الكابيتال كونترول إلى الواجهة مجدّدًا: تشريع ممارسات المصارف في موازاة تحريرها من القضاء؟


2023-08-15    |   

الكابيتال كونترول إلى الواجهة مجدّدًا: تشريع ممارسات المصارف في موازاة تحريرها من القضاء؟

ورد على جدول أعمال جلسة 17/8/2023 التشريعية، مشروع قانون الكابيتال كونترول الوارد من حكومة نجيب ميقاتي كما عدّلته اللجان المشتركة المكونة من لجان المال والموازنة والإدارة والعدل والاقتصاد الوطني والتجارة والصناعة والتخطيط. وكانت هذه اللجان انعقدتْ 13 مرّة ما بين 30/8/2022 و16/1/2023 لمناقشة هذا المشروع لتخرج بالصيغة الحاليّة. ولا بدّ من التّذكير في هذا الصدد أنّ حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة قد امتنع عن حضور أيّ من هذه الجلسات على الرغم من دعوته المتكرّرة إليها.

وفيما يشكّل هذا المشروع مسعًى لتشريع الكابيتال كونترول غير النظامي السائد منذ الفصل الأخير من 2019 بإرادة جمعية المصارف، فإنه يعتمد في عمقه نفس التوجّهات والروحية التي انبنت عليها مذّاك ممارسات المصارف بالتنسيق مع الحاكم السابق لمصرف لبنان. وأبرز هذه التوجهات حصر حقوق المودعين في سحوبات محدودة (800 د.أ شهريا) بمعزل عن أيّ خطة ترمي إلى إعادة هيكلة رساميل المصارف والتخفيف من هذه القيود (خلافا لما كانت وعدت به اللجان المشتركة في تقريرها بالذات)، في موازاة التمييز بين الودائع الفريش (الأموال الطازجة) والتي يبقى استعمالها حرا تماما والودائع الخاضعة للقيود التي يفرضها هذا القانون. وفيما يهدف الكابيتال كونترول مبدئيا إلى الحدّ من تحويل الأموال الصعبة إلى الخارج، إلا أن هذا المشروع خلا من أي ضوابط في هذا المجال بالنسبة إلى الودائع أو الأموال الفريش.  

وإذ أوجد الاقتراح لجنةً يعيّنها مجلس الوزراء للنظر في تقرير رفع قيمة السحوبات الشهرية أو استثناءات على استخدام الودائع القديمة مثل السّماح بالتّحاويل للطّبابة والتّعليم في الخارج، من المرتقب في حال إقرار مشروع القانون أن لا تنشأ هذه اللجنة أبدا أو على الأقل أن يتأخّر إنشاؤها بفعل التعطيل المؤسساتي، مما سيؤدّي إلى تقسيم أحكامه إلى قسمين: أحكامٌ تطبّق فور نفاذِه وأحكامٌ غير نافذة إلى حين إنشاء اللجنة وتحديد آليات عملها وهي أمور يرجّح أن لا تحصل قطّ.  

ومن أجل تعليق أكثر تفصيلا، نُبدي الملاحظات الآتية:

منصوري يفرض ضرورة التشريع خلافا لتقرير اللجان المشتركة

كما أسلفنا، انتهت دراسة المشروع منذ أكثر من 7 أشهر لدى اللجان المشتركة، إلّا أنّه لم يُدرج على جدول أعمال المجلس النيابي في جميع الجلسات التشريعية التي انعقدت مُذّاك على أساس أنه لا يدخل ضمن تشريعات الضرورة. ولعل العامل الأبرز الذي أدى إلى إدراجه على جدول الأعمال تمثّل في تولّي نائب حاكم مصرف لبنان الأول وسيم منصوري لمنصب الحاكم بالإنابة بعد انتهاء ولاية رياض سلامة، حيث يرفض منصوري بحسب ما هو مُعلن السير بعدد من الإجراءات التي سار عليها سلفه من دون تغطية تشريعية. ويتأكّد ذلك مع دفع منصوري نحو تشريع يرمي إلى قوننة اقتراض الدولة من مصرف لبنان، وهو الأمر الذي تداولت معلومات صحفية أنّه قد يُدرج على الجلسة التشريعية نفسها من خارج جدول الأعمال.

إزاء ذلك، يبرز ما ورد في تقرير مُقرّر اللجان المشتركة المتعلّقة بهذا المشروع النائب جورج عدوان، حيث أكّد فيه على أنّ غالبية الكتل والنواب قد علقّوا موافقتهم على الصيغة النهائية للمشروع على عرضه مع سائر القوانين المالية (تحديدا إعادة الانتظام المالي وإعادة هيكلة المصارف) على الهيئة العامة. وبذلك، تكون الكتل على مرمى استحقاق لإثبات جدّية مواقفها التشريعية أو تمييعها مجددا بحسب الظروف.

وقد سبق للجان المشتركة في المجلس النيابي في جلسة 6/12/2021 أن قرّرت أنّه لن يكون هناك قانون لضبط التحويلات والسحوبات، إلّا كجزء من خطة مالية شاملة تنفّذ بالتعاون مع صندوق النقد الدولي. وقد دعا نائب رئيس المجلس النيابي السابق إيلي الفرزلي آنذاك الحكومة إلى إرسال الخطّة المالية ونتيجة التفاوض مع صندوق النقد، في إشارة إلى قرار اللجان وجوب ربط المقترح بالخطّة. وأضاف: “أفهمت الحكومة هذا الكلام بشكل قاطع لا يرقى إليه أيّ شك. فكان المنطق الذي يقول نعم للكابيتال كونترول، نعم لضرورة إنشائه، ولكن بعد خطة اقتصادية تظهر فيها أرقام مقنعة تأتي إلى المجلس ونتأكّد من صحتها وسلامتها للحفاظ على حقوق المودعين”.

وتكرر الأمر في جلسة للجان المشتركة 20/4/2022 حيث رفض النواب مناقشة مشروع الكابيتال كونترول للسبب نفسه بعدما ربطوا إقرار الكابيتال كونترول بوجود خطة اقتصادية تظهر فيها أرقام مقنّعة تأتي إلى المجلس ليتأكّد من صحتها وسلامتها للحفاظ على حقوق المودعين.

تنفيذ القانون رهن لجنة لن تنشأ

بموجب المادة الثالثة من المشروع، تنشأ لجنة بقرار في مجلس الوزراء تضم وزير المالية وحاكم مصرف لبنان أو أحد نوابه وقاض من الدرجة 18 وما فوق و4 خبراء آخرين من محامين واقتصاديين وأطبّاء ومحاسبين، على أن يتم تحديد آلية عملها ومراسيمها التنظيمية بقرار يصدر عن مجلس الوزراء. وبذلك، رُبط وجود اللجنة وتحديد آلية عملها بمجلس وزراء قد يبقى في حالة تصريف أعمال، في ظل تعطيل معمّم للمؤسسات وآليات التعيين. 

إذ ذاك، يرجّح أن تبقى العديد من مواد القانون معلّقة إلى حين تأليف اللجنة ووضع إطارها التنظيمي ومن بينها:

  • إمكانية زيادة الحد الأدنى للسحوبات بما يتجاوز الحدّ المذكور في الاقتراح وهو 800 دولار أميركي،
  • تحديد القيود المفروضة على التحاويل والشيكات بالعملة الوطنية والعملة الأجنبية بين المصارف،
  • تحديد الحالات الممكن القيام بها بتحويل مصرفي محلّي بعملة أجنبية،
  • تحديد الغرامات المالية على مخالفي القانون وإحالة بعضها إلى الهيئة المصرفية العليا أو النيابة العامة التمييزية كما وتحديد غرامات التأخير عن إزالة المخالفات،
  • اقتراح تمديد العمل بالقانون.

قليل من الحقوق للمودعين مقابل التطبيع مع القيود على السحوبات إلى الأبد

أهمّ ما ورد في الاقتراح بما يخص المودعين، هو منح حق مكتسب للمودعين بسحب 800 د.أ شهريا (وهو الحدّ الأدنى الذي يمكن وفق مشروع القانون للجنة المرتقب أن لا تنشأ أن تقرر تعديله صعودا). وقد شدد المشروع على أن هذا المبلغ يسدد بالعملة التي تمّ الإيداع فيها أو بالليرة وفق سعر الصرف الفعلي، وذلك في تطبيق لما أعلنه في مادته الأولى لجهة عدم إمكانية “المسّ بالودائع”، أي عدم إمكانية القيام بأي عملية haircut في أي خطّة. ويلحظ هنا أن مشروع القانون لا يميز بين فئات المودعين وفق أحقية المطالبة بودائعهم أو مدى جدارتها بالحماية، حيث أنه يتعامل مع الودائع الجماعية المخصصة مثلا لضمان الحقوق الصحية والاجتماعية لفئة معينة بنفس الطريقة التي يتعامل فيها مع ودائع الأفراد، بما فيها الودائع التي قد يظهر أي تدقيق جدي أنها غير مشروعة.   

وفيما كان هذا الرقم يتطابق عند التوافق عليه في اللجان المشتركة مع المبلغ الذي حدده سابقا تعميم 158 الصادر عن مصرف لبنان (علما أن نصفه كان يسدد على أساس مبلغ 12 ألف ليرة لبنانية)، فإنه بات اليوم يشكل ضعف المبلغ الممكن سحبه بموجب تعديل التعميم الوسيط للمصارف رقم 674 الحاصل في 5/7/2023 ويخشى تاليا أن يتم تخفيض هذا المبلغ في مناقشات الهيئة العامة مما يفقد المودعين حقهم الوحيد بموجب هذا المشروع.

مقابل هذا الحق الذي يبقى بالحدّ الأدنى، نصّ الاقتراح على أنه “يُعلّق تنفيذ جميع الأحكام والقرارات القابلة للتنفيذ في لبنان والخارج والتي صدرت قبل صدور هذا القانون والتي لم تنفّذ بعد وتلك التي ستصدر بعد دخوله حيّز التنفيذ والمتعلّقة بمطالبة أو بتدابير مخالفة لأحكامه، يبقى هذا التعليق ساريا لغاية انتهاء مهلة تطبيق هذا القانون”. ومؤدّى هذه المادة في حال إقرارها إفراغ القرارات القضائية الصادرة عن المحاكم في الداخل أو الخارج من قوتها التنفيذية حتى ولو كانت مبرمة طوال مدة القانون التي تصل إلى سنة قابلة للتجديد، فضلا عن تعطيل دعاوى الإفلاس ضدها. وعليه، ستستفيد المصارف من جرّاء هذه المادة في حال إقرارها، للتهرّب من تنفيذ القرارات والأحكام القضائية الصادرة بحقّها.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ النسخ السابقة للكابيتال كونترول كانت تنصّ على أنّ مفاعيله تسري على الدعاوى التي لم يصدر فيها أحكام مُبرمة بعد. وقد تطوّرت هذه الصيغة نحو استبعاد تقييد الدعاوى مكتفية بتعليق مفاعيل أيّ أحكام أو قرارات قد تصدر بنتيجتها، ويُرجّح أن يكون تمّ ذلك بناء على استشارات هدفت إلى تحصين قابلية النص للتطبيق في الخارج من دون اعتباره غير دستوريّ.

ومن شأن ذلك أن يريح المصارف ويجنّبها أي تنفيذ على موجوداتها، وأن يمنع المودعين تبعا لذلك من تحصيل أيّ من أموالهم بما يتعدّى ما يجيزه القانون نفسه. وإذ يُستبعد أن تؤدّي هذه المادة بحدّ ذاتها إلى إسقاط الحجوزات الاحتياطية على المصارف أو على مدرائها سندا للمادة 111 من قانون الموجبات والعقود (التي تجيز للدائن … أن يعمد إلى الحجز الاحتياطي حين يجد من الأسباب الصحيحة ما يحمله على الخوف من عدم ملاءة المديون أو من إفلاسه أو من هربه)، يبقى أن مشروع القانون لم يتضمّن أي ضمانة لمنع المصارف من تهريب ممتلكاتها (من عقارات وأسهم وغيرها) إضراراً بالدائنين وذلك خلافا للمنطق الذي يوجب بالحدّ الأدنى تجميد التصرّف بموجودات المصارف في الفترات التي يتمّ فيها تجميد مسؤولياتها. 

خلاصة:

يتبدّى إذ ذاك أنّ المشروع المعدّل سيكون له في أحسن الأحوال مفعول محدود جدا على حقوق المودعين بالنسبة إلى ما أقرته لهم ممارسات المصارف بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة. لا بل أكثر من ذلك، فهو لن يكون له أيّ مفعول لتخفيف العجز في ميزان المدفوعات والميزان التجاري الذي تمتدّ أضراره إلى المجتمع برمّته وليس فقط إلى المودعين، حيث لم يأتِ المشروع على ذكر الأموال التي تخرج بشكل مُطّرد من البلاد جرّاء عمليات الاستيراد وغيرها. إذ أن جلّ ما سيُغيّره هذا المشروع في حال إقراره هو تحرير المصارف العاجزة عن الإيفاء بالتزاماتها من أي مسؤولية تجاه المودعين لديها، بما يتعدّى دفع المبالغ الزهيدة المشار إليها أعلاه، من دون أن يقترن بأيّ حماية لمنعها من تهريب أموالها وموجوداتها، أو لاسترجاع ما هرّبته أصل. وبذلك، وإذ ينحاز مشروع القانون إلى المصارف مسهّلا عليها تهريب أموالها بغياب أي قانون لإعادة هيكلتها، فإنّ من شأن أيّ تساهل مماثل أن يعزّز مواقف المطالبين بتحميل الدولة مسؤولية تسديد الودائع في ظلّ غياب أي مسؤول آخر. 

للاطّلاع على مشروع القانون

انشر المقال



متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، البرلمان ، مصارف ، إقتراح قانون ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني