الرئيس التونسي يعلن حالة الاستثناء: خروج مؤقت عن الدستور؟


2021-08-01    |   

الرئيس التونسي يعلن حالة الاستثناء: خروج مؤقت عن الدستور؟
الرئيس التونسي قيس سعيد

أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد مساء 25 جويلية، ذكرى إعلان الجمهورية الأولى، حلّ حكومة هشام المشيشي القائمة وتوليه السلطة التنفيذية بمساعدة رئيس حكومة سيختاره، وتجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وكذلك ترؤسه للنيابة العمومية، استنادا إلى الفصل 80 من الدستور المنظم لحالة الاستثناء. جاء ذلك في خطاب مصوّر ألقاه في اجتماع مع قيادات عسكرية وأمنيّة، بعد أن عرفت البلاد يومها احتجاجات وتجمعات احتجاجية في مختلف الجهات استهدفت خاصّة مقرات حركة النهضة، ومقرّ البرلمان في باردو رغم كلّ محاولات التضييق الأمني، بالإضافة إلى الوضعية الوبائية. تبع خطاب الرئيس حصار مقرّ المجلس التشريعي من قبل قوات الجيش التي منعت، في مشهد تاريخي، رئيسه وبعض نواب الأغلبية من الدخول. مشهد اعتبره البعض انقلابا مكتمل الأركان، وهلّل له كثيرون رغم اختلاف منطلقاتهم وانتظاراتهم، بين من يئس من الديمقراطية وحنّ لمثال المستبد العادل، ومن اعتبره استعادة لمسار الثورة المغدورة ومدخلا لبناء ديمقراطية حقيقيّة لا ينخرها الفساد والإفلات من العقاب، ومن يرى في حركة النهضة “سرطانا” لا يمكن اصلاح شيء دون استئصاله، وغيرهم. أمّا رئيس الجمهورية، فلا يزال، رغم مطالبة الكثيرين في الداخل والخارج بذلك، لم يوضّح بعدُ أولوياته ولا الأفق الزمني لها ولم يصدر خارطة طريق للعودة إلى السير العادي للمؤسسات. غموض لا يمكن له إلاّ أن يثير المخاوف، خاصّة في ظلّ غياب أهمّ ضمانة لعدم الانحراف بحالة الاستثناء، وهي المحكمة الدستورية، وتعليق عمل السلطة المضادة الأخرى التي فرض الفصل 80 أن تبقى في حالة انعقاد دائم، وهي البرلمان.

ولئن كان اختزال قراءة خطوة رئيس الجمهورية في المقاربة القانونية لا يسمح بفهم أمثل لها، فإنّ ذلك لا يعني القفز على سؤال الشرعية الدستورية، باسم المشروعية السياسية والإرادة الشعبية التي عبّرت عن نفسها قبل وبعد خطاب الرئيس، خاصّة وأن هذا الأخير لا يزال متمسّكا بالأولى، سواء في خطابه أو في الأوامر الرئاسية التي أصدرها.

الفصل الذي يضع بقية الدستور بين قوسين

يمنح الفصل 80 من الدستور لرئيس الجمهورية، ”في حالة خطر داهم مهدّد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر عه السير العادي لدواليب الدولة“، صلاحية اتخاذ كل التدابير التي تحتمها الحالة الاستثنائية، والتي يجب أن تهدف ”إلى تأمين عودة السير العادي لدواليب الدولة في أقرب الآجال“.

يضع الفصل ذاته شرطين إجرائيين لإعلان حالة الاستثناء، وهما استشارة رئيسي الحكومة والبرلمان، دون أن يكون رأيهما ملزِما، وإعلام رئيس المحكمة الدستورية. وإذا كان رئيس الجمهورية سيّد قراره عند الإعلان عن حالة الاستثناء، فإن استمرارها بعد مضيّ ثلاثين يوما رهين موافقة المحكمة الدستورية، التي تتعهد في الأمر بطلب من رئيس البرلمان أو ثلاثين من أعضائه. بالإضافة إلى تدخّل المحكمة الدستورية، يقتضي الفصل 80 بقاء البرلمان في حالة انعقاد دائم، ومنع حلّه، وتحصين الحكومة من إمكانية تقديم لائحة لوم.

من الواضح إذن أنّ فلسفة الفصل 80، التي نجدها كذلك في الأصل الفرنسي، وهو الفصل 16 من دستور الجمهورية الخامسة[1]، تقوم من جهة على إطلاق يدي رئيس الدولة عند إعلان حالة الاستثناء، مع إضفاء ضمانات قضائية على إمكانية استمرارها بعد أجل معيّن، ومن جهة أخرى، إطلاق صلاحياته في اتخاذ الإجراءات التي تحتمها حالة الاستثناء وتركيز السلطات لديه، على حساب بقية فصول الدستور وخاصّة مبدأ الفصل بين السلط، لكن مع تحصين الحكومة من إمكانية إسقاطها برلمانيا، وتحصين البرلمان من إمكانية الحلّ. فحدود الاجراءات التي يمكن اتخاذها عملا بالفصل 80 موجودة في الفصل ذاته، لا خارجه. بعبارة أخرى، عندما يطبّق الفصل 80، فإنّ بقية فصول الدستور توضع بين قوسين.

هذا يعني أنّ اجراءات إعفاء الحكومة وتولّي كلّ السلطة التنفيذيّة، ورئاسة النيابة العمومية بصرف النظر عن تراجع رئيس الدولة عنها، وحتى رفع الحصانة البرلمانية، والتدخّل في مجال القانون، كلّها جائزة وفق حالة الاستثناء طالما قدّر رئيس الجمهورية ضرورتها، وذلك على عكس تعليق أعمال البرلمان، الذي يخالف نصّ وروح الفصل 80.

تجميد عمل البرلمان، الخطوة التي تجاوز بها سعيّد الشرعية الدستورية

يصرّ رئيس الجمهورية على أنّه لم يخرج من الشرعية الدستورية، إذ أن البلاد كانت أمام أخطار داهمة، ليس أقلّها ”الموت“، في إشارة إلى الارتفاع الكبير في أرقام ضحايا فيروس كورونا والفشل الحكومي الذريع في مجابهته. كذلك، يعتبر سعيّد أنّه احترم شرط استشارة رئيسي الحكومة والبرلمان، رغم نفي راشد الغنوشي ذلك. يبقى إعلام رئيس المحكمة الدستورية، وهو غير ممكن نظرا لغيابها. هنا اختلفت الآراء، إذ يعتبر أستاذ القانون العامّ والرئيس السابق للهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي عياض بن عاشور أنّ غياب المحكمة الدستورية يجعل أحد الشروط الشكلية للجوء إلى الفصل 80 غير متوفّر. أمّا الجمعية التونسية للقانون الدستوري، فقد لمّحت في بيانها إلى نظرية الإجراء المستحيل، مما يعني أنّ لجوء رئيس الجمهورية إلى الفصل 80 من الدستور بصرف النظر عن الإجراءات المتخذة بناء عليه لا يطرح في حدّ ذاته إشكالا دستوريا.

لكنّ النقطة التي تكاد تُجمع عليها مختلف الآراء القانونية، هي أن تعليق عمل البرلمان لا يدخل ضمن الإجراءات التي بإمكان رئيس الجمهورية اتخاذها حسب الفصل 80 فهذا الأخير لا ينصّ فقط على عدم إمكانية حلّ البرلمان، وإنّما أيضا على بقائه في حالة انعقاد دائم. حتى الأستاذ أمين محفوظ، ورغم مساندته للإجراءات المتخذة، فقد أقرّ أنّ رئيس الجمهورية ” توسّع “ في تأويل الفصل 80 عبر تجميده عمل البرلمان، وفسّر ذلك بأنّ سعيّد رأى في البرلمان وحكومة المشيشي مصدرا للخطر الداهم. نفس الفكرة نُقِلت عن سعيّد من قبل بعض المنظمات التي التقى ممثليها.

رئيس الجمهورية حاول، عند استقباله المنظمات الوطنية يوم 26 جويلية، تفسير تطبيقه للفصل 80. لكن، بغضّ النظر عن الاعتبارات السياسية وربّما الأمنيّة، فإنّ حجّته القانونية لتبرير تعليق أعمال البرلمان لم تكن مقنعة. فقد اعتبر أوّلا أن الدستور لا يسمح بحلّ البرلمان، لكنّه ”لا يقف مانعا أمام تجميد كل أعماله“. أمّا بقاؤه في حالة انعقاد دائم، حسب الفصل 80 نفسه، فقد اعتبر سعيّد أن هذا لا يعني شيئا، مستشهدا بمثال جامعة الدول العربية التي كثيرا ما تبقى في حالة انعقاد دائم. ترجم سعيّد إعلان 25 جويلية بالأمر الرئاسي عدد 80 لسنة 2021، الذي علّق به جميع اختصاصات مجلس نواب الشعب لمدّة شهر قابل للتمديد بأمر رئاسي، أي أن هذا الإجراء سيدوم طالما رأى رئيس الجمهورية حاجة في ذلك، على أن يترافق التعليق مع رفع الحصانة عن جميع النواب. فكأنّ سعيّد اعتبر أنّ تعليق اختصاصات البرلمان يعني كذلك تعليقا لعضويّة نوابه، أو لأحد استتباعاتها وهو الحصانة.

لا أحد ينكر الفرح الشعبي العارم بقرار تجميد عمل البرلمان ورفع الحصانة عن نوّابه، الذي ظهر ليس فقط في الشارع بل كذلك في معطيات سبر الآراء[2]، والذي تتحمّل مسؤوليته النخبة السياسية بصفة عامّة، ورئاسة المجلس وبعض الكتل النيابية بصفة خاصّة. وقد استعمل رئيس الجمهورية، ومن ساندوه، جدليّة المشروعيّة والشرعيّة، لدحض حجّة عدم دستورية تعليق أعمال البرلمان، فأصبح كلّ من يعطي موقفا قانونيا يرمى ’بالشكلانية’. لكنّ الأمر لا يتعلّق فقط بنصّ الفصل 80، على أهميّته وضرورة احترامه. بل أنّ بقاء البرلمان في حالة انعقاد دائم هو، مع تدخّل المحكمة الدستورية(المستحيل نظرا لغيابها) الضمانة المؤسساتية الوحيدة أمام عدم الانحراف بحالة الاستثناء سواء في مدّتها أو في التدابير المتخذة باسمها. في غيابهما، يصبح كلّ شيء مرتبطا بإرادة شخص واحد، حتّى إذا افترضنا حسن نواياه. هذا ما يفسّر أن معظم الدساتير تمنع، عند تنظيمها لحالة الاستثناء، حلّ البرلمان، بما فيها تلك التي تجعله في الأوقات العادية صلاحية تقديرية بيد السلطة التنفيذية.

المحكمة الدستورية: الضمانة الكبرى لعدم الانحراف مفقودة

لا يتعلّق السؤال عن جواز إعلان حالة الاستثناء في غياب المحكمة الدستورية فقط بمدى توفّر شرط شكلي. فهذه الأخيرة هي ضمانة كبرى لعدم الانحراف بحالة الاستثناء، إذ تبتّ بعد شهر من إعلانها في جواز استمرارها. كما لا ننسى أنّ المحكمة الدستورية وحدها بامكانها، بأغلبية الثلثين، الحكم بإعفاء رئيس الجمهورية، إذا ما تبيّن لها إتيانه “خرقا جسيما” للدستور، بناء على لائحة اتهامية يصوّت عليها البرلمان بأغلبية ثلثيه. ميشال تروبر يعتبر هذه الصلاحية الضمانة الوحيدة الحقيقية أمام خطر تركيز السلطة بيد شخص واحد عند تطبيق حالة الاستثناء[3]. في غياب المحكمة الدستورية، تصبح حالة الاستثناء دون حدّ زمني، ولا رقابة قانونية أو مؤسساتية.

إلاّ أن تكراّر اللجوء إلى الفصل 80 في السابق، دون معارضة أو جدل يذكر لدى النخبة السياسية أو المختصّين في القانون، أفقد هذه الحجّة الكثير من فاعليتها. فبالإضافة إلى تكرار الإشارة إلى الفصل 80 في بعض الأوامر المتعلقة بإعلان حالة الطوارئ، والذي ينمّ عن خلط بين هذه الأخيرة وحالة الاستثناء، استعمل قيس سعيّد نفسه إبّان الموجة الأولى لفيروس كورونا حالة الاستثناء من أجل إقرار حظر التجول والحجر الصحي الشامل، وكنّا قد حذّرنا حينها من خطورة التطبيع مع حالة الاستثناء، في غياب الضمانة الكبرى وهي المحكمة الدستورية ومن خطر استعمالها من قبل رئيس الجمهورية للتوسيع في صلاحياته.

صحيح أنّ رئيس الجمهورية ساهم، في الأشهر الماضية، في تعطيل تركيز المحكمة الدستورية، وذلك لأنه اعتبرها سلاحا موجّها ضدّه. لكنّ ثمة مسؤولية كبرى عن عدم تركيز هذه المؤسسة المحورية في النظام السياسي التونسي، تبقى على عاتق النخبة السياسية الحاكمة طيلة السنوات الفارطة، وبالتحديد حزبي نداء تونس وتفرعاته وحركة النهضة التي أخضعت كلّ الرهانات لحسابات الربح والخسارة الآنية والسعي الدائم إلى التموقع.

هل الإشكال كان في انعدام سبل الخروج الدستوري من الأزمة؟

يبقى أنّ تحليل خطوة رئيس الجمهورية يفترض كذلك العودة إلى سياقها السياسي. فقد عاشت تونس، على الأقل منذ صيف 2020، على وقع أزمة دستورية حادّة، لم يكن الخلاف بين رأسي السلطة التنفيذية سوى واجهتها. كانت انتخابات خريف 2019 قد أفرزت برلمانا متشظيا، عكَس ضعف ثقة الناخبين في الأحزاب، إذ لم يراكم حزبا النهضة وقلب تونس اللذان حلاّ في المرتبة الأولى والثانية، مجتمعيْن سوى ثلث الأصوات المصرح بها، أي أقلّ من ثُمُن الجسم الانتخابي، نظرا لضعف نسبة المشاركة، وهي حالة غير طبيعيّة بالمرّة في ديمقراطية برلمانية. في المقابل، مثّل الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية في عيون فئات واسعة من التونسيين استفتاءً على الأخلاق، حيث جمع قيس سعيّد الذي جسّد لدى فئات واسعة مثل الاستقامة والنزاهة، بنبيل القروي المحاط بشبهات تبييض أموال وتهرّب ضريبي، فتحصّل الأوّل على أغلبية غير مسبوقة، تفوق بفارق شاسع، مجموع أصوات جميع الأحزاب الممثلة في البرلمان.

هذا التناقض بين المشروعيتين وقع دفعه إلى أقصاه. فقد فتح اختيار سعيّد عدم خوض الانتخابات التشريعية بقائمات خاصّة به المجال لحزبي النهضة وائتلاف الكرامة لاستغلال صورته في حملتيهما الانتخابية، قبل أن ينقلبا عليه مباشرة بعد الانتخابات ويتحالفا مع حزب قلب تونس. هذا التحالف سمح لراشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة، بتولي رئاسة البرلمان، مما ساهم بدرجة كبيرة في توتير الأجواء داخله، ليس فقط لثقل رمزيته السياسية، ولكن أيضا نظرا لأدائه الضعيف، واستغلاله موقعه لخدمة أجنداته الحزبية. الغنوشي، الذي لم يكن قادرا على الترشح لرئاسة الجمهورية نظرا لضعف شعبيّته، لم يتردّد في استعمال رئاسة البرلمان كنافذة لمنافسة رئيس الجمهورية في اختصاصاته، مما عجّل بالقطيعة بين قصري باردو وقرطاج. قطيعة تعزّزت عبر الملفّ الحكومي، حيث ضيّعت حركة النهضة فرصة تشكيل الحكومة باختيارها حبيب الجملي لرئاستها، ثم انضمّت مكرهة إلى حكومة الياس الفخفاخ الذي اختاره رئيس الجمهورية، لكن دون التخلي عن تحالفها البرلماني مع كتلتي قلب تونس وائتلاف الكرامة المعارضتين، قبل أن يسقطوا معا حكومة الفخفاخ باسم مكافحة تضارب المصالح. استقال الياس الفخفاخ بعد إيداع حركة النهضة وحليفيها البرلمانيين لائحة سحب الثقة، معيدا الكرة إلى رئيس الجمهورية، فاختار هذا الأخير هشام المشيشي، وزير الداخلية في حكومة الفخفاخ والمستشار السابق لدى رئيس الجمهورية نفسه، آملا في أن يحكم عبره، لكنّ المشيشي انقلب على تعهداته له ليتحالف مع الأغلبية البرلمانية.

سعى المشيشي وحزامه البرلماني إلى إزاحة الوزراء المحسوبين على سعيّد، فردّ هذا الأخير بتعطيل التحوير الوزاري، مرّة أخرى باسم شبهات الفساد، واعتمادا على تأويل تعسّفي وغير مبرّر للدستور. لم تكن صلاحية الدعوة إلى أداء اليمين التأويل الدستوري الوحيد المتعسّف من قبل سعيّد، فقد أعقبتْه تأويلات أخرى هدفت إلى توسيع صلاحياته، منها اعتبار قوات الأمن التابعة إلى وزارة الداخلية خاضعة له كقائد أعلى للقوات المسلحة، واعتباره ختم القوانين صلاحية تقديرية حتى بعد استنفاد صلاحيات الطعن بعدم الدستورية والردّ والعرض على استفتاء. تشبث كلّ طرف بموقفه، فلم تحاول حركة النهضة إيجاد مخرج للأزمة ولم يتجاوب رئيس الجمهورية مع دعوات الحوار، خصوصا تلك التي بادر بها الاتحاد العام التونسي للشغل، ورفض استعمال الآليات الدستورية المتاحة بطلب البرلمان التصويت على الثقة في مواصلة الحكومة نشاطها، ووضعه أمام مسؤوليته.

أزمة دستورية انضافتْ إلى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والوبائيّة، والحصيلة الحكومية الكارثية في هذا المجال، وإلى أزمة ديمقراطية لم توفّر إجابات لمشاكل الناس، وأصبحت في نظرهم مرادفا للامتيازات والحصانة والإفلات من العقاب وصراع التموقع والوعود الانتخابية الكاذبة. جسّد البرلمان كلّ هذه الانحرافات، لتعمّق مشاهد العنف داخله القطيعة بين الشعب والمؤسسة التشريعية.

هنا، تعتبر بعض القراءات أنّ اللجوء إلى الفصل 80 كانتْ النافذة الوحيدة للخروج من هذه الأزمة، خاصّة بسبب استحالة حلّ البرلمان طالما كانت فيه أغلبية قادرة على منح الثقة للحكومة، وحصرإمكانية اللجوء إلى الاستفتاء في مشاريع قوانين مصادق عليها من قبل البرلمان، أو مشاريع تعديل الدستور لكن بعد أن تحظى بأغلبية الثلثين داخل البرلمان. لا شكّ أنّ دستور 2014 ضيّق من سبل اللجوء إلى الشعب، وحصّن البرلمان من الحلّ طالما كان قادرا على إيجاد أغلبية حكومية، ولم يعطِ رئيس الجمهورية السلطة التي تقابل مشروعيته الشعبيّة. لكنّ إرجاع الأزمة إلى خيارات النظام السياسي، وهو خطاب رائج جدّا، يحتاج بعض التنسيب. إذ كثيرا ما يحمَّل النصّ القانوني والدستوري عيوب نخبة سياسية، ربّما كانت ستنتج نفس الاخلالات مهما تغيّر النظام السياسي. فحتى لو كانت هنالك امكانية دستورية لحلّ البرلمان، فتغيّرت تركيبته بانتخابات تشريعية سابقة لأوانها، هل كان التناقض يحلّ إذا ما أصرّ رئيس الجمهورية على خيار عدم ترشيح قائمات خاصّة به أو دعم أحزاب متحالفة معه ؟ أليس أصل الداء في وجود رئيس جمهورية يريد أن يحكم دون دعامة برلمانية، وزعيم حزب اختار رئاسة البرلمان ليحكم بها، لعدم قدرته على رئاسة الحكومة واستحالة انتخابه رئيسا للجمهورية نظرا لضعف شعبيته ؟ أليست هشاشة البناء الديمقراطي بفعل نخبة سياسية استثمرت في إضعاف دعائمه المؤسساتية، وخاصّة منها القضاء، بحثا عن الإفلات من العقاب، وجعلت من التموقع في الحكم هدفا في حدّ ذاته، فعوّضت الصراع الديمقراطي بأساليب الابتزاز بالملفات ؟

رجال ونساء القانون في قفص الإتهام الشعبي

إنّ العودة إلى السياق الدستوري والسياسي لا يعني إضفاء شرعيّة قانونية على تطبيق رئيس الجمهورية للفصل 80، مثلما أنّ الموقف القانوني مما حصل لا يعني اصطفافا وراء الأحزاب السياسية المتضرّرة منه، ولا تبرئتها من المسؤولية عمّا آلت إليه الأوضاع.

لكن النقاش العامّ منذ إعلان 25 جويلية شهد حملة عنيفة على رجال ونساء القانون، خاصّة منهم الذين كان رأيهم مخالفا للمزاج الشعبي. تغذّت هذه الحملة من انطباع ساهمت زعيمة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي في ترويجه طيلة الأشهر الماضية، يقوم على تخوين كلّ من ساهم في مسار الانتقال الديمقراطي، وعلى رأسهم الأستاذ عياض بن عاشور، وتحميلهم مسؤولية وصول حركة النهضة للسلطة وبقائها فيها. هذا الخطاب ينخرط ضمن استراتيجية سياسية قائمة على تحويل الغضب الشعبي الكبير على حركة النهضة إلى موقف من الثورة ومن مسار الانتقال الديمقراطي الذي تلاها، وعلى تشويه النخب العلمانية التي لا تزال تدافع عن الثورة ومكاسبها، بغية احتكار معارضة النهضة.

من جهة أخرى، يجب الاعتراف بأن سيطرة الخطاب القانوني طيلة السنوات العشر الفارطة على النقاش السياسي ساهمتْ في إفراغ هذا الأخير من عمقه. لكنّ المفارقة هي أنّ طغيان النظرة القانونية للأشياء ليس أبدا حكرا على المختصّين في القانون، بل أن معظم النخبة السياسية، وحتى متتبعي الشأن العامّ، كثيرا ما يسقطون في الفخّ ذاته، وهو اختزال المشاكل في النصّ، وتوهّم الحلّ عبر تنقيحه. قيس سعيّد نفسه، وبغضّ النظر عن جواز اعتباره ”ضد المنظومة“، هو أبلغ تعبير عن مأزق النخبة السياسية التي تخفي عجزها عن مقارعة التحديات الاقتصادية والاجتماعية بتركيز على المسائل الدستورية. إذ أنّ مشروعه السياسي يختزل أزمة تونس في نظامها السياسي ويرى “البناء الجديد” حلا أوحد لها. كذلك الأمر، على اختلاف التشخيص والحلول المقترحة، لدى جزء كبير من النخب، بغضّ النظر عن تكوينها.

الأكيد أن تطبيق رئيس الجمهورية للفصل 80 سيعيد مرّة أخرى فتح باب نقاش النظام السياسي. ورغم أنّ سعيّد لم يوضّح بعد نواياه، ليس مستبعدا بالمرّة أن يكون هدفه هو تعديل الدستور في اتجاه تطبيق مشروعه. لكن، ورغم احتكار سعيّد لكل السلطة وتعليقه أعمال البرلمان وتمتّعه بزخم شعبي غير مسبوق، فإن العائق الأوّل أمام هذا الهدف هو تشبّث سعيّد نفسه بالشكلية القانونية، إذ أن أي تعديل دستوري يجب أن يمرّ عبر البرلمان ويحظى بأغلبية الثلثين داخله. ربّما كانت هذه العقدة من بين أسباب تكتّم سعيّد عمّا يعتزم القيام به. ربّما يكون ما نعيشه الآن، كما يحلم به الكثيرون، فاصلا لإعادة قطار الديمقراطية إلى سكّته عبر رفع قيود المحاسبة ورجّ القضاء لكي يقوم بدوره، كما قد يكون، كما يخشى آخرون، غلقا لقوس الانتقال الديمقراطي. لكنّ الأرجح، في انتظار ما قد يتجلى في قادم الأيام، هو أن يكون لا هذا ولا ذاك.

لقراءة المقالة مترجمة إلى الانكليزية

نشر هذا المقال في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

زلزال ديمقراطيّة فتيّة

  1. خاصّة بعد تعديله سنة 2008، أين تمّت إضافة دور رقابي للمجلس الدستوري على جواز استمرار حالة الاستثناء بعد مضيّ شهر من إعلانها.
  2. بالإضافة إلى ما ظهر في الشارع وفي وسائل التواصل الاجتماعي، أجرت شركة امرود سبر آراء حول قرارات رئيس الجمهورية، أظهر أن 87 بالمائة يوافقون عليها، بين مساندين إلى حدّ ما ومساندين بشدّة. ولعلّ اللافت للانتباه، هو أن أكثر القرارات التي تحمّس لها الناس، كان رفع الحصانة عن النواب (83 بالمائة مساندين بشدّة) وتجميد عمل البرلمان (81 بالمائة مساندين بشدّة).
  3. Michel Troper, « L’état d’exception n’a rien d’exceptionnel », in Droit et culture, Mélanges offers au Doyen Yadh Ben Achour, CPU, 2008, p. 1150.
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، أجهزة أمنية ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، تشريعات وقوانين ، استقلال القضاء ، تونس ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني