خطّة استراتيجيّة فهي تنسّق بشكل دائم مع باقي الوزارات ومع الجهات والمنظمات الدوليّة لتأمين المياه النظيفة والكلور للمواطنين وحتّى للصهاريج فضلاً عن تأمين الأدوية وتحضير المستشفيات والتوعية بالوقاية من الكوليرا، مشيرة إلى أنّه كان من الصعب جداً وضع خطة مسبقة لمنع وصول الكوليرا بعد تفشّيها في سوريا وذلك انطلاقاً من أنّ الحدود النظامية وغير النظامية مفتوحة وباعتبار أنّه لا نستطيع في ليلة وضحاها تأهيل البنى التحتية، فالاهتراء والخلل تراكما عبر السنوات.

أمّا في تفاصيل الخطّة التي أعلنتها الوزارة، فعلى صعيد تأمين العلاج جهّزت الوزارة تسع مستشفيات حكوميّة وميدانيّة لاستقبال مصابين بالوباء، إضافة إلى تجهيز أجنحة في مستشفيات ومراكز صحية في مختلف المناطق وليس فقط تلك التي تعاني من انتشار الوباء.

كما أصدرت الوزارة تعميماً بأن يعالج جميع مصابي الكوليرا مجاناً، حيث تدفع الوزارة كلفة علاج اللبنانيين المصابين بينما يُعالج غير اللبنانيين على نفقة منظمات دوليّة مثل المفوضية العليا لشؤون اللاجئين والمنظمة الدولية للهجرة. ورغم ذلك شكا كثير من المصابين في بداية انتشار الكوليرا من مطالبة بعض المستشفيات لهم ببدل تحاليل وعلاجات، وهو ما استدعى تعميماً جديداً من وزارة الصحة تؤكد على مجانية العلاج.

في ما خصّ تأمين المياه النظيفة، تمّ فقط تجهيز ثمانية مختبرات للمياه في مستشفيات حكومية بمساعدة من منظمة الصحة العالمية والمفوضية العليا للاجئين، وأعيد تجهيز مختبرات عدة، فضلاً عن فتح الوزارة حالياً باب فحوصات مجانيّة للمياه في المدارس والبلديات وأيّ مؤسسة حكوميّة ترغب في فحص مياهها. وفي ما يتعلّق بالصهاريج تتعاون الوزارة، حسب ما تؤكّد، مع البلديات والصليب الأحمر اللبناني لتنقية وتتبع المياه التي تنقلها الصهاريج، ويتم تقديم الكلورين لاستخدامه في تعقيم المياه وفحصها.

ولأنّ أزمة المياه مرتبطة بالكهرباء أيضاً، أكّدت وزارة الصحة تلقّيها وعوداً من وزارة الطاقة بتأمين كمية أكبر من الكهرباء لمؤسسات المياه بعدما استلم لبنان الفيول العراقي، وإعطاء الأولوية لمحطات ضخ المياه ومحطات تكرير مياه الصرف الصحي.

وكجزء من خطّة مواجهة الكوليرا، أعلن وزير الصحة عن تسلم 13440 جرعة لقاح مضاد للـ”كوليرا” مقدمة بدعم من فرنسا، وهي الدفعة الأولى من اللقاحات، إذ إنّه من المتوقّع وصول 600 ألف جرعة أخرى كان طلبها لبنان ووافقت عليها الجمعية الدولية لتنسيق اللقاحات التابعة لمنظمة الصحة العالمية خلال عشرة أيام مجّانا.

ومن المقرّر أن تُخصّص الهبة الفرنسية الحالية من اللقاحات بشكل أساسي للعاملين الصحيين خصوصاً في المناطق التي تشهد انتشارا للوباء، أمّا توزيع اللقاحات الأخرى فسيستند حسب الوزارة إلى معايير وبائيّة. ولأنّ الهدف هو الحد من انتشار الوباء سيبدأ توزيعه في المناطق التي تشهد الانتشار الأكبر (جرعة واحدة حسب توصيات منظمة الصحة العالمية) من دون تمييز بين سوري ولبناني، حسب ما تؤكّد الوزارة.

ما تقول عنه الوزارة خطّة استباقية ما هو إلّا “الطبيعي” الذي يجب القيام به بشكل روتيني، فالاعتيان (أخذ عينات ومراقبتها بشكل دوري) مطلوب بغض النظر عن وجود وباء أو تفش كما تقول رئيسة دائرة الصحة البيئية في الجامعة الأميركيّة في بيروت مي جردي، معتبرة في حديث مع “المفكرة” أنّ الإعلان عن حالة الإصابة الأولى بالكوليرا في الخامس من تشرين الأوّل الماضي لا يعني عدم وجود الجرثومة من قبل، فليس هناك من يراقب ويفحص ويترصد بشكل دائم.

وترى جردي أنّه منذ  ظهور التهاب الكبد الفيروسي على الأقل كان يجب دقّ ناقوس الخطر، فظهوره  يعني أنّ هذه المياه لم تعالج بالكلور، وأنّها تحتوي على أجسام برازية ما يعني بالتالي إمكانيّة ظهور أمراض جرثومية أخرى وليس الكوليرا فقط.

وترى جردي أنّه كان على اللجنة المعنيّة بمتابعة الكوليرا أن تبدأ من مصالح المياه، وعند ظهور التهاب الكبد الوبائي، التصرّف على أساس هناك كوليرا، وبالتالي معالجة المياه بالكلور.

وتضيف أنّ الخطوة الأولى التي كان يجب أن تكون هي تأمين مياه هذه المصالح وتحديداً تأمين عدم تلوّثها بعد خروجها من المصلحة وخلال رحلة وصولها إلى المنزل، شارحة بأنّ التلوّث ينتج عن الفراغ الذي يحصل في الشبكة المهترئة نتيجة توقف ضخ المياه (نتيجة انقطاع الكهرباء)، وبالتالي يخف ضغط المياه ويسمح بتسرّب الملوّثات من المحيط الملوّث بشبكة الصرف الصحي إلى مياه الشبكة، وأنّ الحل الأسرع الآن في حالة الطوارئ هو استخدام الكلور عبر الشبكات وترك كمية من الكلور تسمّى “متبقٍ حر” تمنع تلوّث المياه.

وتوضح أنّ “توزيع المياه ليس متواصلاً وشبكة المجاري تحت شبكة المياه، عندما تكون المياه جارية يمنع ضغطها التلوّث حتى ولو كانت مهترئة هي وشبكات الصرف الصحي تحتها، ولكن عند عدم ضخّ المياه يحدث فراغ يمتصّ ما في الخارج من تلوّث، وهذا ما سيمنعه وجود المتبقي الحر من الكلور”.

بالتوازي مع تأمين عدم ملوّثة مياه المصالح، ترى جردي أنّه كان يجب تأمين عدم تلوّث مياه الصهاريج وهي مصدر أساسي لمياه أكثر من 70% من اللبنانيين حالياً، متسائلة كيف يمكن للبلديات في ظلّ الفوضى الحاصلة في قطاع الصهاريج أن تراقبها كما صرّحت وزارة الصحة، وكيف يمكن التأكّد من أنها تضع الكلور، وبالكميّات المطلوبة، وهل هناك نقاط مراقبة، معتبرة أنّه كان يجب إعطاء هذه المسؤوليّة لمؤسسات المياه.

وتسأل جردي بما أنّنا في حال طوارئ لماذا انتظرنا وصول الفيول العراقي وارتضينا فقط بوعود بإيلاء الاهتمام للشبكات والتكرير، ولماذا لم نستعن بمخزون الفيول عند مؤسسات أخرى (الجيش مثلاً) تماماً كما حصل وقت انتشار كورونا، وتقول: “أولويّة ضخ الماء كانت يجب أن تنفّذ قبل 3 أسابيع”.

وفي حين تعتبر جردي أنّ تشكيل اللجان مطلوب وهو أمر جيّد في خطّة الاستجابة، تسأل عن آليات العمل والتنسيق مستغربة على سبيل المثال أنّ يتمّ تجهيز 8 مختبرات في المستشفيات بينما مؤسّسات المياه لديها مختبرات جاهزة، إذ كان من الأولى الاستعانة بهذه المختبرات ولو ليست تابعة لوزاةة الصحّة فلبنان بحال الطوارئ.

وفي ما خصّ إعلان وزارة الصحة إجراء فحوصات مجانيّة لمياه المدارس والمؤسّسات، تقول جردي إنّ الأمر غير كاف أوّلاً لأنّه اختياري ثانياً لا تكفي نتيجة فحص واحد بل الأهم هو الاعتيان وهذا ما لا تفعله الدولة أبداً.

وفي ما خصّ اللقاحات التي يُعتبر تأمينها جزءاً من الخطّة هناك شبه إجماع بأنّ توزيع اللقاحات يجب أن يترافق مع تأمين المياه الآمنة حتى لا نكون نضع الماء في سلّة مثقوبة لا سيّما مع محدوديّة كميّات اللقاحات.

وفي هذا الإطار تؤكّد منظمة الصحة العالمية أنّه ” ينبغي إعطاء اللقاحات الفموية المضادة للكوليرا بالاقتران مع إدخال تحسينات على خدمات إمدادات المياه ومرافق الصرف الصحي لمكافحة فاشيات الكوليرا والوقاية منها في المناطق الشديدة التعرض للمخاطر”.

أمّا جردي فتشرح أنّ فعاليّة اللقاح مرتفعة في الحماية من الوباء ولكنّها تبدأ بالتراجع بعد ثلاثة أشهر وبالتالي ليست حلاً إن لم نقض على المسببات الرئيسية لانتشار المرض.

تعبئة مياه من مصادر غير موثوقة

الكوليرا: عوارض ووقاية

تُعرّف منظمة الصحّة العالمية الكوليرا بأنّها “عدوى حادة تسبب الإسهال وتنجم عن تناول الأطعمة أو شرب المياه الملوّثة بضمات بكتيريا الكوليرا (Vibrio cholerae)” وتشرح رئيسة الجمعية اللبنانية للأمراض الجرثومية وعضو في لجنة الكوليرا في وزارة الصحة في لبنان مادونا مطر أنّ الكوليرا هي جرثومة تُعرف علميا بـ “Vibrio cholera” تنتقل إلى الإنسان إذ تناول مياها أو طعاماً ملوثاً بهذه الجرثومة أو من خلال ملامسة البراز أو القيء المتأتّي من الأشخاص المُصابين بالمرض.

تتلخّص عوارض المرض، حسب مطر، بالإسهال المائي الحاد جدا (دخول الحمام أقلّه  10 مرات يوميا وتصل في بعض الأحيان إلى 25 مرة). وفي حين لا تتصاحب الكوليرا بالعادة الكوليرا مع ارتفاع بالحرارة، وقد يعاني بعض المصابين من وجع في البطن والتقيؤ.

غالبا ما تؤدي هذه العوارض إلى التجفاف الذي من عوارضه تقلّص مرونة الجلد والعطش وتغوّر العينين والتعب أو الضعف الشديد، وتؤكّد مطر على ضرورة  التوجه إلى أقرب مركز رعاية صحية أولية أو مستشفى عند ظهور هذه العوارض.

وتشرح الدكتورة مطر في حديث مع “المفكرة” أنّ هذه العوارض تبدأ بالظهور على المصاب في مدة تتراوح ما بين 12 ساعة إلى 5 أيام عقب تناوله أطعمة ملوثة أو شربه مياها ملوثة، مشيرة إلى أنّ حدّة العوارض ترتبط بمدى تركّز الكوليرا في الأطعمة أو المياه الذي تناولها المصاب.

وفي ما خصّ العلاج فتشرح مطر أنّه يمكن علاج مصابي الكوليرا بواسطة محلول الإمهاء الفموي (الأمصال الفموية) أما حالات الكوليرا الصعبة فتُعالج بالحقن الوريدي بالأمصال والمضادات الحيوية.

تصيب الكوليرا الأطفال والبالغين على حد سواء ويمكن أن تودي بحياتهم في غضون ساعات إن لم تُعالج، إذ تحصد الكوليرا  ما بين بين 000 21 و000 143 وفاة في جميع أنحاء العالم سنويا.

وفي هذا الإطار توضح مطر أنّ الوفاة الناجمة من الكوليرا غالبا ما تكون مرتبطة بخسارة الجسم بسبب الإسهال الحاد الكهارل (الإلكتروليتات electrolyte) أي المعادن والأملاح الموجودة في الجسم ما يسبب بتسمم الجسم خاصة عندما يصل المريض إلى العناية الطبيّة متأخراً، مضيفة أنّه كلّما خسر الجسم ماء أكثر ترتفع المخاطر المتعلقة بالتأثير على وظائف الكلى والقلب، وغالباً ما يكون الأطفال والكبار بالسن أكثر عرضة لهذه التأثيرات.

وتذكر وزارة الصحة على صفحتها أنّه في حال عدم توافر محلول أملاح الإمهاء (الأمصال المخصصة للشرب عبر الفم) يمكن تحضيره في المنزل  بالطريقة التالية شرط أن يتمّ استعمال مياه نظيفة وآمنة:

–  نصف ملعقة صغيرة من ملح الطعام

– 6 ملاعق صغيرة كاملة من السكر

–  ليتر ماء نظيف

الوقاية

بما أنّ المياه هي المصدر الأساسي لانتقال الكوليرا إلى الإنسان تنصح الدكتورة مي جردي باتباع هذه الإرشادات للتأكّد من سلامة المياه:

  • إضافة فنجان قهوة من الكلور إلى خزان المياه (سعة ألفي ليتر)  في كلّ مرة تتم تعبئته، مع ضرورة أن تكون نسبة تركّز الكلور في المنتج الذي نستخدمه 5% وما دون، وأن يكون بلا روائح مضافة تجنباً للشوائب
  • إضافة نقطتين من الكلور لكلّ ليتر ماء مخصّص للشرب ومشكوك في مصدره
  • التأكّد من غسل الفواكه والخضار جيداً. في حال إضافة الكلور على مياه الخزان لا حاجة لإضافة الكلور على الخضار والفواكه يكفي فركها بليفة وصابون زيت ومن ثمّ وضعها تحت المياه الجارية، أمّا في حال عدم إضافة الكلور للخزان فيمكن نقع الخضار والفواكه مع ملعقة صغيرة من الكلور في ليترين من المياه، لمدة خمس دقائق
  • عدم تناول اللحوم النيئة وطبخ الطعام جيداً

هذا ونشرت  وزارة الصحة على موقعها مجموعة من الإرشادات الوقائية من الكوليرا أبرزها:

  • غسل الفواكه والخضار بشكل جيّد
  • طهي الطعام بشكل جيّد
  • عدم تناول الأطعمة المكشوفة
  • شرب مياه نظيفة وآمنة
  • غسل اليدين بالماء والصابون لمدة لا تقلّ عن عشرين ثانية

وفي حال ظهور حالة كوليرا في المنزل تنصح وزارة الصحّة بـ:

  • عزل المريض والتخلّص من البراز بالطرق الصحّية
  • تعقيم جميع المواد الملوّثة مثل الملابس والشراشف عن طريق استعمال الكلور والماء
  • تنظيف وتعقيم الأيدي التي تلامس المريض المصاب بالكوليرا او ملابسه او غيرها بالمياه المعقمة
  • مراقبة الأشخاص المخالطين للمريض لمدة خمسة أيام من آخر احتكاك

(عند وجود مصاب بالكوليرا ينصح باعتماد الكلور الذي يحتوي على 5.25% كلور ودائماً خال من الرائحة المعطرة).

انشر المقال

متوفر من خلال:

بيئة ومدينة ، تحقيقات ، الحق في الحياة ، الحق في الصحة ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني