تشكّل قضيّة سوناطراك والفيول المغشوش إحدى أهمّ قضايا الاحتكار والفساد العالقة أمام المحاكم في لبنان. بدأت فصول هذه القضيّة في آذار 2020 بعدما أثبتت نتائج مخبرية أنّ الفيول المُصدَّر منها مغشوش وغير مطابق لمواصفات العقد، بل إنّه مضرّ جدّاً بمحرّكات معامل إنتاج الكهرباء. وما كان ذلك ممكناً لولا إجراء الشركة المكلَّفة تشغيل معملَيْ الذوق والجيّة فحصاً لعيّنات من حمولة سفينة Baltic في دبي. كشف هذا الفحص تزوير فحوصات عيّنات هذه الحمولة في المختبرات المعنيّة في لبنان، وهي مختبرات تابعة للدولة. لا يقلّ هذا التزوير خطورة أو انتظاماً عن الغشّ المرتكَب من قِبل سوناطراك، بما تمثّله من شبكة مصالح، وفق ما أثبتته التحقيقات. وقد ورد في التحقيق تقدير لأحد الخبراء بأنّ الغشّ الحاصل في نوعيّة الفيول أدّى إلى تسليم لبنان مادّة فيول تقلّ قيمتها بنسبة 30% عن قيمة الفيول المتَّفَق عليها في عقد شرائه، ما يعني أنّ الضرر الذي تكبّده لبنان بفعل هذا الغشّ وحده يُحتمَل أن يصل إلى 30% من مجموع المبالغ التي سدّدها لهذه الشركة خلال 15 سنة مدّة العقد، وهي مبالغ لم ننجح في تحديدها وإن فاقت، على أقلّ تقدير، 10 مليار دولا أميركي. يُضاف إلى ذلك الأضرار الجسيمة التي تسبّب بها الفيول المغشوش للماكينات المستخدَمة في معامل الكهرباء وتحديداً في معملَيْ الجيّة والذوق اللذَين تضرّرا بشكل كبير، وكانا مهدَّدَيْن بالانفجار.
وما إن بدأ القضاء تحقيقاته في هذه القضيّة حتّى انكشف الكمّ الهائل من الفساد المستشري في الإدارات العامّة وصولاً إلى مجلس الوزراء وغالبيّة القوى السياسية المشاركة فيه. منحتنا التحقيقات مادّة دسمة لفهم ممارسات الفساد وحجمها في لبنان، على نحو يجعلها من أهمّ التحقيقات الحاصلة في هذا البلد وفي هذا الشأن، إلّا أنّ الهيئات القضائية الناظرة فيها عمدت في كلّ مرحلة من مراحل التحقيق، تحت ضغوط مرئية وغير مرئية، إلى تقليص المسؤوليّات الجزائية الناتجة عنها بحيث لم تعُد تتناسب قط مع خطورة الجرم. ويُخشى طبعاً في خضمّ ذلك أن يستمرّ تقليص هذه المسؤوليّات أو تمييع الملفّ برمّته، بعدما وصل الآن إلى قضاء الحكم.
لقد تمحورتْ القضيّة حول الفساد في تنفيذ هذا العقد، لكنّ التحقيقات كشفت الممارسات التي استخدمتها السلطة السياسية في صناعة احتكار تحوّل إلى امتياز دام قرابة 15 سنة؛ احتكار أدّى إلى إلزام الدولة بشروط شراء غير منصفة؛ احتكار مكّن المحتكِر (أو الأحرى، شركة ZR Energy التي التزمت تأمين الفيول) من الاستثمار في توطيد علاقاته ليس مع القوى السياسية المهيمِنة على مجلس الوزراء فحسب، إنّما أيضاً مع مختلف الإدارات العامّة المعنيّة، بدليل ورود أسماء أغلب العاملين فيها على جدول مدفوعاته الشهرية، وفق ما كشفته التحقيقات بالمستندات. والأخطر، احتكارٌ جعل أمن لبنان “الطاقوي” تحت رحمة هذه الشركة (وداعميها) ومكّنها فعليّاً من استخدام شتّى وسائل الابتزاز لتمديد العقد وحصر التحقيقات القضائية المقامة ضدّها. وهذا ما شهدناه بوضوح جليّ من خلال إغراق لبنان في العتمة في تمّوز 2020 بهدف إرغام قاضي التحقيق الأوّل في جبل لبنان نقولا منصور على إنهاء تحقيقاته من دون مزيد من التوسّع. وبالفعل، صدر القرار الظنّي في ظلّ عتمة شبه شاملة في 10 تمّوز 2020.
هذا ما سنعمل على تفصيله في حلقات خمس نتناول فيها مختلف الجوانب المهمّة التي توفّرها هذه القضية، وهي على التوالي:
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.