الحركة النقابية في سياق الشعبوية: الذاكرة الجماعية ودور الخليّة العصبية


2023-03-16    |   

الحركة النقابية في سياق الشعبوية: الذاكرة الجماعية ودور الخليّة العصبية
من صفحة الناشط أسامة الظاهري على فيسبوك

في الحالة التونسية، يحتفي المعجم الشّعبوي الرئاسي بتحقيق الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ولكنّ الكلام لم يُترجم إلى أفعال. فقد توالتْ الاعتقالات السياسية وارتفعت الأسعار وتصاعدت حركة الهجرة وبرزت الممارسات العنصرية. وفقا لـ Fréderico Tarragoni، “الشعبوية ليست ضدّ الديمقراطيّة بل هي روح الديمقراطيّة كما تبلور ذلك مع الشعبوية التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر في أمريكا وإيطاليا، حيث كانت تُبالغ في التمسّك بتحقيق نظام ديمقراطي حقيقي. ولكن هذا النظام الشعبوي ينطلق من الديمقراطيّة لكنّه في نهاية المطاف يقوّضها ويقضي عليها.” [1]

علاوة على الدور الذي لعبته الظروف السياسية والاقتصادية المعطوبة، فإن الشعبوية ساهمت من خلال بنيتها الخطابية في إرباك عمل الأحزاب السياسية والمنظمات المدنية من بينها الاتحاد العام التونسي للشغل، وهكذا لم يبقَ أمام أكبر حركة نقابية في تاريخ البلاد سوى الاستعداد لمواجهة الانزلاقات السياسيّة والحضور بمظهر نقابي- سياسي يسمح لها بالنضال من أجل تحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي الذي تُطالب به.

انسداد الأفق السياسي والاجتماعي والتعبئة للفعل الجماعي

في مناخ شعبويّ أحد أهمّ سماته النفور من التنظيمات الرسمية وتشويه المعارضة السياسية والاكتفاء بتكتيكات مساحيق التجميل في القضايا الاجتماعية والوطنية -حيث يُقدّر على سبيل المثال عدد العاطلين عن العمل في الفصل الثالث من سنة 2022 بنحو 613،6 ألف-[2] وفي سياق عدم التزام حكومة الرئيس قيس سعيد بالاتفاقيات العامة والقطاعية المبرمة بين النقابات والدولة، أعلنت الهيئة الإدارية الوطنية للاتحاد العام التونسي للشغل يوم 03 فيفري 2023 عن إدانتها لخطاب التخوين والتحريض ورفضها سياسات استهداف العمل النقابي. واعتبرت الهيئة الإدارية أنّ الحوار هو السبيل الوحيد للخروج من الأزمة. وهكذا تقرّر إنجاز عدد من التحرّكات الجهوية والقطاعية والوطنية. وضمن هذه الدينامية الاحتجاجية لم يكتف الاتحاد برفع مطالب قطاعية واجتماعية، بل عمل على التوسيع في مطالب ورهانات التحركات العماليّة وراهن في السياق نفسه على اختيار الأماكن الرمزية للاحتجاج والتجمعات النقابية نظرا لوظيفتها التعبوية التاريخية في التحشيد الجماعي.

سردية الشرعية النضالية التاريخية والحركة النقابية

كشفت قوائم الحملة الانتخابية في مؤتمرات الاتحاد العام التونسي للشغل قبل سنة 2011 عن وجود استقطاب شديد للمترشحين حول محورين رئيسيين: “محور صفاقس- قفصة والمعروف بالمحور التقليدي الذي يسعى للمحافظة على سيطرته على المركزية النقابية باسم “الشرعية التاريخية” ومحور الشمال الغربي والجنوب الشرقي والمعروف بـ”المحور المتمرد”.[3] فالسياقات المجالية فرضت هذا التقسيم والاستقطاب، فإذا كان  “الشريط الساحلي المجال المهمين اقتصاديا وسياسيا، فإنّ شريط المناجم وصفاقس قد مثّل السلطة النقابية باعتبار المخزون التاريخي النضالي النقابي للمنطقتين والقوة العددية”.[4]

رغم تنسيب قوّة هذا المحور خلال مؤتمر طبرقة سنة 2011، إلاّ أنّ القيادة المركزية ظلّت تُراهن على ولاية صفاقس في سيرورة التعبئة الجماعية. فبعد الثورة التونسية وحينما تمّ عرقلة المفاوضات في القطاع الخاص واحتدّ الصرّاع بين اتحاد الشغل وأرباب العمل، قرّرت الهيئة الإدارية الوطنية لاتحاد الشغل في 08 نوفمبر 2015 إطلاق سلسلة من الإضرابات الجهوية انطلاقا من مدينة صفاقس يوم 19 مارس 2015 باعتبارها إحدى أهمّ المناطق الصناعية في البلاد والتي تتمتع بتقاليد عريقة في النضال النقابي.[5] وبنفس المنطق النضالي، انطلقت أولى الحركات العمالية من ولاية صفاقس وكذلك ولايات قبلي والقيروان والقصرين يوم 18 فيفري 2023. وهكذا فإنّ سردية التاريخ النضالي والنقابي تُشكّل أحد الموارد التعبوية في النضالات العماليّة.

رغم الاختلاف في السياقات السياسية قبل 25 جويلية 2021 ومن بعدها، إلاّ أنّ الاستراتيجيات النضالية التي اعتمدتها المركزية النقابية عام 2015 يتمّ تكرارها الآن. هذا الأمر يذكّر بمقولة عالم الاجتماع Lorenzo Zamponi: “إنّ الذاكرة هي نتاج حركة اجتماعية وأداة في صنع تعبئة جديدة.”[6]  بهذا المعنى فإن الذاكرة توفّر مجموعة من الأدوات الرمزية والأفعال الاجتماعية التي يمكن إعادة استخدامها في الوقت الحاضر.

استخدام الشوارع التذكارية في التعبئة الجماعية

رغم أنّ أعمال الصيانة والترميم لم تنتهِ بعد في المقرّ المركزي والتاريخي للاتحاد العام التونسي للشغل في ساحة محمد علي الحامي وسط العاصمة التونسية، إلاّ أنّ القيادة النقابية اختارته فضاءً للتجمّع والاحتجاج العمّالي ببطحاء محمد علي. إذ أنّ استخدام رمزية الساحات والشوارع في الفعل الجماعي يعكس محاولة واعية تهدف إلى خلق أو ترويج ماضٍ مشترك. فساحة محمد علي الحامي -المؤسس التاريخي للحركة النقابية التونسية- ظلّت عالقة في ذاكرة النقابيين، حيث كان هذا الفضاء مسرحا للنضال زمن الدولة التسلطيّة قبل سنة 2011 ورمزًا للمقاومة النقابية خلال أحداث الثورة التونسية. وهكذا، فإنّ “شوارع الاحتجاج أو الغضب، لها أهميّة رمزية تاريخيا، إما كذكريات للتمرد أو النصر.”[7] وتستمد الحركة الاحتجاجية قوّتها من مخزون الموضوعات الموجودة سلفا، بعبارة أخرى من “مخزون الأماكن المشتركة.”[8] وهكذا يتضّح لنا قدرة النقابيين على “ترميز الذاكرة” التي تعمل على تشكيل هوية جماعية متماسكة في الأفعال النضالية.

الحركة النقابية ودور الخلية العصبية في سياق الشعبوية  

تتّسم إستراتيجية الاتحاد العام التونسي للشغل بتذبذب منتظم بين الضغط والتفاوض. وهذه الإستراتيجية التي قد تبدو غامضة أو متناقضة تُمكّن من الحفاظ على النقابة العمالية كفاعل سياسي رائد في تونس على الرغم من هبوب العاصفة الشعبوية. وغالبا ما يتم طرح المطالب الاجتماعية والاقتصادية في خطاب قادة الاتحاد، وهي تخضع بانتظام لسعي الاتحاد من أجل التأثير السياسي. وهذه المطالب هي في الوقت نفسه وسيلة ضغط على الحكومة ومورد ثمين لكسب ولاء النقابيين.

في هذا السياق وجد الاتحاد نفسه لاعبا أساسيا متقمّصا دور “البندول”[9] الذّي يؤثر بشكل عشوائي وديناميكي على العلاقة بين الدولة والاتحاد. ويُشير البندول إلى “أنّ المركزية النقابية تتبنى العديد من الخيارات الإستراتيجية التي ليست مقيّدة فقط بمصالحها الخاصّة ولكن أيضا بميزان القوى مع القواعد النقابية من ناحية ومع الدولة من ناحية أخرى. في هذا الدور للبندول تلعب المركزية دور “الخلية العصبية” التي تربط بين النخب الحاكمة والقواعد النقابية، حيث تنقل اللوائح والقوانين من جهة والمطالب والصراع من جهة أخرى.” [10] ولكنّ القيادة النقابة لم تكتف فقط بنقل مطالب الشغالين بل لعبت أيضا دور “الخلية العصبية” بين مطالب الفئات الشعبية والمعطلين والدولة التونسية.

عبّدت الشعبوية الرئاسية طريق الحملات العنصرية ضدّ أصيلي إفريقيا جنوب الصحراء في تونس وذلك من خلال اعتمادها على مقاربة “أمنَنة الهجرة”. وفي هذا السياق لعب الاتحاد أيضا دور الخلية العصبية، حيث ندّد بالخطابات العنصرية ونَقلَ مطالب المهاجرين غير النظاميين إلى السلطة السياسية أثناء السيرورة الاحتجاجية.

يُدافع الاتحاد عن مصالح فئات تبدو أحيانا متناقضة: الشغالين، المعطلين، المهاجرين، القضايا الأممية… ويمكّنه هذا التنوّع النّزاعي من الحفاظ على نفسه كقوّة وازنة. ولمزيد فرض نفسه في الساحة السياسية والاجتماعية يُعوّل الاتحاد على قوّته المجتمعية التي تنبع من القدرة الخطابية للنقابات. إذ أنّ هذه الأخيرة تُحاول إقناع العمّال وكلّ الفاعلين والمواطنين بأنّ بإمكان النقابات المشاركة في “التغيير الاجتماعي”. ويُمكن رؤية هذه القوّة الخطابية من خلال الطريقة التي تُدير بها النقابات التعاون مع فاعلين آخرين مثل الجمعيات ومنظمات أخرى. لذلك يتقاطع الاتحاد في هذا السياق الشعبوي مع عديد المنظمات سواء أثناء الاحتجاج وخلال صياغة البيانات أو في مبادرة الحوار. وهكذا تُصرّ النقابة على نموذج التواصل مع الجمهور من خلال إشراك المجتمعيْن المدني والسياسي في بدائل قابلة للتطبيق عوضا عن التعبير في المقام الأوّل عن رفضهم للسلطات القائمة والنظام الحاكم، وهي مبادرة جديدة تعالج أوجه قصور الاحتجاج النضالي. وهذا التحوّل في التركيز يعزز الشعور بأنّه قد تمّ الوصول إلى هدف معيّن بفضل الدينامية التعبوية، فـ”ثقافة الاتحاد التنظيمية تُساعده على التحّكم في فنّ الإدارة التوافقية للنزاعات والاختلافات السياسيّة.” [11]


[1] – ابن عاشور، (عياض)، “الناموس الديمقراطي: أصله الفلسفي وتجلياته التاريخية”، في علوم الإنسان والاجتماع في سياق انتقالي، المدرسة الدكتورالية للجامعة المواطنية، تأطير وتقديم: المولدي قسّومي، دار محمد علي للنشر، صفاقس، تونس، 2023، ص 112.

[2] – المعهد الوطني للإحصاء.

[3]– عمامي، (محمد المنجي)، ” الحركة النقابية التونسية: بين ثقل الموروث واستحقاقات التأقلم”، مطبعة فن الطباعة، تونس، 2011، ص 27.

[4]– المرجع السابق، ص 28.

[5]– Yousfi, (Hèla),”L’UGTT et l’UTICA : Entre conflit ouvert et union sacrée“, L’Année du Maghreb, n0 16, 2017, pp 295 – 310. P 305, 306.

[6] – Pontiggia, (Stefano), “Revolutionary Tunisia, Inequality, Marginality And Power“, Lexington Books, Lanham, Maryland, 2021.P 158.

[7]– بيات، (آصف)، الحياة السياسية كيف يغير بسطاء الناس الشرق الأوسط، ترجمة: أحمد زايد، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2014، ص 338.

[8]– Rennes, (Juliette), “Les formes de la contestation, sociologie des mobilisations et théories de l’argumentation“, BNS Press, A contrario, vol 2, n0 16, 2011,  pp 151- 173. P 153.

[9]– البندول هو رقّاص الساعة، جسم معلّق من نقطة ثابتة، متحركة حركة تذبذبية ويتأرجح ذهابا وجيئة بتأثير الجاذبية كالموجود في ساعة الحائط الكبير.

[10]– Jouini, (Samir), “L’action syndicale en Tunisie et démocratisation des mécanismes institutionnels du système politique et du système d’emploi“, Doctorat en relations industrielles, sous la direction : Kamel Béji, Université LAVAL, Québec, Canada, 2018. P 239.

[11]– Yousfi, (Hèla), “L’UGTT une passion Tunisienne. Enquête sur les syndicalistes en révolution 2011- 2014“, Med Ai Edition, IRMC, 2ème édition, 2016. P 114.

انشر المقال

متوفر من خلال:

أحزاب سياسية ، نقابات ، حرية التعبير ، مقالات ، تونس ، حقوق العمال والنقابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني