العقوبات الأميركية على الأخوين رحمة: أو قضية سوناطراك من زاوية جديدة

،
2023-04-11    |   

العقوبات الأميركية على الأخوين رحمة: أو قضية سوناطراك من زاوية جديدة
رسم غابرييلا لطيف

أدرج مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية أوفاك OFAC في تاريخ 4/4/2023 الأخوين ريمون وتادي زينا رحمة على لائحة العقوبات الأميركية. وقد اتّخذ مكتب أوفاك هذا الإجراء بموجب الأمر التنفيذي رقم 13441 الذي يتيح “فرض عقوبات على من يحدّد أنّهم ارتكبوا أو ثمة مخاطرة عالية بأن يرتكبوا أعمالا، بما في ذلك أعمال عنف، ترمي أو تفضي إلى تقويض العمليات أو المؤسسات الديمقراطية في لبنان، مما يساهم في انهيار حكم القانون في البلاد”. تشمل العقوبات المفروضة على الشقيقين رحمة بحسب البيان الصحفيّ تجميد كافة الممتلكات والمصالح في الممتلكات التابعة لهما وأيّ كيانات يمتلكانها بشكل مباشر أو غير مباشر بنسبة 50% أو أكثر، سواء بشكل فردي أو بالاشتراك مع أشخاص محظورين آخرين، والواقعة في الولايات المتحدة أو الخاضعة لملكية أو سيطرة مواطنين أمريكيين، ويضع موجب الإبلاغ عنها إلى مكتب أوفاك.

كما تحظر تنظيمات مكتب أوفاك غالبا كافة تعاملات المواطنين الأمريكيين أو التعاملات داخل الولايات المتحدة بما في ذلك العمليّات التي تمرّ عبر الولايات المتّحدة إذا كانت تشتمل على أيّ ممتلكات أو مصالح للأخوين رحمة. أخيرا يشمل الحظر القيام بأيّ مساهمة بأموال أو سلع أو خدمات لهما أو لصالحهما أو تلقّي أيّ مساهمة مماثلة. يستتبع ذلك عمليّا إخراج الأخوين رحمة وشركاتهما من النظام المصرفي والمالي كليّا والتأثير على أعمالهما.

واللافت أنه منذ الإعلان عن فرض العقوبات بحقّ الشقيقيْن رحمة، تعاملت وسائل الإعلام التقليديّة والقوى السياسيّة الحاكمة عمومًا مع القرار على أنّه ذات دوافع سياسيّة بتدخّل خارجيّ و/أو على أنّه طارئ بدأت فصوله في لحظة صدوره. إلا أنه بمعزل عن الطابع أو التوقيت أو الاستخدام السياسيّ لهذه القضية (وكلها أمور لا يمكن استبعادها)، فإنّه يبقى من المهمّ التذكير بأن القرار مبنيّ على أدلة وشبهات قوية كانت تناولتها تحقيقات قضائية منذ أكثر من ثلاث سنوات وذلك في إطار قضية الفيول المغشوش الشهيرة. كما يجدر التنبيه بشكل خاصّ أنّه لو تسنّى للهيئات القضائية وغير القضائية اللبنانية المختصة أن تعمل وفق القانون من دون عراقيل قانونية أو فعلية أو تدخّلات أو صرف نفوذ في لبنان، لكان أمكن أن يؤدي تطبيق القوانين اللبنانية إلى جلاء الحقائق فيها منذ سنوات مع ما قد يستتبع ذلك من نتائج في اتجاه أو آخر. بمعنى أنه لو تسنى حصول ذلك لأمكن تجميد حسابات الشقيقين وربما مصادرة جميع أموالهما فضلا عن الحكم عليهما وحماية مصالح الدولة في حال ثبوت الشبهات، أو على العكس من ذلك تبرئة ساحتهما تبرئة تامّة بما يمنع  استغلال وضعيتهما أميركيا. وهذا ما سنحاول التذكير به على طول هذا المقال، مستعينين بالملف الذي كانت المفكرة القانونية نشرته سابقا بشأن قضية سوناطراك.

كيف تمّت عرقلة عمل العدالة في قضية سوناطراك؟  

رغم التحقيقات الهامّة التي أنجزتْها النائبة العامة في جبل لبنان غادة عون في هذه القضية والتي دفعتْها إلى الادّعاء على تادي رحمة بصفته رئيس مجلس إدارة شركة زد آر إنرجي غروب هولدنغ بجرائم عدة منها الرشوة والغشّ وتبييض الأموال إلى جانب أشخاص كثيرين، فإنّ النيابة العامة اصطدمتْ بعراقيل عدة قانونية وواقعية منعتْها من استكمال ملفّ التحقيقات. هذا مع العلم أن القاضية عون وضعتْ يدها على الملفّ بعدما كان النائب العام المالي علي إبراهيم حفظ الملفّ تحت ذريعة عدم تكبيد الخزينة أيّ خسارة. من أهم هذه العراقيل الآتية:

أولا، رفض أشخاص عدة من بينهم المدير العام لمنشآت النفط سركيس حليس وتادي رحمة المثول أمام النيابة العامّة، وذلك بفعل تمتّعهما بحماية الوزير السّابق سليمان فرنجية وفق ما أعلنه في مؤتمره الصحافي بتاريخ 11/5/2020. وبنتيجة ذلك، اضطرّت النيابة العامّة ومن بعدها قاضي التحقيق الأول والهيْئة الاتّهامية على اتخاذ قراراتهم من دون استجوابهم. وكان فرنجية أعلن في مؤتمره الصحافي أن حليس ورحمة لن يمثلا أمام قضاة النيابة العامة والتحقيق نظرا لمآخذه على أداء هؤلاء القضاة (وطبعا لا حاجة هنا لمزيد من التعليق لمعرفة مدى التدخل الحاصل بنتيجة ذلك). 

ثانيا، عجز النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان من الحصول على المعلومات المصرفيّة المتّصلة بهما، وذلك بفعل رفض هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان هذا الطلب. وهذا ما أعلنتْ عنه القاضية عون من خلال وسائل الإعلام معتبرة أن رفض طلبها في هذا الخصوص إنما يشكل عرقلة كبيرة أمام مكافحة الفساد (LBC في 18/11/2021). وللعلم، كان قانون السريّة المصرفيّة يحصر آنذاك صلاحية رفع السرية بهذه الهيئة التي يرأسها رياض سلامة وتضمّ إليه النائب العام المالي الذي كان حفظ الملفّ وفقط في حالات تبييض الأموال مانعا القضاء من طلب أي معلومات مصرفية مباشرة، وفقط في الحالات التي يشتبه فيها بحصول تبييض الأموال. ويفهم من رفض الهيئة تزويد النيابة بالمعلومات هو أنها اعتبرت أن حق تقدير حصول تبييض أموال أم لا يعود لها وليس للنيابة العامة. 

ثالثا، الابتزاز الذي حصل من قبل شركة سوناطراك التي تذرّعت بالتّحقيقات الجارية للامتناع عن تسليم الفيول، مما أدّى عمليا إلى تحميل الهيئات القضائية مسؤولية العتمة الشاملة في لبنان ودفع قاضي التحقيق نقولا منصور إلى تسريع إنهاء التحقيقات وإصدار قراره الظني بإخراج شركة سوناطراك من لائحة الأشخاص الذين ظنّ بهم في هذه القضية.

وقد تكلّلت هذه العراقيل والنقص بالمعلومات في تراجع فادح من قبل الهيئة الاتهامية عن اتهامات تبييض الأموال التي كانت وجّهتْ لتادي رحمة والشركة المملوكة منه ومن شقيقه  شركة زد آر إنرجي غروب هولدنغ رغم امتناعه الكلّي عن الحضور أمام القضاء أو الاطّلاع على حساباته المصرفية لمعرفة كيفية عمل الأشخاص المنخرطين في قضية الفيول المغشوش أو المستفيدين منها. وعليه، وفي حين يتبدى من الوثائق القضائية أنّ القاضية عون ادّعت ضدّهما بجرم تبييض الأموال وأن قاضي التحقيق منصور ظنّ بهما بذلك، فإن الهيئة الاتهامية (غرفة القاضي ربيع حسامي) أسقطت في تاريخ 8/12/2020 عنهما تهمة تبييض الأموال بحجة أنه لا ينهض في الملف حصول إخفاء مصدر أموال غير مشروعة أو إعطاء تبرير كاذب لها وأنه بأية حال لا يجوز تحميل تادي رحمة وشركة الهولدنغ التي يديرها ما تقوم به الشركة التابعة للمجموعة والتي عمدت إلى استيراد الفيول المغشوش وهي شركة ZR Energy DMCC المسجلة في دبي. ويذكّر هنا أنّ قرار هذه الهيئة قد صدر بالأكثريّة وليس بالإجماع، حيث سطّرت القاضية أنياس معتوق مخالفة هامّة ومعبّرة جدا. واللافت أن قرار العقوبات جاء من خلال العلل والحجج التي تضمنها ليثني على مضمون الرأي المخالف الذي كانت القاضية معتوق أثارته في مخالفتها على قرار الهيئة الاتهامية. ومن أهم الحجج التي وردت في هذا الرأي المخالف، الآتية:

  • أنّ الغش المستمرّ الحاصل في مواصفات الفيول الذي كان يبيعه ذوق (مدير الشركة المملوكة من الشركة التي يديرها تادي رحمة) للدولة عبر تعديل نتائج عيّنات ومشتقّات النفط والأرباح الناتجة عن ذلك يجعل من الأموال الناتجة عن تنفيذ العقود أموالاً غير مشروعة ناتجة عن الفساد وعن تقليد السلع والغشّ في الإتجار بها؛
  • أنّ تواري ذوق عن الأنظار وقيامه، بالتنسيق مع رحمة، بإخفاء جميع أجهزة الحواسيب التي تتضمّن كلّ بيانات الشركة تشكّل مجتمعة أدلّة كافية لتبيان نيّته إخفاء عدم مشروعيّة الأموال والمصدر الحقيقي للأموال بما يحقّق جرم تبييض الأموال؛
  • أنّ التداخل في إدارة الشركتين ثابت. وقد استندتْ هنا إلى معطيات عدّة، أهمّها اعتراف سكرتيرة ذوق التي أكّدت أنّها كانت تعمل على تنظيم لوائح جداول “الرشاوى” مع مساعِدة رحمة، وتسجيل موظّفي شركة ZR Energy DMCC كموظّفين في الهولدنغ (وهو ما أخذت به OFAC) وأخيرا التعاون بين الشركتين للحصول على تسهيلات مصرفية بدليل الكفالة الشخصية من رحمة للتسهيلات الممنوحة لشركة ZR Energy DMCC فضلاً عن التفويض المعطى من الذوق لرحمة.

وقد تعمّدنا هنا الإسهاب في هذه التفاصيل لإثبات أنّه كان بإمكان الهيئة الاتّهامية أن توجّه تهم تبييض أموال وأن تعتبر التداخل حاصلاً بين الشركتين وبخاصة أنها قضاء تحقيق وأنها حُرمت من الاطلاع على الحسابات المصرفية، بما يعني أنّ هذه الهيئة هدفتْ في الأساس إلى تقليص المسؤوليّات الجزائية عن الأشخاص المدّعى عليهم، وبخاصّة عن رحمة الذي أمكنه هنا ليس فقط الاستفادة من السرّيّة المصرفية، بل أيضاً ممّا يسمّى ستار الشركات المنشأة.

في الاتجّاه نفسه، ذهبت الهيئة الاتّهامية أبعد من ذلك في التخفيف من الاتّهامات الموجَّهة إلى رحمة، حيث منعتْ المحاكمة عنه بجرائم التزوير والاحتيال على الدولة وغشّها وتبييض الأموال لتكتفي بالادّعاء عليه بجرم الرشوة فقط، وهو ما خالفته أيضاً القاضية معتوق.

عليه، وفيما كان يُؤمل أن تدعم الهيئة الاتّهامية جهود النيابة العامّة في إرغام هيئة التحقيق الخاصّة على رفع السرّيّة المصرفية عن حسابات هؤلاء، أتتْ على العكس من ذلك تماماً لتحصّن قرار هذه الأخيرة ومعه شبكات المصالح التي يصعب كشفها من دون رفع هذه السرّيّة. وما فاقم من أضرار هذا القرار هو أنّ من شأن إسقاط تهمة تبييض الأموال أن تقلّل من حظوظ استيفاء لبنان حقوقه، ليس فقط بفعل أحكام السرية المصرفية، ولكن أيضا على أساس أن  التعاون في مجال مكافحة تبييض الأموال يشكل الوسيلة الأسرع لاستعادة الأفراد والدول حقوقَها وهو ما لا يتحقّق بسهولة في حالة جرائم أخرى.

وللأسف، ورغم ضعف الحجج التي ساقتها الهيئة الاتهامية وخطورة مآلها، فإن محكمة التمييز انتهت إلى ردّ النقض المقدم ضد قرارها الصادر كما سبق ذكره بالأكثرية.

قرار OFAC يعيد خلط الأوراق بالأخصّ قضائيا 

جاء في بيان الإعلان عن العقوبات الأميركيّة على الأخوين رحمة: “استغل ريمون زينة رحمة وشقيقه تيدي زينة رحمة شركات خاضعة لسيطرتهما – في لبنان والخارج – للفوز بعدة عقود حكومية من خلال عملية مناقصة عامة شديدة الغموض. وحاز الأخوان رحمة في العام 2017 على عقد من الباطن لاستيراد الوقود لاستخدام شركة كهرباء لبنان، وهي شركة الطاقة الوطنية اللبنانية المملوكة للدولة، واستيراد الوقود بالنيابة عن وزارة الطاقة والمياه اللبنانية من خلال عملية مناقصة تشير التقارير على نطاق واسع إلى أنها فاسدة. استورد الأخوان رحمة أثناء تعاقدهما وقودا ملوثا، مما ألحق أضرارا كبيرة بمحطات توليد الكهرباء اللبنانية. وقام الأخوان رحمة من خلال شركتهما “زيد آر إينرجي المسجلة في مركز دبي للسلع المتعددة” (ZR Energy DMCC) والتي تتخذ من الإمارات العربية المتحدة مقرا لها، بتسليم منتج الوقود المتلاعب به إلى حد خطير من خلال مزجه مع أنواع أخرى من الوقود. أثرى الأخوان رحمة نفسيهما بهذا المخطط، ولكن تسبب ذلك بمعاناة للشعب اللبناني وزاد تدهور البنى التحتية في البلاد وراحت تتعطل محطات الكهرباء في مختلف أنحاء لبنان بشكل متزايد وزاد الانقطاع اليومي للكهرباء”. ولعل أهمّ ما جاء في البيان أنّ وزارة الخزانة اعتبرتْ أنّ الأخوين رحمة استخدما شركة “زيد آر انرجي غروب هولدنغ” التي تتخذ من لبنان مقرًّا لها لتوفير التمويل اللازم لإنشاء الشركة الموردة للفيول المغشوش. كما اعتبر أنّ الشركة الأولى قد استغلّت  نفوذها بين المؤسسات المالية اللبنانية لفتح اعتمادات للثانية كما تتشارك الشركتان الموظفين. كما أضاف البيان أنّ الأخويْن رحمة يمتلكان أيضا شركة “زيد آر لوجيستيكس ش. م. ل.” من خلال الهولدنغ. إنّ هذه الحيثيات دفعت وزارة الخزانة إلى إدراج “مجموعة زيد آر القابضة ش. م. ل.” و”زيد آر لوجيستيكس ش. م. ل.” بموجب الأمر التنفيذي رقم 13441 لأنهما خاضعتان لملكية ريمون زينة رحمة وتيدي زينة رحمة أو سيطرتهما، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.

ومن هذه الزاوية، شكّل قرار OFAC تأكيدا لما كانت ذهبت إليه النيابة العامة في جبل لبنان (التي كان فرنجية جاهر في اتهامها بالكيديّة من دون أي دليل) وقاضي التحقيق والقاضية معتوق في مخالفتها لقرار الهيئة الاتهامية لجهة التداخل التامّ بين شركة الهولدنغ التي يمكلها الشقيقان رحمة والشركة الموردة للفيول المغشوش. وهو شكّل أو يفترض أن يشكل مناسبة للتوقف مجددا عند المسار القضائي في هذه القضية والخطاب العام حولها في اتجاه تقييم مختلف المواقف السياسية وأداء القضاة وانحيازاتهم في حال وجودها ومدى التزامهم بمكافحة الفساد.

خلاصة

في ظلّ تفاوت الآراء حول صوابيّة العقوبات المفروضة من عدمها وبخاصة أن الإعلان لا يخفي إمكانية التراجع عنها في حال حصول أي تغيير في سلوك الشقيقين رحمة، إلا أنّها تشكل بأدنى تقدير وقائع ومعطيات لا يمكن تجاهلها أو التصرّف معها وكأنّها غير موجودة، وهي وقائع ومعطيات تفرض علينا إعادة النظر في القضية والخطاب السياسي من منظار آخر. وهنا تثور أسئلة عدّة حول استعداد الإدارة الأميركية مشاركة المعلومات التي تكون في حوزتها مع الهيئات القضائية عملا بموجب التعاون الدولي وفق الاتفاقية الدولية لمكافحة الفساد، وهو استعداد يجدر بالسلطات القضائية أن تمتحنه من خلال مطالبتها وفق الأصول بالتقارير المذكورة في القرار.

وما يزيد من فرص تعزيز الملاحقات القضائيّة ضمن حدود هذه القضية أو من خلال إقامة دعاوى جديدة بشأن صفقات مرتبطة باستيراد الفيول المغشوش (حيث تتصل الدعوى الحاضرة بحملة باخرة واحدة)، هو أنّه بات بإمكان محكمة جنايات جبل لبنان الناظرة حاليّا في قضية سوناطراك كما بإمكان النيابة العامة الحصول مباشرة على المعلومات المصرفية بموجب قانون رفع السرية المصرفية 2022 من دون المرور بهيئة التحقيق الخاصة. فلنراقب. 

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، قرارات قضائية ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني