الضاحية الجنوبية شيّعت ضحايا الطيونة


2021-10-17    |   

الضاحية الجنوبية شيّعت ضحايا الطيونة

استعادت منطقة الطيونة ومعها “خط التماس” التاريخي بين الشياح وعين الرمانة مشهداً عنيفاً من مشاهد الحرب الأهلية التي أطلّت برأسها مجدداً قبل ظهر الخميس 14 تشرين الأول 2021. كانت تمطر رصاصاً وقذائف هاون انتهت إلى سقوط سبع ضحايا وفق تغريدة الصليب الأحمر اللبناني على صفحته على تويتر. اشتباكات اندلعت خلال تظاهرة دعا إليها الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) رفضاً لإستدعاءات المحقق العدلي القاضي طارق بيطار في قضية تفجير المرفأ بحق نواب ووزراء سابقين. شُيع مواطنون قتلوا في منازلهم (الضحية مريم فرحات) أو خلال عملهم (عامل الديلفري علي ابراهيم) وقضى آخرون خلال مشاركتهم في التظاهرة في الشارع. وتبنّت حركة أمل ثلاثة  وهم مصطفى زبيب، حسن مشيك، وحسن نعمة، في حين شيّع حزب الله أربعة من بينهم فرحات وابراهيم إضافة إلى الضحيتين محمد السيد ومحمد تامر.

وكما قضى أهالي ضحايا تفجير المرفأ وهم يمارسون حياتهم اليومية سالمين هانئين، قضت مريم فرحات على شرفة منزلها وهي تنتظر عودة إبنتها من المدرسة. أصابها الرصاص وهي تنجز طعام الغذاء، وتنشر غسيل أولادها الخمسة.

 

من يخبر هاجر بوفاة أمها

في الطبقة الثانية من عمارة مؤلفة من 3 طوابق، تسكن مريم فرحات همدر وعائلتها. عمارة سكن فيها جد زوجها  قبل الحرب الأهلية وخلالها، وفيها قضى نَحبَه كما “قتلت مريم برصاص القناصة”، بحسب ما أفاد زوجها للمفكرة.

عند مدخل العمارة يتجمع عدد من الرجال لاستقبال المعزّين، أبناء الضحية يتجهزون للتشييع، حيدر (22 عاما) ومهدي (19 عاما) ومحمد (12 عاماً) ويرتدون بدلاتهم العسكرية الخاصة بحزب الله، فهم سيحملون نعش والدتهم “شهيدة المقاومة”. أما ابنتها فاطمة، العروس التي مرّ على زواجها أربعة أيام قبل الحادثة، فتحتضن شقيقتها الصغرى هاجر، إبنة الخامسة من عمرها، والتي لا تعلم إلى اليوم سبب غياب والدتها عنها. قالوا لها أن مريم، أمها، سافرت فجأة، لكن لم يخبروها بمدة غيابها، أو حتى بموعد عودتها.

يروي أبو حيدر، زوج مريم، أنه عند احتدام الرصاص حوالي الساعة الحادية عشرة، وقد أصاب بعضها عامود الكهرباء المجاور للمنزل، كانت مريم قد صعدت إلى شقتهم لتخابر سائق حافلة مدرسة صغيرتها هاجر، لتطلب منه أن لا يمرّ بالطيونة، بل ينزلها في منزل جدتها التي تقطن في منطقة أخرى آمنة. بعد مرور أكثر من 20 دقيقة، طلب الزوج من إبنه مهدي أن ينادي والدته كي تنزل إلى الطوابق السفلية خوفاً من الرصاص. صعد مهدي درجات السلم، دخل المنزل ولكن لم تكن مريم بانتظاره.

كان مهدي أول من عثر على أمه مردية قتيلة على شرفة منزلها، بعد أن طال غيابها. دخل إلى المنزل بحثاً عنها في المطبخ وغرفة النوم ثم “بيت الراحة”(غرفة الجلوس) ولم يعثر عليها. طنجرة الأرز على النار المشتعلة تكاد تحترق. أطفأ مهدي النار وراح يناديها “إمي إمي وينك”، ليعثر عليها على الشرفة مضرجة بدمائها.

يأخذنا مهدي إلى الشرفة المواجهة للشارع الرئيسي ومنطقة عين الرمانة، يشير إلى الستارة الممزقة بالرصاصة التي أصابت والدته،  معتبراً أن من أصابها قناص ماهر، مستبعداً أن تكون قتلت برصاصة عشوائية.

بصمات مريم لا زالت حاضرة في البيت في الثياب المعلقة على الحبال، في وجبة الطعام التي كانت تعدها لأولادها، في مراطبين المؤنة التي تضع عليها لمساتها الأخيرة، وفي سلة الفاكهة الموضوعة وسط طاولة الطعام. كله ما زال على حاله كما وضعته مريم منذ ساعاتٍ قليلة.

لم تكن مريم في الشارع، لم تتظاهر حتى. كانت مواطنة تمارس حياتها اليومية بين جنبات منزلها وتنتظر عودة أبنائها من جامعاتهم ومدارسهم. ولكن لعنة خط التماس التي قتلت خلال حرب 1975 جد زوجها عادت لتصطاد روحها في المكان نفسه، وتحرمها من شبابها وتحرم عائلتها منها.

 

ضحايا الأحزاب

تمّ تشييع الضحايا الخمسة الآخرون المنتمون إلى حركة أمل وحزب الله، جلّهم شبان في مقتبل العمر، كما يحكي عنهم رفاقهم، وتقول صورهم التي تنتشر في المنطقة وفي ضيعهم ومعها فيديوهات لهم على مواقع التواصل الاجتماعي.  في إحدى الصور تظهر والدة الضحية مصطفى زبيب (مواليد 1995) المسؤول التنظيمي والمسؤول الثقافي في شعبة حركة أمل في قريته النميرية. إمرأة في العقد الخامس تتشح بالسواد، حاملةً صورة وحيدها الذي يعمل مع عمه في الصوتيات. قرر مصطفى نهار الخميس تلبية دعوة الحركة للتظاهر ناشراً صورة الرئيس نبيه بري على حسابه على الفايسبوك مع عبارة “في الحرب والسلم  بايعناك”.

يعمل الضحية حسن مشيك (1992) وهو أب لطفلين، سائق حافلة صغيرة “فان” يتحدر من بلدة رميتا البقاعية-بيروت، ويسكن في منطقة حي السلم-صحراء الشويفات. قرر حسن بدوره المشاركة في التظاهرة فأصيب بطلق ناري نقل على أثره إلى مستشفى الساحل ليفارق الحياة. بات أولاد مشيك يتامى كأطفال من قضوا في هذه البلاد لأسباب مختلفة، ربما يذهبون إلى المدرسة ذاتها أو الجامعة ذاتها، ربما يصبحون أصدقاء، وقد يهاجرون إلى بلدٍ أفضل، لكن الثابت واحد: دفنوا أباءهم في تراب هذا الوطن لإعتبارات وأسباب مختلفة. والحال هي عينها مع عائلة الضحية حسن نعمة (1964) وأولاده الثلاثة، والذي ووريّ في ثرى روضة الشهيدين.

جنائز تشييع ضحايا أحداث الطيونة جابت معظم شوارع الضاحية الجنوبية. شُيّع محمد السيد من منزله في الشياح، “لن ينام أولاده بعد اليوم في أحضانه، لن يلعبوا معه، لن يقلهم إلى المدرسة ، لن يتناول الفطور والغذاء والعشاء معهم، الموت الحقيقي هو عندما يفقد الأولاد رويداً رويدا ذكرى آبائهم، الموت الحقيقي هو أن تتلاشى تفاصيل حياتهم اليومية مع أحبائهم”، كما يقول أحد جيرانه.

يرى أحد أصدقاء الضحية محمد تامر أن صديقه لم يهنأ بعد بخطوبته التي لم يمر عليها سوى شهرين. شاب في مقتبل العمر، “انتهت أحلامه” كما انتهت أحلام الضحية علي إبراهيم ببناء منزل وعيش حياة طبيعية بطلقة رصاص.

انشر المقال

متوفر من خلال:

تحقيقات ، أحزاب سياسية ، استقلال القضاء ، محاكمة عادلة وتعذيب ، لبنان ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجزرة المرفأ ، محاكمة عادلة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني