الحوار الوطني: دِيكور ديمقراطي في معركة الاستيلاء على السلطة


2022-04-20    |   

الحوار الوطني: دِيكور ديمقراطي في معركة الاستيلاء على السلطة

قبل 25 جويلية 2021، كان الرئيس قيس سعيّد يُعبّر عن موقفه من فكرة “الحوار الوطنيّ” بوضوح. رفض بشكل أو بآخر مبادرات الحوار القادمة من الاتحاد العامّ التونسي للشغل تزامنًا مع أزمة التحوير الوزاري التي عرفتْها حكومة هشام المشيشي قبل الإطاحة بها. في 15 جوان 2021، هاجم الرئيس سعيد الحوار الوطني الذي أشرفتْ عليه منظمات مستقلة في سنة 2013 ووصفه قائلًا: “أمّا الحوار الذي يُوصف بأنه وطنيّ في السابق فلا هو حوار ولم يكن وطنيًّا على الإطلاق”. أثارت هذه التصريحات استياء الاتّحاد العامّ التونسيّ للشغل في تلك الفترة.

قبل الاستيلاء على كلّ السّلطات، استعرَضَ الرئيس سعيّد تصوّره لأهداف أيّ حوار وطنيّ. فهو بالنسبة إليه مُراجعةٌ للنظامين السياسيّ والانتخابيّ. وفي الآونة الأخيرة، جَدّدَ الرئيس تمسّكه بهذا التصوّر، مع التنصيص على الالتزام بنتائج الاستشارة الوطنيّة. بمعنى أنّ الحوار سيأتي لتزكية مرتكزات المشروع الرئاسيّ. وسيكون مرحلةً وسطى بين الاستشارة والاستفتاء المقرّر ليوم 25 جويلية 2022. رغم أنّ الحوار يبدو إلى حد الآن صوريًّا ويَلقى معارضةً واسعةً من الأحزاب والمنظمات، ما هي أهداف السلطة الحالية من الذهاب إلى حوارٍ بهذه الصيغة المغلقة؟ وبأيّ تركيبةٍ سياسيةٍ ومنظماتيةٍ سينعقد الحوار الرئاسي؟    

الحوار الوطني: محطّة فرز ودعاية

“من يذهبون إلى العواصم الغربية وأمام السفارات. هؤلاء لا مكان لهم في هذا الحوار” و“لا حوار مع اللصوص والانقلابيّين”. هكذا عَبَّر قيس سعيّد في أكثر من مناسبة عن تصوّره للتركيبة المُستثناة من الحوار الوطني، من دون تعيينها بشكلٍ واضحٍ وصريح. ولكن سياقات الخطاب والسلوك الحواريّ للرئيس تشير إلى أن التركيبة المُستبعَدة من الحوار الوطنيّ القادم ستضمّ كلّ الفعاليّات والشرائح المحترزة أو المعارضة لسلطة التدابير الاستثنائيّة. وفي مقدّمتها الأحزاب السياسية، خاصة تلك التي شاركت في الجلسة البرلمانية الأخيرة، ممّا دَفَع الرئيس إلى إعلان حلّ البرلمان بعد تجميد أعماله.

في أكتوبر 2021، لوَّح الرئيس سعيّد بفكرة الحوار الوطني، متسائلًا “الحوار مع من؟ وكيف؟”. وفي معرض إجابته عن هذا السؤال أشار إلى أنّه ليس مستعداّ لحوار “قرطاج 3” وأنّ “هناك تصورًّا مختلفًا للحوار. منصّة للحوار مع الشباب عن طريق معاهد التكنولوجيا. وهكذا يتقدّم الشباب والشعب عمومًا بجملةٍ من المقترحات في ظرف شهرٍ أو شهرين. ثم بعد ذلك، يتمّ التأليف في مؤتمرٍ وطنيّ بين كل تلك المطالب التي يتقدّم بها الشعب”.

يُفهم من هذا الخطاب الموقف السلبيّ للرئيس من كل التجارب الحواريّة السابقة، سواء تلك التي عرفتْها الفترة بين 2014 و2019 تحت إشراف الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي، أو تجربة الحوار الوطني التي أشرفتْ عليها منظّمات وطنيّة مستقلّة في سنة 2013. ورغم اختلاف تلك التجارب من حيث المضمون والسياقات والفعاليّة، فإنّ الرئيس يضعها في نفس الكيس، بوصفها “صفقاتٍ حِيكت من وراء الشعب”. لا تخلو التجارب الحواريّة السابقة من رهاناتٍ ومصالح ومحاولاتٍ لاحتواء الأزمات السياسيّة التي عرفتْها البلاد طيلة العشريّة السابقة. ولكن الرئيس لا يتطلّع إليها من منظورٍ نقديّ تجاوزي، وإنما يُناقِضها لأسبابٍ متعلّقة بتصوّره السياسيّ الخاصّ: لأنّ كلّ إطارٍ جديدٍ مفتوحٍ للحوار سيضع الرئيس في موقفٍ حجاجيٍّ وتفاوضيٍّ مع خصومه وكلّ المختلفين معه، وهذا الخيار سيضعف الصّخب العدائيّ والإلغائيّ الذي يُسيّج الخطاب الرئاسي. إضافة إلى أن الحوار كآليّة سياسيّة يُعتَبر في فلسفة الرئيس “جسمًا وسيطًا” بين النخب السياسية والشعب. لذلك يسعى إلى التشكيك في نزاهته وجدواه، مستعيضًا عنه بفكرة “الحوار مع الشعب”.

إن التطبيق العملي لفكرة الحوار مع الشعب والشباب بشكلٍ خاصّ (إن وُجِد)، سيكون شبيهًا بالاستشارة الوطنيّة. بمعنى أنّ المضامين والخلاصات والأدوات التقنية ستكون تحت إشراف السلطة الحالية، التي ستنفرد بنشر الاحصائيّات وتحديد جدول الأعمال واستعراض حصيلة المقترحات. إضافة إلى استثمار مؤسسات الدولة – مثلما عرفته الاستشارة – من أجل الدعاية للحوار والترويج لمضامينه ومخرجاته. وسيكون حوارًا تحت استمرار صوت المعركة، وليس آليّةً لحلّ الأزمة السياسية والدستورية القائمة.         

البحث عن اعتراف بنتائج الاستشارة

استغلَّ الرئيس قيس سعيّد في الآونة الأخيرة مشاهد استقبال رؤساء منظمات وطنيّة في القصر الرئاسي ليُعلن انطلاق الحوار الوطني. هذا الإعلان الأحاديّ عارضتْه المنظّمات التي استقبلها الرئيس على غرار الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، والاتحاد العامّ التونسي للشغل. إذ صرّح جمال مسلّم، رئيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، قائلًا: “إنّ الرابطة تعتبر أنّ الحوار الوطني لم ينطلق بعدُ، وذلك في غياب إطارٍ لهذا الحوار وهيكلةٍ ولجنةٍ تشرف عليه”. مشيرًا إلى أنّ الإقصاء لا يكون إلّا بأحكامٍ صادرةٍ من هيئات قضائية. وفي السياق نفسه، قال الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل، نور الدين الطبوبي “إنّ اللقاء مع الرئيس كان مجرّد عقد جلساتٍ أو لقاءاتٍ بروتوكوليّةً لا تتنزّل في إطار الحوار الوطني الذي ننشده” مضيفًا بأنه “لا تراجع عن تشريك المنظمات والأحزاب السياسية في أيّ حوارٍ وطني”.

إن استغلال فرصة استقبال بعض المنظّمات الوازنة من دون الشروع معها في حوار حقيقي، يعكس استراتيجيّةً رئاسيّةً تبحث عن فكّ العزلة السياسيّة التي أصبحتْ تعيشها السلطة الحالية. وبالتالي، يأتي الحزام المنظماتي لكسر الصورة المغلقة التي راكَمَها الرئيس والإيهام بوجود “إجماعٍ وطنيّ” حقيقيّ حول المشروع الجديد، خاصّة من اتّحاد الشغل واتّحاد الأعراف. بالإضافة إلى هذا، جاءتْ نتائج الاستشارة -رغم الاحتفاء الرئاسي بها- لتُثبتَ محدوديّتها كآليةٍ لإنتاج الشرعية، لذلك يأتي الحوار الوطني كإطار إضافي لتعزيز الشرعية المنقوصة.

 لم يعد خافيًا عن الجميع أن الرئيس يُخاطب محاوريه وخصومه على حدّ سواء من موقع استعلائي- فوقي، ولا يراهن كثيرا على التنسيب السياسي وتبادل وجهات النظر. هذه الانغلاقيّة الصمّاء تعكس أسلوبًا في إدارة معركة افتكاك السلطة وتثبيتها أمرًا واقعًا. لذلك يحرص الرئيس على إضعاف كلّ الأطر التي قد تسمح بخلق شروط منافسة تُتيح لخصومه ومنافسيه مشاركته في معركة الصراع على السلطة. وفي هذا السياق تندرج فكرة إقصاء الأحزاب السياسة من الحوار الوطني والاكتفاء بالمنظّمات المستقلّة، لأنّ هذه الأخيرة ليس لديها رهاناتٌ انتخابيّة. ولم يُخفِ الرئيس أيضا عزمه إقصاء بعض خصومه من المشاركة في الانتخابات القادمة أثناء إعلانه حلّ البرلمان، إذ صرّح قائلًا: “لن يعود إلى الانتخابات من يُحاول الانقلاب ومن يحاول العبث بمؤسسات الدولة”. وفي نفس الاتجاه، أعلن رغبته في تغيير تركيبة الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، ولن يكون هذا الإجراء خارج منطق الإخلال بشروط المنافسة المتكافئة الذي يريد الرئيس فرضه، رغم الاحترازات التي يبديها دائمًا إزاء فساد المنظومة الانتخابية ولا عدالتها.

استقبال منظّمات وازنة من دون محاورتها مجرّد مسعى لفكّ عزلة السلطة

الحوار الوطنيّ خطابٌ للخارج وليس للداخل

تزامنتْ تقريبًا إعلانات الإعداد لحوار وطني مع لقاءاتٍ أو مكالماتٍ أجراها الرئيس قيس سعيد مع وفود برلمانية خارجية أو رؤساء أجانب. في مكالمة أجراها قيس سعيد مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أوّل أكتوبر 2021، أبلغه أنّه ينوي إجراء حوارٍ وطني للخروج من الأزمة السياسية. وأثناء زيارته لبروكسيل، صرّح الرئيس لوسائل إعلام أجنبية أنّه منفتح على التفاوض ولا ينوي إقامة نظام استبداديّ. وأثناء لقائه بوفد من البرلمان الأوروبي يوم 11 أفريل 2022 أعلمهم الرئيس بانطلاق الحوار الوطني والإعداد لانتخاباتٍ تشريعيةٍ حرّةٍ ونزيهةٍ في المرحلة القادمة.

هذا الانفتاح على الخارج تحت ضغط المواقف الأوروبيّة والأميركيّة الداعية للعودة للحياة الدستورية والبرلمانية، يُوازيه في الداخل خطابٌ سيادويّ يُمجّد استقلال القرار الوطني ويتّهم الخصوم والمعارضين بالعمالة للخارج. وقبل لقائِه بالوفد الأوروبيّ، صرّح الرئيس في خطابٍ ألقاه أثناء زيارته لضريح الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، قائلًا: “سيادتنا وكرامتنا وعزّتنا قبل أيّ اعتبار. نحن دولة ذات سيادة والشعب فيها صاحب السيادة. لا يمكن أن ننتقل من مرحلةٍ إلى أخرى بناءً على المؤامرات أو الارتماء في أحضان الأجانب”.

هذه الانفعالية الواقعة تحت الخوف من المواقف الخارجية، يريد الرئيس تحويلها إلى موقف سياسيّ يُدين “عملاء الداخل”، من أجل صنْع صورةٍ دعائيّةٍ تُعبر عن المعطى الخارجي بوصفه مؤامرةً محبوكةً بتواطؤ من معارضات الداخل. وفي هذه الأثناء، تسعى حكومة الرئيس إلى تعزيز شروط التبعيّة الاقتصادية للخارج من خلال المفاوضات التي تُجريها مع صندوق النقد الدولي، والتي وصفتْها رئاسة الحكومة في بلاغٍ لها بـ ”الإصلاح الهيكلي العميق”. ورغم أنّ هذه المفاوضات ستترك آثارًا مصيريةً على الاقتصاد والمجتمع في المستقبل، فإنّ هناك تكتّمًا رسميًّا على أبعادها وأهدافها، ولم يتمّ إدراجها ضمن محاور “الاستشارة” أو “الحوار الوطني” الموعود.

تزامنت إعلانات سعيّد الإعداد لحوار وطني مع لقاءاتٍ مع وفود خارجية

نشر هذا المقال في العدد 25من مجلة المفكرة القانونية – تونس. لقراء مقالات العدد اضغطوا على الرابط ادناه

 جمهوريّة الفرد أو اللاجمهوريّة

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، تونس ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد ، مجلة تونس



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني