العدل الدولية تأمر بوقف الهجوم الإسرائيلي على رفح: سابقة قضائية فرضها استمرار الإبادة الجماعية


2024-05-27    |   

العدل الدولية تأمر بوقف الهجوم الإسرائيلي على رفح: سابقة قضائية فرضها استمرار الإبادة الجماعية

بتاريخ 24 أيار، أصدرت محكمة العدل الدولية قراراً بفرض تدابير احترازية على إسرائيل للمرة الثالثة في دعوى الإبادة الجماعية المقامة من جنوب افريقيا. وقد جاء القرار بناء على طلب كانت قد قدمته جنوب افريقيا في 10 أيار، تبعاً لبدء العملية العسكرية الإسرائيلية على رفح، جنوب غزّة، وبعدما عقدتْ المحكمة جلستيْن لسماع المرافعات الشفهية لكل من الطرفين في 16 و17 أيار.

ومع تأكيدها على وجوب تنفيذ التدابير المؤقتة التي فرضتها سابقًا في 26 كانون الثاني وفي 28 آذار 2024 فورًا وبشكل فعّال، أصدرتْ المحكمة ثلاثة تدابير جديدة بحق إسرائيل: (1) الوقف الفوري للهجوم العسكري، وأي عمل آخر في رفح، يترتب عنه فرض ظروف معيشية على المجموعة الفلسطينية في غزّة قد تؤدي إلى تدميرها كلياً أو جزئياً؛ (2) إبقاء معبر رفح مفتوحًا أمام توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الإنسانية الضرورية بالحجم المطلوب ومن دون عوائق؛ و(3) اتخاذ تدابير فعالة لضمان وصول الهيئات المفوّضة للتحقيق في ادّعاءات الإبادة الجماعية. كما تمسّكتْ المحكمة باستمرار دورها الرقابي من خلال الطلب من إسرائيل تقديم تقرير جديد بعد شهر حول تنفيذ هذه الأوامر.

صدر القرار بأغلبية 13 قاضيا من أصل 15[1]، مع تسجيل اعتراض القاضية سبوتندي (أوغندا) والقاضي الإضافي الإسرائيلي باراك. هكذا وبعد رفضها إصدار أية أوامر تتعلّق مباشرة بالعمليات العسكرية في غزّة على مدى أربعة أشهر، فرضت حرب الإبادة المستمّرة من دون أي محاسبة جديّة على المحكمة أن تُطوّر أدواتها. فوجدت المحكمة أنّ الظروف الإنسانية في غزّة لا تزال تتدهور وأنّ الوضع الحالي الناجم عن الهجوم العسكري الإسرائيلي في رفح ينطوي على خطر إضافي في إلحاق ضرر غير قابل للإصلاح بحقوق الفلسطينيين، وخلصتْ إلى اعتبار مفاده أنّ ظروف القضية تتطلب منها تعديل قراريْها السابقين.

وفيما يتوقّع ألا تلتزم إسرائيل بهذا القرار، كما فعلت سابقاً، تتجّه الأنظار نحو مجلس الأمن الذي يتمتّع بصلاحية فرض تنفيذ قرارات المحكمة، وتحديداً نحو الولايات المتحدّة الأميركية التي قد تستخدم حقّ الفيتو لعرقلة تنفيذه. يبقى أنّ هذا القرار الذي يشكّل سابقة قضائية في اجتهاد المحكمة يُسهم في محاصرة إسرائيل وشرعنة المطالب العالمية بوقف حرب الإبادة في غزّة، بخاصّة بعد طلب المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية إصدار مذكرات توقيف بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير الدفاع غالانت لارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية.

وفيما استفاضت جنوب أفريقيا في مرافعتها في شرح المخطّط الإبادي وضرورة وقفه على مدى ساعتين ونصف، جاء رد فريق الدفاع الإسرائيلي مقتضباً، حيث اقتصرت مرافعته على ساعة ونصف، بعد أن اشتكى من عدم منحه الوقت الكافي لتحضير دفاعه وضمان حضور كامل فريقه القانوني. وبعد أن وافقت المحكمة بأنّ الهجوم العسكري في رفح يستوجب منها إصدار أوامر إضافية (1)، أصدرت أمراً بالوقف الفوري للهجوم الذي قد يترتب عنه فرض ظروف معيشية قد تؤدي إلى تدمير الفلسطينيين، وهو ما شكّل سابقة في اجتهادات المحكمة بالرغم من عدم استجابتها لطلب جنوب أفريقيا بإصدار أوامر واضحة لوقف المخطط الإبادي في كامل غزة (2)، كما أصدرت أوامر أخرى لتعزيز حماية حقوق الفلسطينيين (3). ويبقى أن المحكمة لم تناقش لغاية الآن في مرحلة التدابير الاحترازية مسألة شرعية العملية العسكرية الإسرائيلية على غزّة بالرغم من إصرار جنوب إفريقيا على عدم جواز اعتبارها ممارسة لحقّ إسرائيل بالدفاع عن النفس (4). فماذا تضمّنت مرافعات فريق الادّعاء الجنوب أفريقي وفريق الدفاع الإسرائيلي، وكيف وصلت المحكمة إلى هذه الخلاصة؟

1. الهجوم العسكري في رفح يتطلّب تدابير جديدة

في طلبها الخطّي ومرافعتها الشفهية، اعتبرت جنوب افريقيا أنّ الهجوم العسكري الإسرائيلي المستمرّ على رفح يستدعي اتخاذ تدابير إضافية نظراً لإلحاق أضرار لا يمكن إصلاحها بحقوق الشعب الفلسطيني في غزة لثلاثة أسباب: (1) أنّ رفح باتت تشكّل الملاذ الأخير في غزة لمليون ونصف فلسطيني و”آخر مركز قابل للحياة في غزة بهدف السكن والإدارة العامة، وتوفير الخدمات العامة الأساسية، بما في ذلك الرعاية الطبية”؛ و(2) وأنه مع سيطرة اسرائيل على معبر رفح، أصبحت إسرائيل الآن تسيطر بشكل مباشر وكامل على جميع عمليات الدخول والخروج إلى غزة، وقد قطعت عنها جميع الإمدادات الإنسانية والطبية والسلع والوقود التي تصل إليها؛ و(3) أخيرًا، أنه توفرت أدلّة إضافية حول السلوك الإسرائيلي في معاملة مناطق الإخلاء كمناطق إبادة، ومنها اكتشاف المقابر الجماعية في مستشفيات غزة واستخدام الذكاء الاصطناعي لتحديد “قوائم القتل”، وكلها عوامل تربطُ بصورة حتميّة بين الهجوم العسكريّ في رفح واستمرار الأعمال الإباديّة في شمال القطاع ووسطه.

في المقابل، رفضتْ إسرائيل في مرافعتها الشفهيّة اعتبار أنّ الوضع في غزّة تغيّر أو أنّه تغيّر إلى حدٍّ يستدعي فرض تدابير جديدة. واعترضت إسرائيل على اعتماد جنوب أفريقيا على الوثائق المعدّة من قبل أطراف ثالثة أو حتى تحت رعاية الأمم المتحدة، لأنّها لا تشكّل أدلّة كافية وموثوقة. كما شكّكت في مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، معتبرة أنّه اكتفى حتى الآن بترداد “بشكل ببغائي” المعلومات الصادرة عن “الوكالات التي تديرها حماس في غزة فيما يتعلق بالوفيات”. كذلك، ادّعت إسرائيل أنّها اتخذت خطوات واسعة من أجل “تخفيف الوضع الإنساني وتجنب الكوارث”. وأنّها “تتكيّف وتواصل العمل على تحسين الوضع الإنساني ومنع إلحاق الأذى بالمدنيين وعمال الإغاثة”، مشيرة إلى التقرير الذي أرسلته إلى المحكمة في 28 نيسان الذي يوضّح هذه الخطوات، وهو تقرير لم تنشرْه المحكمة لأسباب غير واضحة. كما أنّها لامتْ جنوب أفريقيا لتعمّدها عدم لحظ “الجهود الإنسانية الملحوظة التي تبذلها إسرائيل”. لتخلص إلى اعتبار أنّ التدابير المتخذة حاليًا كافية تمامًا وليس هناك حاجة إلى مزيد من التدابير.

وكان من اللافت في ختام مرافعة فريق الدفاع الإسرائيلي، تدخل القاضي جيورج نولت (ألمانيا) للطلب منه تقديم معلومات حول الأوضاع الإنسانية في مناطق الإخلاء المحددة، ولا سيما في المواسي، و”كيف ستضمن إسرائيل المرور الآمن إلى هذه المناطق، فضلا عن توفير المأوى والغذاء والمياه وغيرها من المساعدات الإنسانية لجميع الأشخاص الذين تم إجلاؤهم والموجودين والمتوقع وصولهم إلى هذه المناطق”. وقد تقدّمت إسرائيل في اليوم التالي بطلب خطي للإجابة على سؤال نولت أوضحت فيه الخطوات التي تدعي اتخاذها لحماية المدنيين في رفح، فيما ردّت جنوب أفريقيا على هذا الجواب بكتاب خطي يدحض العديد من حجج إسرائيل.

خلافاً للحجج التي قدّمتها إسرائيل ولتشكيكها بصحّة تقارير الأمم المتحدّة بشأن الوضع في غزة، اعتمدت المحكمة في قرارها على المعلومات التي جمعتْها الأمم المتحدة، بخاصّة لجهة تهجير ما يقارب 800 ألف شخص في رفح منذ بدء العملية العسكرية فيها وحتى تاريخ 18 أيار، مستندة على تصريحات كبار المسؤولين في هيئات الأمم المتحدة حول المخاطر الهائلة التي يسبّبها الهجوم العسكري. فاستشهد القرار بتحذير المتحدث باسم مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية من خطر الموت المباشر على مئات آلاف الأشخاص، وبإفادة منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) أنّ حوالي نصف اللاجئين الفلسطينيين في رفح هم من الأطفال، ويإفادة برنامج الأغذية العالمي أنه لم يتمكن من الوصول إلى مستودعاته في رفح لأكثر من أسبوع، ولحظه أنّ التوغّل في رفح يشكّل انتكاسة كبيرة مقارنة بالتقدّم المتواضع الأخير. كما استند القرار على إفادة مدير منظمة الصحة العالمية حول توقّف المستشفيات عن العمل في رفح لدحض الموقف الإسرائيلي لجهة أنّ عددًا كبيراً من المستشفيات في رفح وفي سائر القطاع ما زال قيد التشغيل. ولعلّ الاستشهاد الأبرز، كان اللجوء إلى تصريح المفوض العام للأونروا، فيليب لازاريني، حول غياب الحدّ الأدنى من الشروط المطلوبة لتقديم المساعدات الإنسانية في مناطق الإخلاء.

إضافة إلى ذلك، لم تقتنع المحكمة بإنّ “إجراءات الإخلاء والترتيبات ذات الصلة التي تدّعي إسرائيل أنها اتخذتها تكفي للتخفيف من المخاطر الهائلة التي يشكّلها الهجوم العسكري في رفح”. وأشارت إلى عدم تقديم الجانب الإسرائيلي معلوماتٍ كافية فيما يتعلّق بسلامة السكان أثناء عملية الإخلاء، أو بوجود كميات من المياه ومرافق الصرف الصحي والغذاء والدواء والمأوى في منطقة المواسي. ولذلك، فهي تعتقد أن إسرائيل لم تعالج أو تبدد بشكل كاف المخاوف بشأن هجومها العسكري في رفح.

وعليه، خلصت المحكمة إلى اعتبار أنّ التطورات الأخيرة في رفح تتسم “بخطورة استثنائية”، وأنّ الوضع الحالي الناجم عن الهجوم العسكري الإسرائيلي في رفح ينطوي على خطر متزايد بحدوث ضرر لا يمكن إصلاحه لحقوق الفلسطينيين، وتالياً أن هناك حاجة ملحة لاتخاذ تدابير إضافية.

2. سابقة الأمر بوقف الهجوم العسكري

بين طلبها الخطي المقدّم في 10 أيار ومرافعتها الشفهية في 16 أيار، بدّلت جنوب أفريقيا طلبها إلى المحكمة من وجوب “إصدار أمر بانسحاب إسرائيل فورًا من رفح وإيقاف هجومها العسكري فيه” إلى إصدار أوامر صريحة بشأن وقف الأعمال العسكرية في كامل قطاع غزّة. وقد برّرت طلبها هذا بأنّ العملية العسكرية في رفح هي الخطوة الأخيرة في تدمير غزّة وشعبها الفلسطيني، “إذا سقطت رفح، سقطت غزة”. لكنّها شددت أنّ الحاجة اليوم تبقى لحماية جميع الفلسطينيين، كمجموعة قومية، من خطر الإبادة الجماعية. وبالنظر إلى فشل القرارات المحكمة السابقة في تأمين هذه الحماية، اعتبرت جنوب أفريقيا أنّه على المحكمة اليوم أن تصدر قرارات واضحة بشأن وقف الأعمال العسكرية في غزّة.

“المرحلة الأخيرة” في مخطط الإبادة

في مرافعتها، أدانت جنوب أفريقيا إنكار البعض وبخاصّة في “الغرب” للأدلة الواضحة حول مخطّط الإبادة الجماعية الذي تنفذّه إسرائيل في غزّة. “فكيف يعقل أن يُشارك أشخاصٌ يشبهوننا ويتكلّمون مثلنا في شيء مثل الإبادة الجماعية؟” وذكّرت بأن إسرائيل هي نظام فصل عنصريّ استعماريّ استيطانيّ، وأنّ الحكومة الحالية متّهمة الآن بالتورّط في الإبادة الجماعيّة. وقد اعتبرت تاليا أنّه لا يمكن فصل العملية في رفح عن خطة الإبادة الجماعية، لكونها تشكّل “المرحلة الأخيرة” منها.

وبنتْ جنوب أفريقيا مقاربتها هذه على اجتهادات محكمة العدل الدولية والمحكمة الدولية الخاصة بيوغسلافيا في قضية مجزرة سربرنيتشا في البوسنة. وكما كان الحال في سربرنيتشا، فإن التدمير المهول الذي تسبّبت به إسرائيل في غزّة، على مرأى ومسمع من وسائل الإعلام الدولية،  إنّما يهدف إلى أن يشكّل “مثالا قويا لجميع الفلسطينيين على ضعفهم وعجزهم عن الدفاع عن أنفسهم في ظلّ الحصار الإسرائيلي على غزة وأمام القوات العسكرية الإسرائيلية، ولتكون رمزًا لمصير جميع الفلسطينيين في غزة”. بالطبع، أغضبت هذه المقاربة فريق الدفاع الاسرائيلي الذي وصفها ب “انحدار” أخلاقي جديد لجنوب افريقيا.

علاوة على ذلك، رسمت جنوب أفريقيا “ملامح الإبادة”، إن كان لجهة تكثيف إسرائيل لهجماتها في الشمال في الوقت الذي تواصل فيه هجومها على رفح، أو لجهة الكشف عن مقابر جماعية تظهر أدلّة على المجازر الإسرائيلية بحقّ الفلسطينيين الباحثين عن المأوى والعلاج. كلّ هذه الممارسات تندرج ضمن نمط واضح يشير إلى أنّ الهدف هو القضاء على فلسطين، ذلك أنّ مستوى الدّمار الذي أحدثته إسرائيل في مختلف أنحاء غزّة والذي تلحقه الآن برفح يهدّد بقاء الأجيال الفلسطينية المستقبلية في غزة. وأشارت إلى أنّ خطاب الإبادة الجماعية المستمر ضمن المؤسسات الرسمية الاسرائيلية، لا يًعاقب بل يُكافأ عليه من قبل الحكومة الإسرائيلية، وذلك خلافاً للالتزامات المنصوص عليها في اتفاقية الإبادة الجماعية ولأوامر المحكمة السابقة.

تحريف قواعد الحرب

بالإضافة إلى ذلك، اعتبرتْ جنوب إفريقيا أنّ إسرائيل تسعى إلى إخفاء جرائمها من خلال “أسلحة” القانون الإنساني الدولي، حين تدّعي أنّ آلاف المدنيين الذين قتلتهم بدون رحمة هم مجرّد “دروع بشرية”، وأنّ تنفيذ موجباتها بحسب القانون الدولي الإنساني (مثل أوامر الإخلاء) لا تعدو كونها مجرّد ممارسات استعراضية. وتتلاقى هذه الحجّة مع تقرير المقررة الخاصة بشأن الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا البانيزي، الذي وصف ممارسات إسرائيل بتحوير قواعد الحرب ب “التمويه الإنساني“. أبعد من ذلك، قدّمت جنوب أفريقيا عرضاً مفصلاً في أساليب القتال المختلفة التي تستخدمها إسرائيل وفي تحريفها لقواعد القانون الدولي الإنساني، ومنها:

(1) تحوير مبدأ الوقاية ويستدلّ على ذلك من معاملة مناطق الإخلاء على أنّها “مناطق إبادة”؛

(2) تحوير مبدأ التناسب مثلًا عبر استخدامها للقنابل “الغبية” التي يبلغ وزنها 2000 رطل في المناطق المكتظة بالسكان، وعبر التفويض الروتيني والمتكرر بقتل “مئات” المدنيين الفلسطينيين – رجالا ونساء وأطفالا ورضّعا ومسنين – في ضربة واحدة، من أجل قتل شخص واحد، يُعتقد أنه أحد كبار قادة حماس؛

(3) تحوير مبدأ التمييز عبر الارتكاز على الذكاء الاصطناعي في تحديد مصير الأفراد الفلسطينيين في غزة وإعدامهم بناء على أسس واهية مثل وجودهم في مجموعة واتساب مع هدف آخر محدد.

واعتبرت جنوب أفريقيا أنّ التفسير الإسرائيلي لقواعد الاشتباك الخاصة بها وكيفية تطبيقها للمفاهيم الأساسية للقانون الإنساني الدولي يشكّل في حد ذاته إبادة جماعية.

ومع أنّ المحكمة كانت قد أعلنت سابقًا بوجوب حماية الشعب الفلسطيني من خطر الإبادة، إلّا أنّ جنوب أفريقيا اعتبرتْ أنّ أوامرها السابقة لم تنجح في تأمين هذه الحماية. وهو ما عزته جنوب أفريقيا إمّا لعدم وضوح نصّ القرارات فيما يتعلق بما تأمره على وجه التحديد أو لأن إسرائيل اختارتْ تجاهلها عمدًا. وأشارتْ إلى أنّ مخالفة إسرائيل لقرارات المحكمة السابقة وقرارات مجلس الأمن من دون أي عواقب، شكّل “إفلاتا مُمَأسسا من العقاب” سمح لاسرائيل باقتراف الإبادة الحالية. وعليه، وضعت جنوب أفريقيا إذًا المحكمة أمام مسؤولية تأكيد وممارسة دورها، وقدّمت شرحاً مفصلاً حول سلطة المحكمة لا بل واجبها في التصرّف لضمان تنفيذ أوامرها السابقة وضمان قيمة حكمها النهائي المستقبلي.

أي سلطة للمحكمة في الأمر بوقف الأعمال العسكرية؟

عندما أصدرت المحكمة أوّل أوامر في هذه القضية في كانون الثاني 2024، أصيب البعض بخيبة أمل نظرًا لعدم إصدارها أمرًا بوقف الأعمال العسكرية في غزة رغم تسليمها بخطر الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين في غزة. وعادت المحكمة وأوضحت موفقها في قرارها الثاني في آذار 2024 حيث أوضحت أنّها لا تتمتع بصلاحية إصدار أوامر موّجهة لأطراف ثالثة خارج إطار الدعوى (أي حماس) كونها لا تكون ملزمة بقرارات المحكمة، مستندة في ذلك إلى المادة 59 من نظامها الداخلي وإلى اجتهادها في قضية الإبادة الجماعية في البوسنة (1993). وقد برز حينها النقاش بين القضاة حول مسألة أمر إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية، إذ عارض 6 من أصل 15 قاضِيا بشكل صريح في إعلاناتهم المستقلّة قرار المحكمة بعدم إصدار أمر بذلك، وهم القضاة هيو (الصين) وبرانت (البرازيل) وروبليدو (المكسيك) وتلادي (جنوب أفريقيا) في بيانهم المشترك، والقاضي يوسف (الصومال) والقاضية تشارلزوورث (أستراليا). أما رئيس المحكمة القاضي نوّاف سلام (لبنان) فاعتبر أنّ الأوامر الجديدة الصادرة لا يمكن أن تأخذ مفاعيلها بشكل كامل من دون وقف فوري لإطلاق النار في شهر رمضان وفقًا لقرار مجلس الأمن الأخير.

وعليه، توّسعت جنوب أفريقيا في مرافعتها الشفهية الأخيرة في إثبات قدرة المحكمة وسلطتها لجهة إصدار أوامر بوقف الأعمال العسكرية الاسرائيلية، وذلك بناء على أربع حجج رئيسية.

أوّلا، ذكرت بالمادة 41 من نظام المحكمة الذي يعطيها صلاحية إصدار أوامر من دون أن يلزمها بأن تكون هذه الأوامر موجّهة لطرفي الدعوى أمامها.

ثانيًا، استندت إلى كون اتفاقية منع الإبادة الجماعية تنطبق في زمن السلم والحرب، وعلى جميع الدول وخلال كل النزاعات المسلّحة (أكانت دولية أو غير دولية)، فرفضت تقييد سلطة المحكمة لجهة منعها عن إصدار أمر لدولة – طرف في اتفاقية الإبادة – بتعليق عملياتها العسكرية من أجل منع الإبادة الجماعية ضد جهة غير دولية، طالما لم يتم نزع سلاح هذه الجهة.

ثالثًا، استندت أيضًا جنوب أفريقيا على اجتهاد المحكمة في قضية أوكرانيا ضد روسيا، لتعتبر أنّه من غير المنطقي أن تأمر المحكمة أحد الأطراف بوقف عملياته العسكرية حتى عندما لا يُزعم أنه يرتكب جريمة إبادة جماعية، وأن تكون غير قادرة على إصدار أمر مشابه في هذه الحالة بعدما قررت المحكمة بنفسها وجود خطر حقيقي ووشيك بالإبادة بحق الفلسطينيين في غزّة، بخاصة نظرًا إلى حجم “المذبحة” في غزة وهو أكبر بكثير من ما حصل  في قضية أوكرانيا.

رابعًا وأخيرًا، رفضت جنوب أفريقيا اعتبار أنّ سلطة مجلس الأمن في فرض الهدنة يشكل عائقًا لإمكانية المحكمة بفرض أمر بوقف الأعمال العسكرية. وقد استشهدت برأي رئيس المحكمة القاضي نوّاف سلام (لبنان) بأنّ “التدابير المؤقتة التي تم اتخاذها في شهر مارس/آذار لا يمكن أن تصبح سارية المفعول بالكامل إلا إذا تم احترام وقف إطلاق النار”. وانطلاقا من التعطيل العمدي لمجلس الأمن، اعتبرت جنوب أفريقيا أنّه على المحكمة أن تقوم بنفسها ب “تهيئة الظروف اللازمة لتفعيل تدابيرها المؤقتة بشكل كامل” وأن تأمر إسرائيل بوقف عملياتها العسكرية.

بالإضافة إلى ذلك، استندت جنوب أفريقيا على التصريحات السابقة لقضاة المحكمة حول الضرورة الضمنية بوقف العمليات العسكرية لتطبيق القرارات السابقة. كما أشارت إلى أنّ إحجام المحكمة حتى الآن عن إصدار أمر “بشكل مباشر وصريح” بأن توقف إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة، أمّن لاسرائيل “غطاء لسياساتها” بحسب تصريحات اسرائيلية تفيد بأنّ “المحكمة لم تمنع عنهم هذه الأفعال”. من هنا، اعتبرت جنوب افريقيا أنّ التدبير الوحيد المفيد والمطلوب هو الأمر بـ “عبارات صريحة لا لبس فيها” بوقف الأعمال العسكرية في كامل القطاع، حيث تكمن أهمية هذا الوضوح لا للجانب الإسرائيلي فحسب، بل أيضًا “لأي دولة أخرى لا تزال تقدم المعونة أو المساعدة لإسرائيل في حملتها للقضاء على فلسطين”، وأنّ أي “تدبير آخر لن يكون كافيًا”.

إسرائيل ترفض دخول المحكمة في إدارة الحرب

حافظت اسرائيل على موقفها في رفض تهمة الإبادة الجماعية، وفي إصرارها على تصوير عدوانها على غزّة على أنّه “حرب فرضت عليها”، وأنّها تمارس حقها الطبيعي بالدفاع عن نفسها، من أجل تحقيق هدفين مزدوجين: تحرير الرهائن، والقضاء على حماس. لا بل حتى اعتبرت أنّ ممارساتها متّسقة مع القانون الدولي الإنساني ومع أوامر المحكمة السابقة.

خطابيًا، استغلّت كعادتها مأساة محرقة اليهود الأوروبيين، مثلًا حين عبّرت عن اشمئزازها من استخدام جنوب أفريقيا لعبارة “مناطق الإبادة”. كما كذّبت ادّعاءات جنوب إفريقيا، وشككت بمجمل مصادرها ورفضت ادّعاءاتها حول ممارسات الجيش الإسرائيلي. فاعتبرت مثلاً أنّ حجة اعتماد الجيش الإسرائيلي على الذكاء الاصطناعي لتحديد أهدافه غير مدّعمة إذ تعتمد على “تقرير صحفي واحد ذي مصادر مجهولة”. أمّا بشأن امتثالها للقانون الدولي وقرارات المحكمة، فأعادت اسرائيل الحجة القائلة بأنّ الممارسات التي تستند إليها جنوب افريقيا هي مجرّد ممارسات فردية لا تترجم سياسة الدولة. كما أبرزت دور المحكمة العليا الاسرائيلية بمراجعة “مدى امتثال سياسة الحكومة الإسرائيلية لكل من القانون الإنساني الدولي والقانون الإسرائيلي”.

في المضمون، رفضت اسرائيل طلب إصدار أمر بوقف العملية العسكرية في رفح وارتكزت على الحجج التالية: (1) صوّرت محافظة رفح بكاملها على أنها هدف عسكري، و”نقطة محورية للنشاط الإرهابي المستمر”، و”معقل لعناصر حماس”. وركّزت على وجود أنفاق وغرف للقيادة والمعدات العسكرية، وعلى احتمال وجود رهائن في رفح، مذكرةً بتمّكن قواتها من إنقاذ رهينتين إسرائيليتين من رفح في 11 شباط 2024. واعتبرت أنّ العملية العسكرية في رفح تهدف إلى “هدم معقل حماس العسكري فيها” من أجل “تحرير الفلسطينيين من قبضة النظام الإرهابي القاتل” و”تمهيد الطريق الطريق إلى السلام والرخاء.” و(2) اعتبرت أنّ عمليتها لا تشكّل “هجومًا واسع النطاق”، بل تقوم قواتها فقط “بعمليات محددة ومحدودة ومحلية تسبقها جهود الإخلاء ودعم الأنشطة الإنسانية”. و(3) صوّرت مطلب جنوب أفريقيا على أنّه استغلال للمحكمة ولاتفاقية الإبادة يهدف الاستحصال على “تفوّق عسكري لحليفتها حماس” لأنّها “لا ترغب في رؤيتها مهزومة” ولكي تبقى حماس “مسيطرة على  الفلسطينيين في غزة وأن تحكم عليهم بالبؤس”. و(4)  إنّ أمر وقف الأعمال العسكري الأحادي تجاه اسرائيل يحرمها في ممارسة حقها في الدفاع عن النفس، فيما سبتقى حماس حرة “في مواصلة ارتكاب جرائمها المروّعة”. (5) تؤدّي الاستجابة إلى طلب جنوب أفريقيا إلى تشويه القانون الدولي وتشويه دور المحكمة، بحيث يصبح من الممكن إحالة كل الصراعات المسلّحة أمام المحكمة على أساس اتفاقية منع الإبادة الجماعية، ويقحمها في “الإدارة التفصيلية للجوانب التشغيلية للنزاع المسلح” مستشهدة بالرأي المخالف للقاضي الإسرائيلي باراك على قرار المحكمة الأخير.

سابقة قضائية رغم غموض في الصياغة

لم تستجبْ المحكمة لطلب جنوب أفريقيا بوقف العمليات العسكرية في غزّة، إذ جاء قرارها محصوراً بالوقف الفوري للهجوم العسكري في رفح. ومع إصدارها هذا الأمر، تكون المحكمة قد أكّدت على صلاحيتها بفرض تدبير بوقف الأعمال العسكرية على أحد أطراف النزاع، حتى وإن كان الطرف الثاني منظمة مسلحة غير دولية، وهو ما يشكّل سابقة يمكن البناء عليها مستقبلًا، بخاصّة أنّ المحكمة لم تصدر سابقاً هكذا أمر في دعاوى الإبادة الجماعية في البوسنة وميانمار. فطالما أقرّت المحكمة بصلاحيتها بفرض هذا التدبير في رفح، يمكن أن تصدر تدبيرًا مماثلًا يتناول كامل  القطاع.

في المقابل، لم تستجب المحكمة أيضاً إلى طلب جنوب أفريقيا بإصدار أوامر واضحة تجاه إسرائيل، إذ شابت صياغة القرار بعض الغموض الذي سرعان ما استغلتّه إسرائيل وحلفاؤها لاعتبار أن المحكمة لم تأمر بوقف كافّة العمليات العسكرية في رفح. فالقرار لم يأمر بالوقف الفوري لكل الأعمال العسكرية في رفح، بل الوقف القوري “للهجوم العسكري، وأي عمل آخر في رفح، ترتّب عنه فرض ظروف معيشية على المجموعة الفلسطينية في غزة قد  تؤدي إلى تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا”. وقد طرحت هذه الصياغة سؤالًا فيما إذا كان الشرط المتعلّق بالنتيجة المنصوص عنه في القرار (أن يترتب عن العمل فرض ظروف معيشية قد تؤدي إلى تدمير الفلسطينيين) ينحصر في “أي عمل آخر” أم أنّه يطال الهجوم العسكري أيضاً أو الإثنين معاً. ولدى الاطلاع على الصياغة الفرنسية للقرار[2] والتي تتمتّع بنفس السلطة الإلزامية للصياغة الانكليزية، يتبيّن أنّ هذا الشرط يرتبط بالهجوم العسكري، بمعنى أنّ المحكمة ألزمت إسرائيل بوقف الهجوم العسكري على رفح الذي قد يترتب عنه هذه النتيجة.

وقد أشار القاضي أوريسكو (رومانيا) في رأيه المستقل إلى لبس هذه الصياغة، معتبراً أنّه من غير الواضح ما إذا كان شرط فرض ظروف معيشية مدمّرة يتعلّق بالعملية الهجومية بحد ذاتها، أو بأي إجراء آخر أو بالاثنين معًا. وأوضح وجهة نظره بتفسير هذا الإجراء على أنه يشير أيضًا إلى الهجوم العسكري الإسرائيلي بحد ذاته. وشاركه في هذا الموقف القاضي نولت (ألمانيا) الذي أيد قرار المحكمة ولكن بعد “تردد”.

أما نائبة رئيس المحكمة القاضية سبوتندي (أوغاندا) التي اعترضت على القرار، فتأسّفت من جهتها لغموض هذه الصياغة التي قد يُسيئ فهمها على أنّها تأمر بوقف إطلاق نار أحادي ودائم، ما سيشكّل تجاوزاً لصلاحية المحكمة. وأوضحت في رأيها المخالف اعتقادها بأنّ “أمر إسرائيل بتعليق هجومها العسكري في رفح منحصر بقدر ما يكون ضروريًا لمنع تهيئة ظروف معيشية يمكن أن تؤدي إلى تدمير الفلسطينيين في غزة. “

وسطّر القاضي الإضافي الإسرائيلي باراك في رأيه المخالف الاختلاف الحاسم بين التدابير المتخذة وطلب جنوب أفريقيا. فاعتبر أنّ قرار المحكمة جاء محصورًا بالعملية الهجومية في رفح بما لا يخالف “موجبات اتفاقية الإبادة الجماعية”، وبما يحفظ الحق لإسرائيل بـ”استمرار عملياتها العسكرية في محافظة رفح ما دامت تفي بالتزاماتها بموجب اتفاقية الإبادة الجماعية (…) ويحفظ حق إسرائيل في منع وصد التهديدات والهجمات التي تشنها حماس، والدفاع عن نفسها ومواطنيها، وتحرير الرهائن”.

وعليه، سارع مجلس الأمن القومي الإسرائيلي والمتحدّث باسم الخارجية الإسرائيلية إلى استغلال هذه الصياغة، مصدرين بيانًا مشتركًا يعلنون فيه انّ إسرائيل “لم ولن تقوم بعمليات عسكرية في منطقة رفح من شأنها أن تفرض على السكان المدنيين الفلسطينيين في غزة ظروف معيشية يمكن أن تؤدي إلى تدميرها المادي كليًا أو جزئيًا”.

في المقابل، رحّبت جنوب أفريقيا بقرار المحكمة “الرائد” كما جاء على لسان وزيرة خارجيتها ناليدي باندور التي اعتبرت أنّ القرار تضمّن “مجموعة تدابير احترازية أكثر صرامة وبصياغة واضحة حول ضرورة وقف” الأعمال العسكرية، وحذّرت من أرجحية عدم انصياع إسرائيل لهذا القرار. كما دعا الرئيس رامافوسا جميع الدول الأطراف إلى إعادة النظر في علاقاتها مع إسرائيل على ضوء قرار المحكمة وعلى ضوء الالتزامات التي يفرضها القانون الدولي. كما رحبّت العديد من الدول بقرار المحكمة مطالبين بوقف العدوان على عزّة، وبرز موقف ممثّل الاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيف بوريل الذي طالب بتنفيذ قرار المحكمة وأضاف: “علينا الخيار بين دعم المؤسسات الدولية وسيادة القانون أو دعم إسرائيل”.

3. أوامر أخرى لحماية حقوق الفلسطينيين  

بالإضافة إلى ذلك، فرضت المحكمة على إسرائيل الإبقاء على معبر رفح مفتوحاً من أجل توفير الخدمات الأساسية والمساعدات الانسانية الضرورية بشكل واسع ومن دون عوائق، وهو ما يتماشى مع أمرها السابق بفتح جميع المعابر البريّة إلى غزّة لضمان وصول الاحتياجات الأساسية للسكان. كما فرضت عليها اتخاذ جميع التدابير لتأمين الوصول من دون عوائق لهيئات التحقيق المكلفة من قبل الأجهزة المختصة في الأمم المتحدة للتحقيق في ادعاءات الإبادة الجماعية.

وكانت جنوب أفريقيا قد أبرزت في مرافعتها التناقض الاسرائيلي القائم على منع دخول محققين مستقلين لإجراء التحقيقات في غزّة، ثم اعتبار المحكمة غير قادرة على المضي قدماً بسبب “عدم وجود أدلة كافية ضدها”. فعبر منع الوصول إلى غزة، وتشويه جميع مصادر المعلومات الأخرى، تحاول اسرائيل التحرر من أي مصدر رقابي لتصبح حرة في “رسم صورة لغزة تتعارض بشكل جذري مع جميع الروايات الأخرى”، وهو ما وصفه المفوّض السامي للأمم المتحدّة لحقوق الإنسان بأنّه “المناخ السائد للإفلات من العقاب”. وكعادتها، كذّبت إسرائيل ادعاءات جنوب أفريقيا عبر الارتكاز على تعقيدات الصراع واتهمتها أنّها تقدّم “خطابات بلاغية” من دون أدنى دليل حقيقي.

 وقد اعتبر القاضيان سبوتوندي وباراك المعترضان على القرار أنّ جنوب افريقيا لم تثبت تدمير إسرائيل للأدلة المتعلّقة بالدعوى. كما استندت سبوتوندي على اجتهادات المحكمة السابقة التي لم تفرض يومًا على أي دولة تتمتّع بسيادة بالسماح بدخول مراقبين إلى أراضيها من دون موافقة الدولة، مستندةً إلى سوابق المحكمة في قضايا الإبادة الجماعية في ميانمار، والتعذيب في سوريا، والتمييز العنصري بين ناغورنو كاراباخ (أرمينيا ضدّ أذربيجان). ووافقها القاضي باراك على ضرورة أن تقبل الدولة بهذه اللجان، وأشار أيضًا إلى غموض التدبير حيث لم يتم تحديد النطاق الجغرافي ولا ولاية بعثات تقصي الحقائق بشكل واضح، ولا هو واضح ما المقصود ب “الجهاز المختص”.

في مطلق الأحوال، إن قرار المحكمة السابق الصادر في آذار والذي لا يزال ساري المفعول يفرض نفس الالتزام على إسرائيل، ولكن صياغته جاءت  أوسع لجهة السماح بوصول هيئات التحقيق كما الصحفيين إلى غزّة “من أجل تقييم وتسجيل الظروف على الأرض في غزة وتمكين الحفاظ على الأدلة والاحتفاظ بها بشكل فعال”، من دون ربط مهمتهم بالتحقيق مباشرة في ادعاءات الإبادة. ومن المفترض أن يشمل ذلك بشكل خاص لجنة التحقيق الدولية المستقلة التي أنشأها مجلس حقوق الإنسان في العام 2021 للتحقيق في الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلّة.

4. ماذا عن شرعية العمليات العسكرية؟

عمدت جنوب أفريقيا في مرافعتها إلى التذكير بافتقاد العملية العسكرية الإسرائيلية في غزّة لأي شرعية القانونية، إذ لا يمكن اعتبارها دفاعًا عن النفس بناء لثلاثة أسباب: (1) أنّ حق الدفاع عن النفس لا يشكّل ترخصاً لاستخدام غير محدود للعنف؛ (2) أنّ لا شيء، ولا حتى حقّ الدفاع عن النفس يبرر الإبادة الجماعية؛ (3) أنّ المحكمة كانت أعلنت سابقاً في  رأيها الاستشاري في قضية الجدار الفاصل لعام 2004 أنّه لا يحق لسلطة الاحتلال أن تتذرع بالدفاع عن النفس تجاه تهديد صادر عن الأرض والشعب الذي يحتلّه.

في المقابل، يصرّ الدفاع الإسرائيلي على الادّعاء بممارسة اسرائيل ل “حقها الطبيعي في الدفاع عن النفس”، من دون أن يردّ على أيّة من النقاط المحددة والمثارة من قبل جنوب أفريقيا. وكان لافتًا تركيز الجانب الإسرائيلي على الأضرار والخسائر التي لحقت بالإسرائيليين، في محاولة لخلق تناسب مع الدمار الذي سببه في غزة. فأشارت إسرائيل إلى إطلاق أكثر من 10,000 قذيفة من قطاع غزة باتجاهها، وتهجير 60 ألف مقيم في جنوبها “قد تمر سنوات قبل أن يتمكنوا من العودة إلى ديارهم وإعادة بناء مجتمعاتهم”.

أمّا المحكمة، فلم تتطرّق بشكل مباشر إلى مسألة حق الدفاع عن النفس منذ إعلان اختصاصها للنظر في هذه الدعوى، إلّا أنّه يمكن اعتبار أن استخدامها لعبارة “الهجوم العسكري” على رفح في قرارها قد يؤشر إلى اعتبارها أنّ العملية في رفح تخطّت حدود الدفاع عن النفس لتصل إلى مرحلة الهجوم.

من جهته، اعتبر القاضي تلادي (جنوب أفريقيا) في رأيه المستقلّ على قرار المحكمة أنّ الحجج التي قدمتها جنوب أفريقيا في هذا المجال  تتعلق بأساس الدعوى (أي أنّه لا يعود للمحكمة البحث فيها في مرحلة التدابير الاحترازية)، وذلك لأنّ إسرائيل تدعي عدم اقترافها للإبادة، ولأنّها لا تعتبر أنّ قطاع غزة هي أرض محتلة. ولكنه أشار إلى أنّ الإسرائيليين لم يبرروا مسألة التناسب بين عملية السابع من أكتوبر والرد الإسرائيلي، كما اعتبر أنّ “الإجراءات الدفاعية المشروعة، ضمن الحدود الصارمة للقانون الدولي، لصد هجمات محددة” تبقى متسقة مع أمر المحكمة. أمّأ “استمرار العملية العسكرية الهجومية في رفح، وفي أماكن أخرى، والتي تترتب عليها عواقبها بالنسبة للحقوق المحمية بموجب اتفاقية منع الإبادة” فهو ما يعتبر مخالفًا لأمر المحكمة.


[1] لم يشارك القاضي توكما في القرار لأسباب غير واضحة للعلن، كما أنّه تغيّب عن جلسة الخميس التي ترافعت خلالها جنوب افريقيا.

[2] “Arrêter immédiatement son offensive militaire, et toute autre action menée dans le gouvernorat de Rafah, qui serait susceptible de soumettre le groupe des Palestiniens de Gaza à des conditions d’existence capables d’entraîner sa destruction physique totale ou partielle”.

انشر المقال

متوفر من خلال:

الحق في الحياة ، مقالات ، فلسطين ، محكمة العدل الدولية ، جريمة الإبادة الجماعية



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني