الدور الاجتماعي للدولة تحت حكم سعيّد: لا شيء إلا مساعدات مالية زهيدة.. والشعارات


2022-04-29    |   

الدور الاجتماعي للدولة تحت حكم سعيّد: لا شيء إلا مساعدات مالية زهيدة.. والشعارات

خلال الحوار الصحفي الذي أجرته معه جريدة الشروق بتاريخ 21 أفريل 2022، كشف وزير الشؤون الاجتماعية مالك الزاهي عن ارتفاع عدد الفقراء والمهمّشين بتونس ليبلغ أربعة مليون فقير. زيادة أرجعها هذا الأخير إلى الخراب والفساد الذي شهدته البلاد خلال السنوات العشر الأخيرة حسب رأيه، مشيرا إلى أن الوزارة قامت بالترفيع في قيمة المساعدات المالية المسندة لهذه الفئة ومؤكدا على عمله وحرصه على تحقيق “عدالة حقيقية” حسب تعبيره. من جهة أخرى، وخلال الاجتماع الذي جمع أعضاء الحكومة والمكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل بتاريخ 15 أفريل الجاري، عبّرت رئيسة الحكومة نجلاء بودن، حسب نصّ البيان المنشور، عن حرصها على “استعادة الدولة لدورها الاجتماعي باعتبارها دولة راعية تتكفل بجميع المواطنين التونسيين وتضمن حقوق الشغالين والعاطلين عن العمل والفئات الضعيفة والهشة دون تمييز”. هذا الحرص الذي يدّعيه كلّ من رئيسة الحكومة ووزير الشؤون الاجتماعية، لا يُترجم على أرض الواقع من خلال السياسة المتبعة من قبلهما. ففي ظلّ سياسة التقشّف والارتفاع الشهريّ تقريبا لأسعار المحروقات، والغياب المتواتر لبعض المنتوجات الأساسية وغلاء الأسعار، والمضي قدما في الاتفاق مع صندوق النقد الدولي لرفع الدعم، عن أي دولة اجتماعية تحرص رئيسة الحكومة على تحقيقها؟ وأي كفالة تعد بها المواطنين؟ وأيّ “عدالة حقيقية” يُراد تحقيقها؟

فشل في تجديد السياسات

خلال الاحتفال السنوي بعيد الشهداء يوم 09 أفريل الجاري، أعلنتْ رئاسة الجمهورية عن انعقاد مجلس وزاري برئاسة قيس سعيد، تمّ خلاله التداول حول مشاريع نصوص قانونية لعلّ أهمّها حسبها المشروع المقترح من سعيّد والمتعلق بإحداث مؤسسة فداء للإحاطة بضحايا الأحداث الإرهابية من القوات الحاملة للسلاح. فقد حرصت رئاسة الجمهورية على التركيز على تسويق وتقديم هذا النص على حساب النصوص العشرة الأخرى. ونجد ضمن هذه النصوص المهمّشة، مشروعا متعلقّا بإحداث المجلس الأعلى للتنمية الاجتماعية. في ظلّ الظروف الاجتماعية الصعبة، لم تسعَ رئاسة الجمهورية إلى الدفاع عن هذا النص أو تقديمه على غرار وزارة الشؤون الاجتماعية التي أعلنت أنّ هذا المجلس سيتولّى مهامّ ثقيلة. إذ أوردت في بلاغها أنه سيُعنى “بضبط السياسات الاجتماعية الرّامية إلى الحدّ من الفقر ومن التفاوت الاجتماعي والجهوي وتعزيز الإدماج الاجتماعي والتربوي والاقتصادي للفئات الفقيرة والفئات محدودة الدخل والفئات الهشّة والأشخاص ذوي الإعاقة والفئات ذات الاحتياجات الخصوصيّة”، ليكون بذلك المجلس المعجزة الذي سيُنقذ البلاد من بلائها.

ولعلّ أهمّ ما تعلّق بهذا المجلس الذي سيقع إحداثه هو ما أخفتْه رئاسة الجمهورية. ففكرة إحداثه وما تعلّقت به من مهامّ ومسؤوليات كانت قد رُسمت بالقانون عدد 10 لسنة 2019 والمتعلّق بإحداث برنامج الأمان الاجتماعي. وهو تاليا ثمرة تشكّلت في مجلس النواب الذي قام سعيّد بحلّه قبل أيام واقتراح صاغتْه حكومة المنظومة السابقة. في غياب أي مقترحات تُذكر لمنظومة الاستثناء وعلى خلاف ما يدّعيه سعيّد من قطع مع العشرية السابقة، كان الاستمرار وتفعيل بعض المشاريع الفاشلة السابقة أقصى ما يمكن أن يقدّمه سعيّد وحكومته. فبعيدا عن تغيير الدستور وتركيز الحكم القاعدي الذي لم تُحدّد معالمه بعد، فإن “المنظومة الجديدة” غير قادرة على بلورة أي تصوّر أو مشروع جديد للبلاد ككلّ وخصوصا الدور الاجتماعي للدولة رغم التعابير الفضفاضة والمكرّرة حول حرصها على ذلك.

توزيع المساعدات وغياب الإصلاحات

أعلنت وزارة الشؤون الاجتماعية يوم 06 أفريل 2022، عن التوقيع على اتفاقية تمويل بقيمة 400 مليون دولار أي ما يناهز 1160 مليون دينار مع البنك الدولي في إطار التصدّي للجائحة وهو ما سيتّم صرفه أساسا كتحويلات مالية لفائدة الأسر الفقيرة وذات الدخل المحدود.

في غضون يومين، تمت معاضدة هذا الإعلان بصدور قراريْن من وزير الشؤون الاجتماعية ووزيرة الماليّة في الرائد الرسمي يقضيان بالترفيع في مقدار التحويلات المالية لفائدة العائلات الفقيرة والمنتفعة ببرنامج الأمان الاجتماعي. تناول القراران الوزاريّان طريقة احتساب مقدار التحويلات المالية المباشرة التي رُفّعت إلى 200 دينار شهريا (عوض 180 دينار). كما خصّص القراران منحة إضافية تُسند لكل أسرة بعنوان كل طفل لديها، تمّ تقديرها بـ30 دينارا في حال لم يبلغ الطفل 6 سنوات وبـ10 دنانير في حال يتراوح سنّ الابن أو الابنة بين 6 سنوات و18 سنة دون أي شرط وإلى حدود سن 25 سنة بالنسبة للأبناء الذين يزاولون التعليم أو التكوين المهني.

وإن كان الترفيع مستحقّا وقد يقدّم القليل لبعض الفئات المهمّشة، إلاّ أنّ المقدار الجملي للمساعدة يبقى ضعيفا جدا بالمقارنة بحجم المصاريف الأساسية لضمان حياة كريمة، خاصة في ظلّ انخفاض المقدرة الشرائية وارتفاع نسب التضخّم.

يصرّ وزير الشؤون الاجتماعية ومن خلفه الحكومة على اختصار السياسات الداعمة للفئات المهمشة في المساعدات المالية المباشرة بينما يحتاج هؤلاء لعدّة خدمات أخرى وآليات واضحة تضعها الدولة للإحاطة بهم وحمايتهم. إن الاقتصار على التحويلات المالية وعدم تقديم أي حلول أو مشاريع تنقذ هذه الفئات من حلقة الفقر والهشاشة لا يمكن أن يُفسّر إلاّ عبر فرضيتين إثنين: إما أنّ الحكومة ووزير الشؤون الاجتماعية بالأساس يفضلون الحلول السهلة التي لا تتحمّل الدولة فيها أية مسؤولية، عبر التملّص من وضع برامج أو مشاريع يمكن قياس نجاعتها ونجاحها، والاقتصار على مجرد مقدار من المال تتكرّم به الدولة على فقرائها لكي تبقيهم على قيد الحياة. وإما أنّ هذه العملية هي مجرّد حملة دعاية لا غير، تخدم مصالح المسؤولين الحاليّين على حساب الظرفية الصعبة التي تمرّ بها هذه الفئات كما تتماشى مع السردية المعتمدة من قبل الرئيس وفريقه المقرّب.

ماذا تبقى من الدور الاجتماعي للدولة: مراكز الدفاع الاجتماعي نموذجا

في كلتا الحالتين السابق ذكرهما، يبقى غياب المقترحات والحلول من قبل سلطة الاستثناء القاسم المشترك والمؤكّد، وهو ما يمكن استخلاصه على الأقلّ من خلال دراسة ميزانية وزارة الشؤون الاجتماعية ومختلف هياكلها لسنة 2022. فبالإضافة لضعف ميزانية الوزارة بالمقارنة مع الميزانية الإجمالية للدولة (لا تتجاوز 5%)، تمّ التخفيض من النفقات ذات الصبغة التنموية بعنوان البرنامج المخصّص للنهوض الاجتماعي بنسبة تفوق 79% على مستوى التعهّد والدفع. ويمثّل هذا البرنامج المحور الوحيد الموجّه للفئات الفقيرة والمهمشة لدى الوزارة والذي يهدف “للحدّ من الإقصاء الاجتماعي والفقر واللامساواة بين أفراد المجتمع ويرمي إلى إدماج الفئات الهشة اقتصاديا” حسب نصّ الوزارة. على أرض الواقع، يتمثّل هذا البرنامج أساسا في تقديم التحويلات المالية من جهة وفي تقديم عدّة خدمات الإحاطة بالفئات الهشة من خلال مراكز الدفاع الاجتماعي الموزّعة على الجهات (يبلغ عددها 24 بحساب مركز في كلّ ولاية). توزيع يجعل منها القاطرة الأولى للتواصل مع الفئات المهمشة في الجهات وتقديم الخدمات لها وهو ما يجعلها تاليا الأجدر بالاستثمار لتحسين خدمات التدخّل الاجتماعي ولإيجاد حلول فعليّة لهذه الفئات.

لكنّ سياسة الحكومة كان على عكس ذلك، بل واصلت -تماما كسابقاتها- تهميشها على صعيد توفير الموارد والإمكانيات كي تتمكّن من القيام بأدوارها. إذ تتعهّد هذه المراكز بالأشخاص على المستوى الاجتماعي والنفسي والتربوي والتأهيلي. فتقوم بتوفير التأهيل التربوي للأطفال المنقطعين عن التعليم من 13 إلى 16 سنة عبر تشريكهم ببعض الورشات كالخياطة والرسم أو ببعض الأنشطة الثقافية كالمسرح والرياضة. وتحيط بالأطفال المهدّدين عبر دراسة حالاتهم وتقديم الرأي في شأن مصلحتهم الفضلى إلى قاضي الأسرة مع توفير الإحاطة النفسية لهم. كما تتولى هذه المراكز أيضا التعهّد بالأطفال على المستوى القانوني، أي عند اتهامهم بجريمة ما. ليلعب المركز حينها دور التوجيه والإرشاد على المستوى القانوني والنفسي كما يوفّر التدريب والمرافقة لهؤلاء الأطفال وأسرهم لإدماجهم في مسارات التأهيل المهني. بالإضافة إلى كلّ ما سبق، يتعهّد المركز بالشبان والكهول الذين يواجهون صعوبات على المستوى الاقتصادي والاجتماعي الأمهات العازبات والمساجين المسرّحين أو الأشخاص العاطلين عن العمل عبر توفير المساعدة النفسية ودعمهم على مستوى التمكين الاقتصادي عبر إلحاقهم بمسارات التأهيل المهني والتشغيل. لا تقف مهام هذه المراكز عند هذا الحدّ، بل تمتدّ أيضا إلى الأسر التي تعيش ظروفا صعبة كفقدان السند أو عجز أو إدمان أحد الوالدين. فيقوم المركز بتيسير انتفاعهم بخدمات الرعاية (صحية، مادية، قانونية) بالتنسيق مع المؤسسات الأخرى أو عبر تشريكهم في برامج قد توفّر لهم مورد رزق.

باختصار تمثّل هذه المراكز الخطّ الأوّل الذي تلجأ له الفئات الفقيرة والمهمشة والمستضعفة لطلب المساعدة من الدولة. في المقابل، لا تتمكّن هذه المراكز من القيام بدورها لعدة أسباب لعلّ أهمّها ضعف الموارد الموجهة لها. إذ أنّ الميزانية المخصصة للتدخّل لكل مركز، لا تتجاوز 10 آلاف دينار في سنة 2022. أي أنه على المسيّرين لهذه المراكز أن يقدّموا كل هذه الخدمات من تعليم وإعادة تأهيل وإحاطة نفسية وتثقيف وتنظيم ورشات ومتابعة المنتفعين في كل ولاية بمبلغ مالي يقلّ عن 800 دينار شهريا لفائدة فئات مختلفة من الناحية العمرية وعلى مستوى الاحتياجات. وهو ما يحمل هذه المراكز على اعتماد توجّه انتقائي وعدم توفير هذه الخدمات لكل المستحقين على مستوى الولاية. فعلى سبيل المثال، سيكتفي المركز بتشريك الأطفال المنقطعين عن الدراسة القاطنين على مسافة قريبة منه نظرا لاستحالة تمكينهم من مصاريف التنقل. وسيُحمل المركز على اختيار الأطفال الأقلّ صعوبة على مستوى التأهيل والتدريب نظرا لعدم قدرته على انتداب المختصّين الذين يمكنهم متابعة هذه الحالات إضافة إلى نقص التجهيزات اللازمة كالملاعب للأطفال أو قاعات لتنظيم الورشات. كما ستُحرم بعض الضحايا من الرعاية النفسية نظرا لعدم توفير الأخصائي النفسي في كل مركز إما بسبب تولّيهم مهام إدارية أخرى (تسيير المركز) أو لعدم تعويض الأخصائيين المحالين على التقاعد بسبب سياسة التقشف التي تتّبعها الدولة.

تقوم الدولة إذا بإسناد مهامّ تعجيزية للمراكز الاجتماعية، فتدّعي أنها وفّرت المؤسسات التي تقدّم هذه الخدمات وفي المقابل تحرمها من الموارد التي تمكّنها من أداء مهامها.

على عكس ما تدّعيه، اختارت سلطة الاستثناء مواصلة تهميش هذه المراكز والفئات المنتفعة من خدماتها كما هدّدت بقطع سبل المساعدة المتوفرة لها من قبل الجمعيات والمنظمات عبر تنقيح مرسوم الجمعيات والتضييق على تمويلها ممّا سيؤثّر حتما على قيمة المساعدات المُسندة للفئات المستهدفة ونوعية الخدمات المقدمة لها. تهميش يتجلّى بوضوح في المشاريع الاستثمارية التي خصصتها الدولة لبرنامج النهوض الاجتماعي لسنة 2022 والتي ضمّنتها بقانون المالية. فعوض المبادرة بتهيئة ملاعب رياضية أو قاعات لتمكين الشباب من استعمال الحواسيب وبرمجياته، أو تهيئة مكتبات على ذمّة الأطفال، أو إنشاء مراكز استماع للنساء ضحايا العنف أو التركيز على الترفيع من قدرة استيعاب تلك المنشآت، قرّرت الدولة التقليص من النفقات التنموية لوزارة الشؤون الاجتماعية والاكتفاء بالاستثمار لفائدة هذه المهام الاجتماعية عبر تهيئة مركز اجتماعي وبناء مطبخ بمركز آخر فقط لا غير.

في حين تتجنّد مؤسسات الدولة والحكومة وقياداتها وإدارتها وقوانينها وأجهزتها التنفيذية لإنجاز مطبخ وتهيئة مركز اجتماعي، يعد سعيّد وفريقه المواطنين بالتغييرات الجذرية التي ستحمل معها حتما العدالة الاجتماعية ويصرّون على كونهم يحملون مشروعا سيمثّل الخلاص لا فقط التونسيين بل الإنسانية جمعاء.

لقراءة المقال باللغة الانكليزية

انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، سلطات إدارية ، لبنان ، مقالات ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني