العاملات بالقطاع الفلاحي في تونس: صرخات ألم ضدّ سلطات تتركهن تحت رحمة “الوسيط”


2022-10-28    |   

العاملات بالقطاع الفلاحي في تونس: صرخات ألم ضدّ سلطات تتركهن تحت رحمة “الوسيط”

صدر بتاريخ 19 أكتوبر 2022 أمر حكومي عدد 768 يقضي بترفيع طفيف في الأجر الأدنى اليومي “المضمون” للعاملات بالقطاع الفلاحي ليبلغ 17.664 دينارا بعد أن كان 16.512 خلال سنة 2021.

تحسّن نظريّا محمود، وقد صدر إثر أيام معدودات من الاحتفال باليوم العالمي للمرأة الريفية، إلاّ أنّه فرضيّا ينتج دخلا شهريا لا يتجاوز 400 دينار، ويرتطم عمليّا بواقع عدم تطبيقه وغياب آليات إنفاذه والرقابة على مدى احترامه. فقد دأب المشرّع التونسي، تحت وطأة فواجع الموت في صفوف العاملات بالقطاع الفلاحي وتدهور وضعيتهنّ الاقتصادية والاجتماعية على معالجة الظواهر ببوادر حلول تشريعيّة. لكنّها لا تأخذ بعين الاعتبار حاجيات النساء أنفسهنّ وتصوراتهنّ ولا إكراهات الواقع، فتصطدم كلّ مرّة باستحالة التطبيق.

للحديث عن العاملات في القطاع الفلاحي، من البديهي البحث عن العدد الرسميّ لهؤلاء النسوة. ورغم بداهة المعطى، فانّه مغيّب عن احصائيات الدولة التونسيّة تحت عدّة مسميّات لعلّ أهمّها أنّ “موسميّة نشاطهنّ تمنع الدولة من تحديد الرقم الحقيقي”. مع ذلك، تقدّر الأرقام غير الرسميّة عدد العاملات في القطاع الفلاحي بأكثر من نصف مليون امرأة تونسيّة، تغبن عن مرصاد الدولة رغم ضمانهنّ اليومي والمستمرّ لرغيف التونسيات والتونسيين.

يلخّص المخيال الشعبي المرأة العاملة في القطاع الفلاحي بامرأة كهلة في الأربعين أو الخمسين من عمرها، تتميز بارتداء “الفولارة”[1] زاهية الألوان تحرقها أشعّة الشمس في الصيف ويلسعها سقم البرد في الشتاء. نعلم أنّ ظروفها قاسية ولا ندرك دوما مطالبها، نُفجع من حين لآخر عند سماع خبر وفاتها في حادثة نقل، قبل أن نعود مسرعين لغمار حياتنا. فمن هنّ؟ وهل نعرفهنّ؟ وماهي مطالبهنّ؟

“أقسم بربّ العزّة أننا تعبنا…قولي لهم: اعترفوا بنا”

“أقسم بربّ العزّة أننا تعبنا…قولي لهم: اعترفوا بنا”. هكذا ختمت سماح -اسم مستعار- حديثها حول وضعيتها ووضعية مئات آلاف النساء العاملات في القطاع الفلاحي. نخفي هويتها ليس لأنّها تخاف كشفها، وهي التي صرّحت بأنها لا تهاب في الحقّ لومة لائم، وإنّما خوفا عليها من أن يمنعها نضالها مكشوف الوجه من حقّها في العمل، كما حرمت منه زميلتها  نورة عندما أدرك الوسيط أنّها “أجرمت” في حقّه بخروجها إلى الشارع للمطالبة بحقوقها الأساسيّة: التغطية الاجتماعية، الحقّ في النقل الآمن، الأجر اللائق، أي ببساطة، حقّها في الكرامة الإنسانية.

لا يخفى على أحد أنّ أقلّ ما يقال عن ظروف عمل العاملات في القطاع الفلاحي هو أنّها لا إنسانيّة. حقيقة ندركها جميعا لكن تصفها نورة  بدموعها قائلة؛ ” يتمّ التواصل معنا من قبل الوسيط لا غير، لا يوجد أدنى تعامل مع الفلاّح الذي سنعمل بأرضه. قبل ذلك، يمرّ الوسيط صباحا ليأخذنا في شاحنته فيتجاوز عددنا الثلاثين، نرصّ بعضنا البعض لكي نستطيع الوقوف في صندوق الشاحنة طيلة 30 كيلومترا وصولا الى الحقل”. تستطرد مؤكّدة؛ “بحديثي هذا لا أرجو منّة أو عطفا من أحد، فقط أجيب عن سؤال طرحتيه!”. ثم تواصل: “تتراوح أعمار النساء بيننا من 12 سنة الى 70 سنة، منّا من تركت محفظتها الدراسيّة والتحقت بالعمل، ومنّا من لم تكن تعرف للعمل الفلاحي مدخلا إلاّ أنّ الحاجة وضنك العيش دفعاها لذلك، مثلي أنا”. جلّنا نساء، الرجال لا يريدون العمل في هذا المجال، فهم يدركون أن العمل مضني وأنّ المقابل زهيد وإن علا. أنا لا ألومهم لكنه خيار لا أمتلكه خاصّة وأنّ في البيت ستّة أفواه فاغرة تنتظر إطعامها. مسار أتخذه رغم أنّي لا أعرف إن كنت سأرجع مساء إلى بيتي أم لا”.

تركّز سماح، وهي الشابّة المولعة بالفلاحة، على دور الوسيط في ظلم النسوة العاملات في القطاع الفلاحي. فالوسيط لا يكتفي بنقل عشر نساء أو ثلاثين أو أربعين، بل يصل العدد أحيانا إلى أكثر من ستيّن امرأة يتمّ نقلهن يوميا إلى الحقول في سيارة واحدة. إذ تقول: “تجدين نساء في الستيّن من عمرهنّ مريضات ولا يمكنهنّ الوقوف لمدّة طويلة. لمنعهنّ من الجلوس يعمد الوسيط إلى سكب الماء البارد في مؤخرة الشاحنة ولربح بعض سنتيمترات تمكّنه من حشر نساء أخريات وقوفا”. من جهة أخرى، تؤكّد سماح أنّ لا علاقة لهنّ بالفلاّح. فالوسيط هو الذي يحدّد مع الفلاّح أجرة النساء وأجرته. فإن كنّ يتلقيّن نظريا مبلغ 20 دينارا فانّ ما يبلغهنّ بعد “مكس”[2] الوسيط يقدّر في أفضل الأحوال ب 15 دينارا.

تحدّثني سماح كذلك عن إحدى زميلاتها التي تعرضت لمرض الكلى، وجوبهت صرخات ألمها من قبل الفلاح بالتجاهل، آمرا إيّاها بمواصلة العمل إلى حين عودة الوسيط على الساعة الثانية بعد الزوال. كذلك الأمر بالنسبة إلى زميلتها الأخرى التي تعرّضت للسعة أفعى أثناء عملها في أحد مخازن التبريد ومع ذلك لم يتدخّل الفلاّح لإنقاذها مجيبا بأن لا دخل له في معالجة إصابتها.

تلخّص سماح علاقتها بالوسيط والفلاّح قائلة “الوسيط يستغلّ الفلاّح والفلاّح يستغلّنا نحن، ثم يحين دور الوسيط لاستغلالنا”. هي سلسلة قائمة على الاستغلال، والعاملات هنّ الحلقة الأضعف فيها، وإن كنّ يقتتن بفضلها.

كلّ ما سبق، لا ينسي  نورة أن تعرّج على مسألة التحرّش والاغتصاب في الوسط الفلاحي. إذ تروي قائلة؛ “في وسطنا مظالم ومآسي عديدة تتعرّض لها البنات الصغيرات في السنّ بالخصوص، من قبل بعض الفلاّحين. اغتصب فلاح في السبعين من عمره صبيّة في الرابعة عشرة من عمرها، و”لسترها” زوجوها رجلا آخر في الستين من عمره. بين الشمس والظهر المقوّس والبرد والضنك، قولي لي أيّ حياة عاشتها هذه الصغيرة؟”.

أجر عادل، تغطية اجتماعيّة ونقل آمن

تصرّ  نورة على تذكيري بأنّها لا تتحدث لطلب العطف والرجاء بل تتحدّث لتُسمع أصوات الكادحات. تقول؛ “مرّ بنا العديد قبلك ولا نعرف إن كان صوتنا مسموعا فعلا، لكنّنا نحاول إيصاله بشتّى الطرق”. تعاتبني مازحة “نرى تعاطفكن معنا من خلال ارتداء الفولارة[3] المزركشة وأنتنّ في بلاتوهات التلفاز، إلاّ أنّكنّ بذلك جعلتنّ سعرها يرتفع”. تعود لنبرة الجدّ قائلة؛ “كرامتنا نُزعت منّا، فكلما دخلنا الحقل نسمع شتّى النعوت من قبل الفلاح” وتضيف سماح؛ “لا نطلب شيئا، نحن نطلب حقّنا فحسب”.

تعبّر كلّ من  نورة وسماح عن مطالبهنّ بصفة واضحة. فهنّ تطلبن تحسين أجورهنّ، النقل اللائق والتغطية الاجتماعية للحؤول دون تشكّل وضعيّات اجتماعية صعبة في حال وقوع حوادث سواء كانت في الحقل أو في الشاحنات. مطالبهنّ على وضوحها وطابعها الأساسي لا تجد آذانا صاغية لدى السلطة الحاكمة وتُجابه بعجز مفزع عن حلحلتها. مقابل ذلك تعتبر سماح أنّ معضلة النقل غير الآمن للنساء يمكن حلّها عن طريق تكريس حافلات مخصصة لهنّ في المناطق الفلاحية. كما توصي بالأخذ بعين الاعتبار بخصوصية العمل الفلاحي وتطويع منظومة التغطية الاجتماعية حسب حاجياتهنّ. بداية حلول كان يمكن أن تتدارس لولا أنّ سماح قضت حسب قولها ستّ سنوات متتالية في محاولة فاشلة لمقابلة والي الجهة وهو ما كان يمكن أن يكسر الطوق الضيّق لآمال نورة  المنحصر في “حياة كريمة مقابل كل قطرة دم نُزفت وعرق سُكبت” على جبهات زميلاتها.

تعامل الدولة مع مطالبهنّ: لا “حياء” لمن تنادين

رغم وضوح مطالبهنّ، تنحصر سياسة الدولة تجاهها في بعض الإجراءات الترقيعية التي لا تغني النساء العاملات في القطاع الفلاحي من جوع. في “ردّ” السلطة عن مطلب الأجر العادل، تكتفي الدولة كل سنة بترفيع طفيف للأجر الأدنى المضمون. فترفّعه هذه السنة من 16,512 دينارا إلى 17.664 دينار مقابل كل يوم عمل فعليّ. ترفيع لا يكاد يغطّي نسبة التضخّم التي شهدتها البلاد خلال السنة الأخيرة ولا يغطّي حتما نفقاتهنّ. علاوة على ذلك، تغضّ الدولة بصرها عن عجزها الكلّي عن تفعيل الرقابة على مدى احترام تطبيق هذه التسعيرة عند تشغيل النساء. فبين استغلال الوسيط والفلاّح لغياب سبل الرقابة والحاجة الملحّة للعاملات للذهاب إلى الحقول، تبقى الدولة بنصوصها وأجرها الأدنى المضمون نظريّا، بعيدة كلّ البعد عن واقع العاملات في القطاع الفلاحي وحقّهنّ في الأجر العادل.

يظهر نفس التذبذب والجهل بواقع هؤلاء النساء من خلال تعامل الدولة مع مطلب النقل الآمن. سنّ البرلمان القانون عدد 51 لسنة 2019 المتعلق بإحداث صنف نقل خاص بالعملة والعاملات في القطاع الفلاحي إثر فاجعة السبّالة والتي راحت ضحيتها 12 عاملا وعاملة بالإضافة إلى وقوع 20 جريحا، تحت ضغط مجتمعيّ واسع. ردّة فعل لم تكن لتحصل لولا أنّ أصابع الاتهام اتجهت إلى الدولة وعلى رأسها وزارة المرأة ووزارتي النقل والشؤون الاجتماعية، التي اعتمدت سياسة التسويف على مرّ ثلاث سنوات. حيث وقع تقديم مقترح من المجتمع المدني لتنقيح الفصول 21 و23 من قانون النقل البرّي منذ سنة 2016.

على الرغم من سنّ هذا القانون، فإنّ مطلب النقل الآمن لم يتحقق في ظلّ عجز الدولة وأحيانا تواطؤ أعوانها في الرقابة على وسائل النقل التي تمتطيها النساء العاملات في القطاع الفلاحي، وكذلك الإشكال في مقاربة الدولة في معالجة هذا الملف. تعتبر حياة العطّار، المكلّفة بملف النساء العاملات في القطاع الفلاحي بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، أنّ فشل هذا القانون في تحقيق أهدافه يُعزى لسببين رئيسيين: أولهما أنّ الدولة سنّت هذا القانون الذي يحدّد الشروط الدنيا الواجب توفيرها في النقل الريفي دون الأخذ بعين الاعتبار المقاربة الاجتماعية. حيث أنّ النساء وإن كانت علاقتهنّ بالوسيط متسمة في جزء منها بالاستغلال فإنّها في جزء كبير منها تقوم على معرفة شخصيّة أو عائليّة. “فالنساء في المناطق الريفية لا يركبن في شاحنات رجال لا يعرفنهم.” تغاضي الدولة عن “هيكلة العلاقة الشغلية” بين العاملات والوسطاء والفلاحين والاقتصار على تجريم الوسيط وهو -على مساوئه- محرّك أساسي للعمليّة الشغلية مع غياب سبل رقابة ناجعة. وقد أدّى اليوم إلى تقنين ابتزاز عنصر رابع ألا وهو الأمن، للوسيط ومن خلفه الفلاح والعاملة. من جهة أخرى، تعتبر العطّار أنّ مطالبة الوسيط بمواصفات محدّدة في النقل بصفة مُسقطة من الدولة ودون ضمان تسهيلات لنقل أكثر أمانا، يجعل معايير الدولة مجرّد حبر على ورق. خصوصا في ظلّ تراخي الحكومات المتعاقبة في إصدار الأمر الحكومي المتعلّق بشروط الانتفاع بخدمة النقل غير العمومي غير المنتظم المخصّص للعاملين في القطاع الفلاحي.

بين المقاربة التشريعية الترقيعية وبين الخطابات الموسميّة إثر كلّ فاجعة في صفوف العاملات في القطاع الفلاحي، تبقى النساء ضحّيةَ حوادث نقل. إذ ارتفعت بشكل ملحوظ منذ سنة 2020، لتسفر منذ سنة 2020، وفق أرقام المنتدى التونسي للحقوق الاقتصاديّة والإجتماعيّة، عن وفاة 50 عاملة، و710 جريحة، تواصلن حياة الشقاء ومسيرة النضال في ظل ظروف اجتماعية صعبة وغياب لأبسط حقوقهنّ في الرعاية الصحية والحماية الاجتماعية.

على غرار مطلبي الأجر اللائق والنقل الآمن، يُجابَه مطلب التغطية الاجتماعية بسياسة ارتجالية من قبل الدولة. حيث يقوم نظام التغطية الاجتماعية على مبادرة التسجيل من قبل المؤجر، أي الفلاّح في حالة العاملات. يرتطم هذا النظام بواقع مختلف، حيث أنّ النساء العاملات في القطاع الفلاحي في أغلبهنّ لا يشتغلن بصفة قارّة لدى نفس الفلاّح. بل يلعب الوسيط دور اختيار النساء وتقسيمهنّ على الحقول بطريقة لا تمكّن من ضمان عمل مستديم لدى نفس المؤجر وهو ما يتمّ استغلاله من قبل الفلاّحين للتنصّل من واجب التسجيل. من ناحية أخرى، يتحرّك أعوان التفقّد التابعون للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي لمعاينة حالات العمل الفلاحي دون تغطية اجتماعية في معظم الحالات بناء على شكايات تقوم بها العاملات اللواتي أوّلا، نفذن إلى معلومة حقّهنّ في التغطية الاجتماعية وهو معطى ليس متاحا للجميع. وإن أتيح فانّ العاملات يخشين فقدان مورد رزقهنّ فيخترن عدم الإبلاغ عن حالات العمل دون تسجيل.

من جهة أخرى، يتيح القانون إمكانية انخراط العاملات بصفة تلقائية في نظام التغطية الاجتماعية، عبر دفع مبلغ مساهمة، قد يبدو غير مرتفع[4]. ولكنّه نظرا لمداخليهنّ المحدودة وغير القارّة يحول دون تمتعهنّ بحقهنّ في التغطية. لتجاوز هذه الهنات برزت بعض المحاولات البديلة، على غرار منظومة “احميني” المتعلقة بالتغطية الاجتماعية المخصصة للعاملات، والتي تمكّن العاملات في القطاع الفلاحي من دفع اشتراكاتهنّ بالصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن طريق الهاتف. هذه الفكرة، التي حصد بها صاحبها ماهر الخليفي جوائز حول العالم، وظّفت لتلميع صورة حكومة يوسف الشاهد حينها، ولم تجد من يسندها من السلطة الحالية. النتيجة كانت ديونا متخلّدة بذمّة أكثر من 2600 امرأة بادرن بالتسجيل في المنظومة، لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، نظرا لتعطّل العمل بالمنظومة.

لا يختلف الوضع في علاقة بالتشريعات والاتفاقات التي تمّ ابرامها في هذا المجال على غرار الأمر الحكومي عدد 379 لسنة 2019 المتعلق بأساليب تطبيق القانون عدد 32 لسنة 2002 المتعلق بنظام الضمان الاجتماعي لبعض الأصناف من العملة والعاملات في القطاع الفلاحي. كما هي الحال أيضا بالنسبة للاتفاقية الإطارية الموقّعة في أكتوبر 2018 بين وزارة المرأة ووزارة الفلاحة ووزارة الشؤون الاجتماعية والرامية إلى إرساء آليّات خصوصية لتمكين النساء العاملات في الوسط الريفي والقطاع الفلاحي على وجه الخصوص من الانتفاع بالتغطية والاجتماعية، والتي تم تحقّق النتائج المرجوة منها[5].

في الواقع، تصطدم آليّات الدولة في هذا المجال أوّلا بضعف إمكانياتها البشرية واللوجستية- إن توفرت الإرادة السياسية- لمعرفة الأشخاص المستحقين للمساعدات. ثانيا بانفصال الإجراءات القانونية عن واقع العاملات في القطاع الفلاحي واللواتي تجدن أنفسهنّ أمام برامج متعدّدة للدولة، لا تزيدها الشروط المجحفة أحيانا إلاّ تعقيدا في ذهن العاملات. تضيف السيدة حياة العطّار أنّ تعدّد المتدخلين في مسألة النهوض بواقع النساء العاملات في القطاع الفلاحي بين وزارة المرأة والشؤون الاجتماعية والتجهيز في علاقة بالنقل من دون تصوّر وسياسة واضحة لمعالجة الأزمة، يجعل البرامج متعدّدة دون منطق موحّد يسيرها وهو ما يسهّل تفصّي كلّ طرف عمومي من المسؤولية.

“تهميش القطاع الفلاحي أدّى إلى تهميش الحلقة الأضعف فيه وهن النساء العاملات في القطاع الفلاحي”. هكذا تلخّص حياة العطّار وضعيّة هؤلاء النسوة مؤكّدة على أنّه “ليس للدولة سياسة واضحة في القطاع الفلاحي”.

ما الدولة يا  نورة ؟

عن تعامل الدولة معهنّ تقول  نورة ؛ “الدولة لا تتعامل معنا… رأيت “الدولة” مرتين خلال ستيّن سنة من عمري. المرّة الأولى حين سلمتني عاملة في الهيئة الفرعية للانتخابات بعض الأقلام الجافة لأبنائي، والثانية من خلال ظرفين يفيدان بأنه على ابنيّ الاثنين الالتحاق بالجيش الوطني”. تضيف  نورة”عندما انتخب الرئيس سعيّد ظننّا أن حقوقنا مع رجل القانون لن تهضم بعد اليوم وعندما رأينا ثلاث أو أربع نساء في الحكومة تعالت زغاريدنا تبشيرا بأنّ حكم النساء سيفضي لضمان حقوق النساء، وعلى رأسهنّ نحن”.

أمّا سماح فتتردّد قبل الإجابة قائلة: “صورة الدولة غير واضحة في ذهني…ليس لي حقوق فعن أيّ دولة تتساءلين؟” ثم تستدرك قائلة بأنّ الدولة تتشكّل أحيانا في هيئة عون أمن يستوقف الوسيط، وعلى متن شاحنته أكثر من ستّين امرأة. تستوقفه “الدولة” حينا ثم تتركه يمرّ بسلام، رغم وجود قوانين أعرفها تمنع ذلك، بعد استلام عشرين دينارا مع تذكيره “الصارم” بوجوب المرور للاستخلاص في الدفعة الثانية”.

تمظهرات الدولة في مخيّلة نساء عمق البلاد ووعيهنّ بغيابها على المستوى الجهوي جعلتهنّ “يحتفلن”، هذه السنة، بعيدهنّ من قلب تونس العاصمة وتحديدا من أمام المسرح البلديّ يوم 3 أكتوبر 2022. مكان لم نعهد فيه حضور النساء العاملات بالفلاحة. فمهما علت أصوات احتجاجاتهنّ لم تبلغ يوما مركز السلطة السياسية. تحوّل ملحوظ في طرق النضال سواء من خلال اختيار المكان أو من خلال هيكلة الخطاب السياسي.

اعترفوا بنا: تبلور الخطاب وتطوّر النضال

“…الفلاح يخدمنا حنايا ب 20 دينار بش ما يجيبش راجل يخدّمو بأربعين وخمسين دينار… طالبن حقّنا في التغطية الاجتماعية وفي الأجور…أجرنا زهيد … مفماش حقوق… المرا الي تطيح وتتكسّر ما يتلفتلها حد على خاطر الفلاح يجيب غيرها…إحنا طالبين حقوقنا ما طالبين شي زايد… إحنا في تونس…إحنا بنات تونس… وين حقّنا… كان نقعدوا حنايا ما نخدموش تونس كاملة تحبس… اعترفوا بينا”.

هكذا لخصّت إحدى المتظاهرات مسيرة عقود من النضال النسائي المخضّب بدماء العانلات في الفلاحة. بعيدا عن النزعة الرومانسية للتضامن مع نساء عمق البلاد، بدت المتظاهرات غاضبات مطالبات بحقوق واضحة، لخصنها في حقّهن في الضمان الاجتماعي وفي الأجر اللائق وفي التغطية الصحية وفي نقل آمن. فعبّرن عنها في شعار وحيد وهو “اعترفوا بنا” في إشارة مباشرة للدولة وسياساتها التهميشيّة على مدى عقود للشريان النابض للفلاحة التونسية: النساء.

تؤكّد المتظاهرات على أنّ قدومهنّ للعاصمة ليس من قبيل التباهي لكنّه من قبيل إيصال الصوت إلى المركز. فأمام تجاهل تامّ لتحرّكاتهنّ محليّا على مدى سنوات من قبل الدولة بادرت العاملات في القطاع الفلاحي بجبنيانة[6] برصّ صفوف رفيقاتهنّ في ولايات سيدي بوزيد والقيروان وغيرها من المناطق للتظاهر في شارع الثورة. قوبل هذا التحرّك النسائي لا فقط بتجاهل من الدولة، بل كذلك من خلال “حلّ” قمعي. حيث تمّ تجميع النسوة في حافلة مرافقة بالأمن وتوصية السائق بعدم التوقف الاّ بعد الوصول الى جبنيانة.

“قدمت إلى تونس العاصمة رفقة رضيعي وكنت قد تركته لدى قريبتي، عند إجباري على الصعود في الحافلة هدّدت برمي نفسي لكي أتمكّن من أخذ ابني معي، حينها توقف السائق تحت وابل شتائم عون أمن الذي تركني بعد محاولات عديدة أمرّ رفقة بعض زميلاتي لأصطحب ابني”، هكذا وصفت إحدى المتظاهرات ما عاشته خلال التحرّك.

مثّل هذا التحرّك نقلة في نضال النساء العاملات في القطاع الفلاحي حيث التجأن إلى العاصمة من خلال هذا التحرّك كتتمّة لمسيرة كانت نساء جبنيانة قُدنها في 13 أكتوبر 2021 مطالبة بنفس الحقوق إثر سنوات من المطالبة على المستوى المحلّي التي لم تجد لها آذانا صاغية. نضال النساء في القطاع الفلاحي من أجل حقوقهنّ الأساسيّة لا يقتصر فقط على البعد الاحتجاجي، بل يتبلور كذلك من خلال التوجّه الى تنظيم نقابات أساسية منضوية تحت الاتحاد العامّ التونسي للشغل، على غرار نقابات جبنيانة وسيدي بوزيد وباجة وسليانة. وذلك إيمانا منهنّ بأنّ التنظّم من شأنه اسنادهنّ في مطالبهنّ وأنّ التفاوض الاجتماعي من شأنه تحقيق مطالبهنّ الاقتصادية والاجتماعية.

حول الخطوات النضالية القادمة، تلمح بعض العاملات في القطاع الفلاحي إلى إمكانيّة لجوئهن إلى الإضراب العام في كامل تراب الجمهورية أملا في صحوة من الدولة في علاقة بمطالبهن المشروعة واستفاقة مجتمعية حول أهمية دورهن في إيصال القوت اليومي لموائد التونسيين والتونسيات. أهداف تبدو واقعية ومعقولة لكن تحقيقها يبقى مرتهنا بمدى تأطير وتفاعل المركزية النقابية معهن ومدى التزام السلطة الحاكمة وعلى رأسها قيس سعيّد بعهوده للكادحات.


[1] مصطلح بالعامية التونسية لغطاء رأس ترتديه النساء في تونس

[2] لفظ بالعامية التونسية تعني الأتاوة

[3] غطاء للرأس زاهي الألوان تلبسه النساء في الوسط الريفي، أصبح يمثل رمزا لهنّ وترتديه العديد من النساء خلال المظاهرات كحركة تضامنية مع النساء العاملات في الوسط الريفي: https://urlz.fr/jCkI

[4] 61,900  دينارا في الثلاثية

[5] انظر بيان المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية: الحكومة أمام تحرك عاملات القطاع الفلاحي: ناديت ولو اسمعت حيا ولكن لا حياة لمن تنادي: https://urlz.fr/jCCm

[6] مدينة من ولاية صفاقس

انشر المقال

متوفر من خلال:

مساواة ، جندر ، تحقيقات ، مقالات ، تونس ، حراكات اجتماعية ، لا مساواة وتمييز وتهميش ، حقوق العمال والنقابات ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني