تتجه الأنظار يوم الأحد الموافق 18/9/2016 صوب المحكمة العسكرية بالإسكندرية، حيث جلسة النطق بالحكم في القضية[1] المتهم فيها 26 عاملا بشركة الترسانة البحرية بالإسكندرية[2]. وقد أحالتهم النيابة العسكرية إلى المحكمة العسكرية للجنح "بصفتهم موظفين عموميين بشركة ترسانة الإسكندرية التابعة لجهاز الصناعات والخدمات البحرية بوزارة الدفاع. وينبني الإدعاء على أنهم حرضوا العاملين بقطاعات الشركة المختلفة على الامتناع عن العمل، وقاموا بالدعوة للتجمع وتنظيم وقفة احتجاجية داخل الشركة، بقصد عرقلة سير العمل والإخلال بانتظامه، بهدف تحقيق غرض مشترك وهو تحقيق مطالبهم المبينة بتقرير قطاع الأمن بالشركة المرفق بالتحقيقات. وكان من شأن ذلك إحداث اضطراب بجميع قطاعات الشركة، والإضرار بالمصلحة العامة."[3]ويواجه العمال احتمال التعرض لعقوبات تتراوح بين الحبس من 6 أشهر الى 6 سنوات، طبقا لقانون العقوبات المصري.[4]
محاكمات عسكرية بسبب مطالب عمالية
جاءت الاتهامات الموجهة للعمال بسبب ممارستهم لحقهم في التنظيم النقابي ومطالبة رئيس مجلس الإدارة ببعض مستحقاتهم المالية المتأخرة. وكان منها اعتراضهم على القيمة الممنوحة من قبل القوات المسلحة بمناسبة شهر رمضان، وهي 75 جنيهًا –اقل من 8.5 $-، ومطالبتهم بتسديد الشركة لباقي مديونيات صندوق زمالة العاملين بالشركة، وتحديد موعد لإصدار حركة الترقيات. كما طالبوا بتوزيع نسبة الأرباح للعاملين بالشركة، وخاصة أرباح السنوات السابقة[5]. ويروي العمال بالشركة أنه حين قام رئيس اللجنة العمالية بعرض هذه الطلبات على اللواء عبد الحميد عصمت رئيس مجلس إدارة الشركة، قام بطرده قائلا "خطوتين للخلف واطلع بره"[6]. فنزل رئيس اللجنة العمالية مستاءً مما حدث وأبلغ العاملين بذلك. وفي صباح اليوم التالي، تجمَّع بعض العاملين بالترسانة، للتحدث مع رئيس مجلس الإدارة، أثناء مروره الصباحي، إلا أن العمال فوجئوا في اليوم التالي حال توجههم لمقر عملهم بقوات مكافحة الشغب التابعة للجيش من الشرطة العسكرية بالإضافة لمدير مكتب قائد القوات البحرية الذي خاطب العمال بطريقة مستفزة قائلا: “مش إحنا اللي يتعمل معانا كدة إحنا عندنا استعداد نقفلها مفيش مشكلة بالنسبة لينا واللي ليه حق يرجع مكان شغله وبعدين تطلب حقك وأنت في مكانك انما علشان أسلوبكم ده ملكوش مستحقات خالص"[7].
قوانين العمل لا تمثل حماية للعمال
من الجدير ذكره أن إحالة العمّال إلى المحكمة العسكرية جاءت رغماً عن طبيعة علاقة العمل بين الشركة والعمال والتي تحكمها قوانين العمل للمدنيين. وليس هناك علاقة بين نشاط الشركة والنشاط العسكري لوزارة الدفاع. فشركة ترسانة الاسكندرية البحرية أسست عام 1960، ثم نقلت ملكيتها إلى الشركة القابضة للنقل البحري في العام 1993، وبذلك أصبحت خاضعة لقطاع الأعمال العام. وفيما تمّ ضمّ الشركة إلى جهاز الصناعات والخدمات البحرية التابع لوزارة الدفاع في عام 2003،[8] إلا أن هذا التغير في تبعية الشركة لم يقترن أي تغير في طبيعة المنشأة، ولا في نظام علاقات العمل التي بقيت خاضعه لأحكام قانون الأعمال العام[9].
دستور 2014: المحكمة العسكرية لحماية العسكريين وما في حكمهم
تأتي هذه المحاكمة إعمالا لنصّ المادة 204 من الدستور المصري المعدل[10]، الذي تم تمريره في استفتاء يناير 2014، وهي المادة التي دشنت لعهد جديد من محاكمة المدنيين عسكريا وهو العهد الذي بدأ تبعاً للحراك الشعبي الحاصل في 30 يونية. فقد أصرّ ممثل القوات المسلحة في لجنة كتابة الدستور ليس فقط على إبقاء النص الوارد في دستور 2012 والذي كان يسمح بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية في حالات معينة، إنما أيضا على تفصيل هذه الحالات وتوسيعها، وصولا إلى بسط سلطة المحكمة العسكرية على نطاق أوسع من نصّ الدستور السابق.
وعليه، بسط دستور 2014 ولاية القضاء العسكري على الجرائم المتعلقة بالقوات المسلحة وبمن هم في حكم ضباطها وأفرادها، من دون أن يوضح المقصود بمن هم في حكم أفرادها وضباطها. كما أجاز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري في الجرائم التي تمثل اعتداءً مباشراً على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما في حكمها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التي تمثل اعتداءً مباشراً على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم.
والجدير بالذكر أن مادة المحاكمات العسكرية بالدستور الحالي قد لاقت اعتراضا واسعا من بعض القوى الديمقراطية وعلى رأسها مجموعة "لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين"[11]، والذين نظموا في 26-11-2013 تظاهرة أمام مجلس الشورى – مقر لجنة الخمسين المكلفة بوضع التعديلات الدستورية- أثناء مناقشاتها للمادة المطروحة آنذاك للاعتراض عليها. وقد كلّفت هذه التظاهرة المشاركين فيها ثمنا باهظا، حيث حصل بمناسبتها التطبيق الفعلي الأول لقانون التظاهر[12]. فألقي القبض على25 فرداً من هؤلاء لتصدر بحقهم أحكام جد قاسية وصلت إلى السجن المشدد 5 سنوات ومثلها مراقبة وغرامة 100 ألف جنيه لإثنين منهم، والسجن 3 سنوات ومثلها مراقبة، وغرامة 100 ألف جنيه ل18 آخرين. كما أيدت المحكمة غيابيًا الحكم الصادر بالسجن 15 عامًا على المتهمين الخمسة الذين لم يحضروا.
التوسع الاقتصادي للقوات المسلحة يوسع صلاحيات المحكمة العسكرية
وتعدّ هذه القضية نموذجا كاشفا لسيئات النص الدستوري، الذي سمح بمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. فقد امتدّت الجرائم إلى المنشآت العسكرية وما في حكمها، لا سيما في ظل التوسع الاقتصادي لوزارة الدفاع من خلال أجهزتها المختلفة. فقد شهدت الأشهر الإثني عشر الأخيرة توسيعاً مطرداً في عدد القطاعات التي بدأ الجيش العمل بها أو وسع أنشطته فيها كما تكشف قرارات في الجريدة الرسمية، أو محاضر اجتماعات رسمية، أو ما تم الإعلان عنه من خلال وسائل الاعلام[13]. ففي مقابل كل توسع اقتصادي لوزارة الدفاع، تزيد المخاوف من مضاعفة حالات محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري بزعم الاعتداء على المنشآت العسكرية أو من في حكمها، أو أموالها العامة. فأيّ اعتداء على هذه الكيانات "الإقصادية" التابعة لوزارة الدفاع أو مقدّمي الخدمات فيها قد يعدّ وفق المادة 204 من الدستور بمثابة اعتداء على أحد أفراد القوات المسلحة، مما عرض "المشتبه به" بالقيام به للمحاكمة العسكرية.
ومنذ إقرار الدستور المصري في يناير 2014، ثمة تخوّف وترقّب لكيفيّة تطبيق هذه المادة من قبل القضاء العسكري. فهل سيحصر صلاحيته في حالات الاعتداءات التي تستهدف أمن وسلامة القوات المسلحة باعتبارها الهيئة المكلفة بحماية أمن وسلامة البلاد من أي اعتداء خارجي، أم سيوسعها لتشكل أي اعتداء على النشاطات الاقتصادية المتزايدة والتابعة لوزراة الدفاع؟ وقد زاد هذا التخوّف والترقّب حدة تصريحات اللواء مدحت رضوان رئيس هيئة القضاء العسكري في حواره مع لميس الحديدي[14] الذي اجري في 1 ديسمبر 2013 وبعد إقرار المادة السابقة من قبل لجنة الخمسين، حيث قال وأكّد مراراً وتكراراً خلال الحلقة: (جميع المؤسسات التابعة للقوات المسلحة يسري عليها القانون العسكري، ضارباً مثالا بمحطة بنزين «وطنية»، مشيراً إلى أنها قد تكون سبباً لمحاكمة أحد المدنيين عسكرياً، في حالة تعديه على أحد الضباط أو المجندين العاملين بها، أو تعديه عليها كمنشأة، لأن المجند أو الضابط الذى يخدم في بنزينة وطنية أو أي مشروع تابع للقوات المسلحة، لا يقل أبداً عن المجند أو الضابط الذى يحمل سلاحا أو يحارب فوق الدبابة).
تعد وقائع هذه القضية ثاني الحالات المسموع عنها، والتي تصدى فيها القضاء العسكري لجرائم بسبب النشاط الاقتصادي لوزارة الدفاع. الحالة الاولى كانت في أغسطس 2014 حيث تم تحويل مواطن للقضاء العسكري في إثر شجار بسبب أسبقية تموين السيارة، في إحدى محطات الوقود التابعة لوزارة الدفاع. والآن يواجه 26 عاملا الحبس لمدة تصل إلى 6 سنوات بسبب مطالبهم العمالية غير المتصلة بأي نشاط عسكري. في وضع كهذا، يبدو حقّ المصريين بالمحاكمة أمام قاضيهم الطبيعي حلما بعيد المنال.
[1] القضية رقم 2759 لسنة 2016 والتي يحاكم فيها 26 عامل من الشركة ضمنهم 14 عاملًا محبوسين احتياطيا على ذمة القضية، منذ أربع أشهر، و11 عامل يحاكمون غيابيًا، وعاملة واحدة أخلى سبيلها
[8] انشاء جهاز الصناعات والخدمات البحرية بقرار رئيس الجمهورية رقم 204 لسنة 2003
[9]قانون شركات قطاع الاعمال العام رقم 203 لسنة 1991
[10] نصت المادة 204 على أن "القضاء العسكري جهة قضائية مستقلة، يختص دون غيره بالفصل في كافة الجرائم المتعلقة بالقوات المسلحة وضباطها وأفرادها ومن في حكمهم، والجرائم المرتكبة من أفراد المخابرات العامة أثناء وبسبب الخدمة. ولا يجوز محاكمة مدني أمام القضاء العسكري، إلا في الجرائم التي تمثل اعتداءً مباشراً على المنشآت العسكرية أو معسكرات القوات المسلحة أو ما في حكمها، أو المناطق العسكرية أو الحدودية المقررة كذلك، أو معداتها أو مركباتها أو أسلحتها أو ذخائرها أو وثائقها أو أسرارها العسكرية أو أموالها العامة أو المصانع الحربية، أو الجرائم المتعلقة بالتجنيد، أو الجرائم التي تمثل اعتداءً مباشراً على ضباطها أو أفرادها بسبب تأدية أعمال وظائفهم. ويحدد القانون تلك الجرائم، ويبين اختصاصات القضاء العسكري الأخرى".
[12] تم نشر قانون التظاهر رقم 107 لسنة 2013 بالجريدة الرسمية يوم 24/ 11/ 2013 علي ان يعمل به من اليوم التالي الموافق 25/ 11/ 2013 والتظاهرة كانت يوم 26/ 11/ 2013
This website uses cookies so that we can provide you with the best user experience possible. Cookie information is stored in your browser and performs functions such as recognising you when you return to our website and helping our team to understand which sections of the website you find most interesting and useful.
Strictly Necessary Cookies
Strictly Necessary Cookie should be enabled at all times so that we can save your preferences for cookie settings.
If you disable this cookie, we will not be able to save your preferences. This means that every time you visit this website you will need to enable or disable cookies again.