القمّة الفرانكوفونية بجربة: مسرح للرسائل السياسية؟


2022-11-30    |   

القمّة الفرانكوفونية بجربة: مسرح للرسائل السياسية؟

فور انتهاء أشغال الدورة الثامنة من منتدى طوكيو للتنمية بالعاصمة التونسية، سارعت رئيسة الحكومة التونسية “نجلاء بودن” الخطى إلى باريس للمشاركة كضيفة شرف في ملتقى رواد الأعمال الذي نظمه مجمع مؤسسات فرنسا (MEDEF) بين 29 و31 أوت الماضي. كان محور هذا اللقاء كما أُعلن عنه حينها تطوير التعاون الاقتصادي بين الشركات الفرنسية والشركات التونسية، غير أن رئيسة الحكومة فاجأت الجميع بإعلانها من هناك، وليس من هنا، عن تأكيد استضافة جزيرة جربة لقمة منظمة الفرانكوفونية، بعدما كان تمّ تأجيل انعقادها مرتين سابقا وحامت شكوك حول تأجيل جديد بسبب السياق السياسي في تونس. لم يفُت رئيسة الحكومة في خطابها الذي ألقته بفرنسية سلسة ومُعبّرة على عكس المعتاد منها في خطاباتها الرسمية الشحيحة بالعربية، الاستعانة برمزية الجزيرة الميثولوجية لإضفاء نوع من الشاعرية على الخبر، مُستحضرة إلياذة الشاعر الإغريقي “هوميروس” و بطلها “أوليس” الذي سحرته ألحان عرائس البحر الحالمة في جزيرة جربة حتى كاد أن ينسى ما قد أتى من أجله. عبّرت رئيسة الحكومة من دون أن تدري عن عقل الدولة العميق، عبر استحضار نداءات متخيّلة من عالم الأساطير تحلّ محل نداءات حقيقية على ساحل البحر المقابل. فقد بحّت حناجر أمهات المهاجرين الغرقى في شواطئ جرجيس المجاورة من مخاطبة مسؤولين صُمّت آذانهم عن الواقع وتناسته، وعلقت هنالك مطالب كشف الحقيقة أمام الجسر المؤدّي إلى الجزيرة، عند حواجز أمنيّة قد سطّرت حدودا بين عالمين متناقضين، أحدهما يلخّص مرارة الواقع في حين ينشد الثاني لذّة الحلم.

السياق العامّ للقمّة

تمّت برمجة القمة الفرانكوفونية سابقا في سنة 2020، ليتمّ تأجيلها مرّتين خلال العامين الماضيين، الأولى بسبب ظروف وباء كورونا والثانية بسبب ما خلّفته إجراءات 25 جويلية 2021 من احترازات حول مستقبل المسار السياسي في تونس لدى العديد من الدول، ومن بينها أعضاء في هذه المنظمة. وظلّ مصير هذه القمّة بين شدّ وجذب، حتى أنّه قد اقتُرح إلغاؤها أو تنظيمها عبر تقنية الفيديو. وبادرت كندا في محاولة منها لاستغلال الموقف إلى عرض فكرة تنظيم هذه القمّة على أرضها قبل أن يتم رسميا الاتفاق على موعدها يومي 19 و20 نوفمبر 2022 على أرض جزيرة جربة. جاء الحدث ضمن سياقات دوليّة معقّدة، بين تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية الإقتصاديّة على العالم، والتي كانت بالمناسبة أحد المحاور الرئيسيّة التي تم تداولها ضمن هذه الدورة، إضافة إلى التحديات المطروحة على عدد من الدول الأعضاء. لم يفتْ الرئيس الفرنسي في هذه المناسبة الإشارة إلى تخوفات بلاده من النفوذ الروسي المتنامي في عدد من الدول الفرانكوفونية وذكر منها بالإسم جمهوريّة إفريقيا الوسطى، التي تُعتبر اليوم إحدى أكثر البلدان التي يتمدّد فيها نفوذ مرتزقة “فاغنر” في مجالات السياسة والإعلام ناهيك عن المجال الاقتصاديّ الذي بدأت عديد الشركات الروسية مثل “لوباي انفست” و”ميداس ريسورز” بالتحكم في جزء من مقدراته عبر الاستثمار في استغلال المناجم. 

ضمن هذا السياق كذلك، لم تتم دعوة كلّ من مالي وبوركينا فاسو وغينيا لحضور هذه الدورة. وقع تبرير هذه الخطوة بحدوث انقلابات عسكريّة في هذه الدّول، قد أضرّت بالمسار الديمقراطيّ داخلها، وهي حجّة تبدو غير مقنعة تماما قياسا على حدوث منعرجات مشابهة قد مسّت بالنظام الديمقراطي لدول أخرى منخرطة في المنظمة أو تحمل صفة المراقب بها، ومن بينها تونس. أحد الأسباب الحقيقية التي يمكن قراءتها وراء السطور، خروج هذه الدول عن المظلّة الفرنسية سياسيّا وأمنيا، مع إنهاء فرنسا لعملية “برخان” في مالي وتولّي النخبة العسكرية الحاكمة في البلاد بناء تحالف عسكري واستراتيجي مع روسيا وانتهاج القوى الحاكمة في البلدين الآخرين نفس الطريق.

جاءت هذه القمّة إذن، في زمن تراجع الفرنسيّة كلغة للتواصل داخل دول الفرانكوفونيّة نفسها، وتصاعد الأصوات المنددة بالنفوذ الفرنسي داخل القارّة الإفريقية. اعتبرت فرنسا على لسان رئيسها مثل هذه الدّعوات نتيجة لمجهود حملات إعلامية موجهة ضدها من الخصم الروسي أساسا، وأن زمن الاستعمار قد ولّى وانقضى ليحلّ محلّه فضاء جديد للتكامل والتعاون. مثل هذا الخطاب لم يكُن مقنعا لدى العديد من المشاركين في هذه الدورة، بل لم يتردّد الرئيس التونسي نفسه في التشكيك فيه حين أكّد أن “الفرانكوفونية ليست من الألفاظ المفضّلة في قاموسه الشخصي”. مثل هذه الانتقادات تُعبّر على مدى التكلّس الذي أصبحت عليه منظمة الفرانكوفونية من الناحية السياسية وعدم إيجاد خطّة حقيقية لتطوير المنظمة بشكل تعدّدي يسمح بإيجاد توازن فعال وديناميكي بين مختلف الأعضاء داخلها وليس استمرارها مجرد أداة سياسية للقوة الناعمة الفرنسية. 

حضور باهت للفضاء المغاربي

في انعكاس واضح لتوتّر العلاقات التونسية-المغربية والعلاقات الفرنسية-المغربيّة كذلك، اكتفت المغرب بتمثيليّة دبلوماسية ضمن الحدود الدنيا في هذه القمّة، تقوده مديرة التعاون والعمل الثقافي بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، والممثلة الشخصية لرئيس الحكومة لدى المنظمة الدولية للفرانكوفونية “نادية الحنوط”. كما لم تُعلن المغرب عن دعم دبلوماسي لانعقاد القمّة في تونس. وغابت الجزائر رسميّا عن الحدث، في تجسيم واضح لسياسة الرئيس الجزائريّ “عبد المجيد تبون” التي تعتبر راديكاليّة إزاء المنظمة الفرانكوفونية مقارنة بـسابقه “عبد العزيز بوتفليقة”. إذ شاركت الجزائر في عهده ضمن دورات المنظمة تحت تسميات متعدّدة ك “ضيف خاص” أو عضو مراقب منذ سنة 2002.

كان قرار عدم المشاركة الجزائريّة في القمّة الأخيرة واضحا جدّا منذ البيان الختامي لقمة جامعة الدول العربية المنعقدة في الجزائر، إذ لم يُشر هذا البيان إلى قمة الفرانكوفونية في تونس في مقابل ذكره لأحداث دبلوماسية أخرى، كما ارتأى الرئيس الجزائري حضور حفل افتتاح كأس العالم في قطر في نفس توقيت انعقاد القمّة. ليس من العسير على المُتابع لتطوّرات العلاقات الجزائريّة الفرنسيّة أن يحلّل أسباب هذا الفتور الدبلوماسي رغم تعدّد اللقاءات الثنائيّة على مستويات عدّة في الآونة الأخيرة (زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر على رأس وفد عالي المستوى ولقاء رئيس الحكومة الجزائرية أيمن بن عبد الرحمان برئيسة الحكومة الفرنسية في الجزائر خلال شهر أكتوبر المنقضي). إذ ما زالت أهم الملفات العالقة بين الجانبين لم تجد طريقها نحو الحلّ. ولعلّ أهمها هنا فشل الطرفين حتى الآن في إبرام اتفاقيات جديدة لزيادة تزويد فرنسا بالغاز الجزائريّ، فضلا عن ملف التأشيرات الذي أضحى وسيلة ابتزاز فرنسية مقنّعة للدول المغاربيّة مقابل ملفّات أخرى من أهمّها ملف الهجرة غير النظاميّة. وهو ما صرّح به الرئيس الفرنسي علنا على هامش القمّة بقوله “إن قرار فرنسا تخفيض عدد التأشيرات الممنوحة للجزائر والمغرب إلى النصف بدأ يؤتي ثماره”.

صكّ البراءة؟

يُعتبر حضور الملف الاقتصادي ضمن هذه القمّة لافتا جدا مُقارنة بالقمم السابقة، إذ شهدت هذه الدورة تواجدا لعدد من المؤسّسات الكبرى داخل الفضاء الفرانكوفوني، حيث سبق أن تمّ إحداث هيكل للتنسيق بين عدد من هذه المؤسسات (عددها 27) في مارس الماضي بتونس تحت مسمّى “تحالف أصحاب المؤسسات الفرانكوفونيين” الناشئ عن تفعيل إعلان باريس المشترك سنة 2021 الهادف لتعزيز الفرانكوفونية الاقتصاديّة. كما سجّل الاستثمار التكنولوجي الرقمي تواجده كعنوان أساسي  لهذه القمّة من خلال شعارها، “التواصل في إطار التنوع: التكنولوجيا الرقمية كرافد للتنمية والتضامن في الفضاء الفرانكوفوني”. ولم يخلُ هذا الشعار من محاولة التوظيف السياسي من رئيسة الحكومة التونسيّة، التي أسقطت نموذج تجربة “الاستشارة الإلكترونيّة” التي تمّ إطلاقها بين شهري جانفي ومارس الماضي واعتبرتها “مساهمة في تعزيز مشاركة الشباب والمرأة بوجه خاصّ في رسم التوجهات السياسية والاجتماعيّة والاقتصاديّة للبلاد” على حدّ قولها.

لا يُخفي خطاب رئيسة الحكومة التونسية وكامل المسار المرافق للقمّة الفرانكوفونية بدءا من الجهود الدبلوماسيّة لتأكيد تنظيم القمّة في تونس هاجسا قائما لدى منظومة الحكم الحاليّة في البحث عن شرعيّة تزكّي خياراتها على المستوى الدولي بعد ما حدث من مطبّات مستمرّة منذ 25 جويلية 2021. وفي مفارقة لافتة جدّا، كان التأكيد على الأطروحات السياديّة حاضرا بقوّة في خطابات رئيس الجمهوريّة مع التنديد الدائم بالتدخلات الأجنبيّة. وليس خفيا أن هذا الخطاب يترافق مع سلوك سياسي مناقض تماما له، إذ أن الرئيس سعيّد يمضي في تنفيذ التوصيات الخارجيّة على المستوى الاقتصاديّ خصوصا وإن لم يعلن عن ذلك، مع ما تبع الخضوع لتلك الإملاءات من ارتدادات في علاقة السلطة بالمجتمع.

لم تشذّ القمة الفرانكوفونية عن سياقات التأثر والتأثير. فقد حاولت الحكومة التونسية إيجاد نافذة من خلالها للبحث عن داعمين لمفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي التي وصلت مؤخرا إلى أشواط متقدمة، في حين تحاول الدول المؤثرة في المنظمة لعب أوراقها بقوّة في المعادلة السياسية الحاليّة. لم تتستر كندا مثلا عن تحفظها على بيان جربة الذي انتهت به أشغال القمة، وامتنع رئيس وزرائها جاستن ترودو عن لقاء الرئيس التونسي. وقد عبّر الوزير الأول لإقليم كيبيك خلال لقائه مع سعيّد عن احترازاته على المسار السياسي. أمّا الرئيس الفرنسي، فقد جدّد نفس الموقف من المسار السياسي الحاليّ عبر “دعوة الرئيس التونسي لدرس إمكانيات التعاون الفرنسي لدعم تونس، بهدف استكمال هذا المسار على المستويين الاقتصادي والسياسي” والإشارة باحتشام إلى واقع الحريات والديمقراطية في البلاد. وبين مختلف هذه المواقف تواصل السلطة رحلة البحث عن صكّ البراءة لمشاريعها السياسية والاقتصادية على الساحة الدوليّة، بالتوازي مع خطاب سيادويّ ضدّ انتقادات الخارج، وخطاب مؤامراتيّ في وجه أزمات الداخل. 

لقراءة المقال باللّغة الانكليزيّة، إضغط/ي هنا

انشر المقال

متوفر من خلال:

منظمات دولية ، مقالات ، تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني