القصر في مواجهة القضاء … والديمقراطية في تونس


2022-02-09    |   

القصر في مواجهة القضاء … والديمقراطية في تونس

قبل ساعة من بداية ليلة 06-02-2022، نشرتْ صفحة التواصل الاجتماعي فايسبوك لرئاسة الجمهورية شريط فيديو عن الكلمة التي ألقاها رئيس الجمهورية قيس سعيّد في اجتماعه بوزير الداخلية توفيق شرف الدين وقادة الأجهزة الأمنية. وبعدما أعلن سعيّد قرارا بالتراجع عما سبق من إجراءات منع تظاهر تبعا لما اعتبره تراجعا لمؤشرات العدوى بفيروس الكورونا، صرّح بالحرف الواحد: “من حقّي أن أطالب بحلّ مجلس القضاء ومن حقكم أن تتظاهروا لتطالبوا بحلّ ذاك المجلس”. وما أن ثبّت بقوله حقّه الذي لا أساس دستوري أو قانوني له بحلّ المجلس، سارع إلى الاستجابة لما افترض أنه سيكون شعارا لتظاهرة لم تكن حصلت بعد بتوجهه لأعضاء المجلس الأعلى للقضاء: “اعتبروا مجلسكم من الماضي..”. 

وعليه، استغلّ الرئيس سعيّد في تلك الليلة الدعوة للتظاهر بمناسبة الذكرى التاسعة لاغتيال السياسي اليساري شكري بلعيد والتي صدرت عن طيف كبير من المجتمع المدني والسياسي التونسي ليدّعي أن الشّعب يريد حلّ مجلس القضاء. وإذ خلتْ المظاهرة الرئيسية  من أي مطلب يتّصل بمجلس القضاء خلافا لما افترضه الرئيس، توجّهت مجموعة من عشرات المتظاهرين يحملون لافتات تؤكد أنهم من المساندين لمشروعه في الحكم إلى مقرّ مجلس القضاء وسط العاصمة ليرفعوا هنالك الشعارات التي يريد أن يسمعها إثباتا بأن الشعب يريد ما يريد رئيسه. 

إعلان “حلّ المجلس” امتداد لنهج سلطة الاستثناء

هكذا إذًا تمّ الإعلان عن حلّ مجلس القضاء في تصريح رئاسي أعقبتْه محاصرة أمنية لمقرّه مع منع موظفيه وأعضائه من الدخول إليه، وهي الممارسة التي يجب التوقّف عندها ليس فقط بفعل أبعادها الخطيرة ولكن أيضا بالنظر إلى ما تعكسه من نهج دأبت سلطة الاستثناء عليه. 

صناعة الأمر الواقع من دون اصطدام مع الخارج:

يصعب على المتتبع لخطاب الرئيس سعيد حسم موقف فيما تعلّق بالدستور. فهو يقول في بعض كلامه أنّه علّق العمل به بالكامل ولم يبقَ منه إلا باب الحقوق والحريات ولكنه يعود في بعضه الاخر للادعاء بكونه لا يخرق الدستور القائم ويتّخذ كل قراراته وفق حكمه. 

ذات الالتباس في الصورة يعود مع مجلس نواب الشعب. فهو يتحدث في جانب من خطابه عن كونه جمّد عمله لأجل زمني فيما يقول في بعضه الآخر أنه من الماضي. 

وذات الصورة في غموض تفاصيلها تتكرر أيضا  عند مستوى هيئة مكافحة الفساد. فهو يغلق أبوابها في وجه المتعاملين معها من عموم الخاضعين لواجب التصريح بالممتلكات ولكنه في المقابل يلزم وزراءه قبل مباشرة مهامهم بالتوجّه إليها لتقديم تصاريحهم، في طقس بدا كما لو أنه امتياز لهم دون غيرهم ويتمثل في فتح مؤقت لمقرات لالتقاط صور وتصريح يعقبه غلق من جديد للأبواب لا يعلم له سبب ولا هدف.

هذه الصورة التي تتكرّر والتي قد يظنّ البعض أنها عبثية هي غير ذلك واقعا متى فهمنا أن السياسة في تصور من يحكم تونس اليوم باتت تخضع لثنائية المخاطب والتي فيها تمييز واضح بين الداخل والخارج. فالرئيس الذي يحرص على أن يكون صارما وقاسيا في هدم ما يظن أنها مؤسسات قد تحدّ من سلطته، يلتزم في خطابه مع ممثلي الدول الأجنبية المانحة بارتداء معطف الديموقراطية ويحرص دوما على أن يؤكد لهم أنه لم ولن ينزع هذا المعطف مقدّما في كل ذلك أدلّة فساد على مؤسسات جمّدها ولكنه لم يلغِها ولا زال يتشاور لإيجاد بديل لها.

يكون في هذا الإطار فعل سعيّد مع مجلس القضاء تكرارا لوصفة أجادها ونجحت كلّ مرة قبل هذا في فرض وضع يده على السلطة دون معارضة ذات شأن. فقد صنع من خلال قراراته فراغا واقعيا كشفت صفحات التواصل الاجتماعي التي تؤيّده أنه سيكون مقدمة لإعلانه إدارة مؤقتة للقضاء يمارسها تحت غطاء وزيرة العدل ويؤثث مشهدها بقضاة يختارهم. .

اتهامات جاهزة بالفساد: 

كرر سعيد في تبريره حلّ مجلس القضاء اتهامات سبق أن وجّهها لنواب الشعب فقال أن اعضاءه يبيعون الخطط الوظيفية للقضاة بمقابل مالي ونسب لهم الفساد واعتبرهم لكل هذا خطرا داهما على الدولة مكانهم قفص الاتّهام. طبعا يصعب تصديق فكرة قضاة يدفعون رشاوى لقضاة ومحامين مقابل نقل وترقيات تسند لهم خصوصا وأن القانون التونسي يفرض الترقية الآلية حقا لكل قاض ويخضع إدارة المسار المهني للقضاة لشروط موضوعية تراقب احترامها المحكمة الإدارية. بخلاف ذلك، يعكس تبرّم الرئيس سعيّد المنتظم حيال عدم استجابة القضاة والنيابات العامة لمطالبه بملاحقة خصومه تبرّمه من الضمانات القانونية المتمثلة في صلاحيات المجلس الأعلى للقضاء “المنتخب” في غالبية أعضائه والتي تمنعه من تعيين القضاة الموالين له في المراكز القضائية الهامة، تمهيدا لصناعة قضاء جزائي على مقاس حاكم تونس.

وأكثر ما يخشى منه هو أن يكُون استعجاله في إعلان حلّ المجلس قد هدف إلى استدراك تنامي المعارضة ضده داخل القضاء وخارجه، سعيا إلى احتوائها وربما ردعها من خلال إعادة تكوين القضاء وفق الصورة التي يريدها عند الاقتضاء. 

مواجهة واسعة لقرار حلّ مجلس القضاء 

لم يلقَ سعيّد معارضة قوية عند اتخاذ قراره بإغلاق البرلمان، بفعل ما ظهر حينها من مساندة له من المجتمع المدني والسياسي المحلي غداة 25 جويلية. الأمر يبدو مختلفا غداة الإعلان عن حلّ مجلس القضاء، أقله حسبما توحي به المواقف الرافضة له والتي لم يتأخّر الإعلان عنها من داخل القضاء أو من خارجه، ومحليا كما دوليا. 

وإذ تمثلت مقاومة القضاء في الأشهر الماضية لسلطة الاستثناء في رفض القاضي المهني الانسجام في قضايا عدة مع مطالب سعيد في ردع خصومه السياسيين، تغير المشهد ابتداء من  06 فيفري 2022 مع عودة قضاة الرأي في إطار الهياكل القضائية لقيادة معركة بات طيف واسع من التونسيين يعتبرونها مربّع الدفاع الأخير عن الديموقراطية أو ما تبقّى منها.

وعليه، لم يخضع عموم القضاة لما أمرهم به الرئيس بلزوم الصمت. فباستثناء نقابة القضاة التونسيين التي أبدت تجاوبا مع ما أسمته إصلاح الرئيس، أصدرت أبرز الهياكل القضائية أي جمعية القضاة الشبان واتحاد القضاة الإداريين وجمعية القاضيات التونسيات بيانات تشجب الاعتداء على مجلس القضاء وتؤكد إصرارها على الدفاع عن استقلاليته ومكتسباته. وقد تميزت جمعية القضاة التونسيين في هذا السياق بأن دعتْ لتعليق العمل يومي 09 و10 فيفري 2022 بكل المحاكم. كما دعتْ القضاة والمحامين وكل القوى الحية لوقفة احتجاجية يوم 10 فيفري أمام مقر المجلس الأعلى للقضاء بهدف حماية مجلس القضاء من محاولات الإخضاع التي يباشرها الرئيس. 

كما كان القضاة حاضرين في وسائل الإعلام الدولية والإذاعات الخاصة والعمومية حيث ناقشوا بصورة لافتة حجج الرئيس وادعاءاته والمخاطر التي قد تنشأ عن قراراته على صعيد الحريات العامة والديمقراطية. وعليه، كشفتْ معركة القضاء أنّ ما تمّ من إصلاحات في القضاء بعد الثورة أسهم في تعزيز التيار الاستقلالي وبخاصة لدى فئة القضاة الشباب. 

في الاتجاه نفسه، ذهبت الأحزاب السياسية وجمعيات المجتمع المدني الوازنة في شجب استهداف الرئيس سعيّد لإحدى ركائز ضمان استقلالية القضاء وفي مساندة القضاة في دفاعهم عن تونس الديموقراطية. ولم يستثنَ من ذلك إلا عددٌ قليل من الأحزاب السياسيّة التي عُرفت بمساندة الرئيس بصورة مطلقة.  

وذات الصرامة في التعاطي لم تغب هذه المرة عن الخارج الذي بدا مندهشا من خطوة الرئيس من دون أن يخفي خشيته من منتهياتها ورفضه لها. 

خلاصة

تبدو مواجهة إعلان حل المجلس أول مواجهة وازنة لتفرّد سعيّد بالسلطة. كما أنّها تُعتبر نقلة نوعية هامة في المقاومة الشعبية لمشروعه السياسي لما قد تمثله وقفتها الاحتجاجية من فرصة لتجميع القوى الديموقراطية بعيدا عن التجاذب السياسي الذي منعها من التوحد قبلها. فلننتظر ونتابع مجريات  معركة فرضت أهمية رهاناتها ألا يكون فيها مجال للبقاء على الحياد .


1  ورد في البيان الذي صدر بتاريخ 07 -02-2022 “ن الهيئة المديرة لجمعية القاضيات التونسيات ، و متابعة منها لٱخر المستجدات على الساحة القضائية لسيما خطاب رئيس الجمهورية بمقر وزارة الداخلية يوم 5 و 6 فيفري 2022 و ما تضمنه من خطاب عنيف ضد القضاة و التحريض ضدهم و استباحة دمائهم و تجييش الشعب ضدهم و ضد المجلس الأعلى للقضاء و دعوته المباشرة للتظاهر أمامه و التصريح بحله و أنه صار في عداد الماضي إذ : تذكر بمبدأ الفصل بين السلط الثلاث ( التشريعية و القضائية و التنفيذية ) و تتمسك بدولة القانون و المؤسسات و بأن حالة الظروف الإستثنائية لا يمكن بأية حال أن تبرر المساس بالحقوق و الحريات و القضاء هو الضامن الوحيد لها طبق الدستور و تؤكد أن القضاء سلطة و ليس وظيفة وهو سلطة مستقلة لا سلطان عليها سوى القانون و أن كل مساس بإستقلالية السلطة القضائية هو إنكار للمبادىء الدستورية و للمعايير الدولية
و إذ تحذر من مثل تلك الخطابات التي دأبت عليها السلطة التنفيذية و تعتبرها من قبيل التدخل في الشأن القضائي ومحاولة لتركيع القضاة و إستضعاف للسلطة القضائية خاصة وأن الخطاب الأخير تم بمقر وزارة الداخلية و ما لذلك من رمزية الترهيب و تؤكد أنها مع محاسبة الفساد و كل من أخل بواجبه و حاد عن نزاهته و إستقلاليته ، فإنها :
1-تتمسك بإستقلالية السلطة القضائية و استقلال القضاة و تتمسك بالمجلس الأعلى للقضاء كمؤسسة دستورية من مؤسسات الدولة و ركائزها 
2-تحذر من عواقب ضرب مؤسسات الدولة بماهي دعامة للنظام الديمقراطي و تعتبر ذلك تقويضا له و رجوعا إلى الوراء بتجميع كافة السلطات و الصلاحيات بيد السلطة التنفيذية
3-تشدد على أن المجلس الأعلى للقضاء مكسب دستوري لا يمكن إصلاحه بمراسيم مخالفة لروح الدستور و المواثيق و المعاهدات الدولية المصادق عليها من قبل الدولة التونسية 
4-ترفض إخضاع المسار الوظيفي و التأديبي للقضاة لإرادة منفردة لما في ذلك من عواقب و تداعيات خطيرة على مسار القضاة من جهة و على مسار العدالة برمتها من جهة اخرى 
5- تعبر عن إستعدادها لإتخاذ كل القرارات و الانخراط في شتى أشكال النضالات المتاحة لضمان استقلال القضاء و القضاة و حماية حرمة المحاكم 
انشر المقال

متوفر من خلال:

استقلال القضاء ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني