البرلمان سنة 2020: عندما تصبح “قواعد اللعبة” وهياكل التحكيم محلَّ صراع


2021-03-05    |   

البرلمان سنة 2020: عندما تصبح “قواعد اللعبة” وهياكل التحكيم محلَّ صراع

كانت سنة واحدة من عمر برلمان 2019-2024 كافية لرسم صورة قاتمة عنه لدى متابعي الشأن السياسي كما لدى عامّة الناس: صورة الصراعات المتكرّرة، على كلّ شيء وأيّ شيء. لا يتعلّق الأمر فقط بعنف الخطاب السياسي الذي بلغ حدّ العنف المادّي، والاستفزازات المتواصلة من جهة والاعتصامات المتكرّرة من جهة أخرى، إنّما بوضعيّة دائمة، أصبحت فيها القواعد والهياكل المنظِّمة للعمل البرلماني هي محلَّ صراعٍ لا إطار لإدارته ولا آليّة لفضّه. فبين رئاسة مثيرة للجدل، سواء برمزيّتها السياسية أو بقراراتها، ومكتب ساد فيه المنطق الأغلبي حتى في ما يتعارض مع النظام الداخلي، تحوّلت المسائل الإجرائية التي لم تكن تثير في السابق أيّ إشكال إلى رهان سياسي بامتياز، ومركز اهتمام الكتل كما الإعلام، على حساب التشريعات وجودتها.

رئاسة المجلس في قلب الصراع السياسي

كان واضحاً أنّ زعيم حركة النهضة، راشد الغنوشي، عينه على كرسيّ رئاسة البرلمان منذ إعلان ترشّحه للانتخابات التشريعية. ولم يكن ترؤّسه للجلسة الافتتاحية بوصفه النائب الأكبر سنّاً سوى “بروفا” قبل انتخابه من قِبل 123 نائباً ونائبة ليتولّى رسمياً رئاسة المجلس. بروفة كانت كافية لتُظهر بعض الملامح التي ستميّز هذه الرئاسة: ضعف واضح في تسيير الجلسات، يقابله حصار شديد من معارضيه، واستهداف دائم من زعيمة الحزب الدستوري الحرّ عبير موسي. بمعزل عن مشروعيّته، ساهم انتخاب الغنوشي – إحدى أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل والانقسام في تونس – على رأس المؤسّسة التشريعية في توتير الأجواء داخلها. فمن جهة، على قدر ما كان إظهار الصراع معه وسيلة ناجعة جدّاً بِيد معارضيه لزيادة شعبيّتهم، لم يكن وجوده في قلب الصراع السياسي يسمح له بممارسة صلاحيّات فرض النظام داخل الجلسة العامة ما شجّع النوّاب الأكثر “هرجاً” على التمادي في ممارساتهم. حتّى إنّ تخلّيه، شيئاً فشيئاً، عن ترؤّس الجلسات العامّة التي يتحمّل جلّها نائباه لم يضع حدّاً لجوّ الاستفزاز والعنف. ومن جهة أخرى، اتّسمت إدارة الغنوشي للبرلمان بدرجة عالية من “التحزّب”. رغم أنّ الدستور التونسي لم يفرض على رئيس البرلمان واجب الاستقالة من المسؤوليّات الحزبية، كما هو الشأن في خصوص رئيس الجمهوريّة، ولا واجب “عدم انحياز” كما هو الشأن في الممارسة الدستورية البريطانية، أثارت ممارسات الغنوشي على رأس البرلمان لغطاً كبيراً؛ بدءاً بتعيين عدد كبير من المستشارين وأعضاء الديوان من المنتمين لحزبه، مروراً باستخدام وسائل البرلمان للترويج السياسي لشخصه، وصولاً إلى لقاءات واتّصالات مع مسؤولين أجانب تتطابق مع الاصطفافات الإقليمية لحركة النهضة وتتجاوز حدود الدبلوماسيّة البرلمانية لتنافس رئيس الجمهوريّة في صلاحيّاته[1]. لم يؤدِّ ذلك إلى توتّر العلاقة مع رئيس الجمهوريّة فحسب، بل أثار أيضاً احتجاجات واسعة لدى كتل نيابية عديدة كانت كافية لإجبار المكتب على تخصيص جلستين عامّتين “للحوار” حول الأمر كانتا أقرب للمساءلة. بلغت هذه الاحتجاجات حدّ إيداع لائحة لسحب الثقة من رئيس البرلمان، أمضى عليها 73 نائباً ونائبة من مختلِف الكتل، وعُرضت على التصويت يوم 30 جولية 2020، أي في آخر يوم من الدورة البرلمانية الأولى. نالت اللائحة 97 صوتاً موافِقاً لم تكن كافية لعزل الغنوشي عن كرسيّ رئاسة باردو لكنّها زادت موقفه ضعفاً. فهو ضمن بقاءه “بإسعاف الأوراق الملغاة”[2] التي بلغ عددها 18. يُرجَّح أن تتكرّر هذه المحاولة في الدورة البرلمانية الثانية، خصوصاً بعد السلبيّة التي تعامل بها الغنوشي مع لجوء نوّاب ائتلاف الكرامة إلى العنف المادّي.

رغم أنّ زعيم حركة النهضة حاول، من خلال الوصول إلى رئاسة البرلمان، أن يلبس جبّة “رجل الدولة” وحرص في خطاباته الإعلامية على ترسيخ هذه الصورة عبر الترفّع عن الصراعات، كان أداؤه في قصر باردو محكوماً بالحسابات الحزبية، ليس بصفته رئيساً للمجلس فقط، إنّما أيضاً عبر مكتب البرلمان.

مكتب البرلمان أداة للسيطرة على العمليّة التشريعية

يشمل مكتب المجلس، بالإضافة إلى رئيس البرلمان ونائبيه، 10 أعضاء من الكتل النيابية حسب التمثيل النسبي. فعليّاً، يعني ذلك امتلاك التحالف الثلاثي للنهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة، سواء خلال الدورة البرلمانية الأولى أو الثانية، سبعة مقاعد من أصل 13، أي الأغلبيّة المطلقة للأصوات. بالإضافة إلى ذلك، ينصّ النظام الداخلي على أنّ صوت الرئيس يكون مرجِّحاً في حال التساوي ما يحصّن هذه الأغلبيّة في حال غياب أحد ممثّليها أو احتفاظه بصوته. وهذا يفسّر عدم استناد لائحة سحب الثقة من رئيس المجلس على أخطاء ارتكبها هو فقط، كتجاوزه لصلاحيّاته القانونية، إنّما أيضاً خرق النظام الداخلي من طرف مكتب المجلس.

ولمكتب المجلس، بالإضافة إلى صلاحيّة الإشراف على حسن سير أعمال المجلس وعلى شؤونه المالية والإدارية، دور محوري في العمليّة التشريعية، فهو يضبط برنامج العمل التشريعي وجدول أعمال الجلسات العامّة ويحيل مقترحات ومشاريع القوانين على اللجان ويحدّد آجال النظر فيها. تحوّلت هذه العمليّة التقنية التي لم تكن تثير جدلاً في السابق[3] إلى رهان مهم، خصوصاً في ظلّ تشظّي المشهد البرلماني وتوزّع رئاسات اللجان التشريعية على كتل متنافسة. وتكرّرت مراسلات رؤساء اللجان للمكتب لطلب التراجع عن إحالة مشروع قانون للجنة أخرى. ولعلّ الإحالة الأكثر إثارة للجدل هي المتعلّقة بمقترح القانون المنظِّم لسبر الآراء الذي أودعته الكتلة الديمقراطية مجدّداً سنة 2020، وهي كانت اقترحته خلال المدّة النيابية الفارطة. فقد وجّهه مكتب المجلس للجنة الحقوق والحرّيّات، التي تترأّسها نائبة عن قلب تونس، بدل لجنة التشريع العام التي تترأّسها سامية عبّو (الكتلة الديمقراطية)، في حين أنّ النصّ نفسه كان قبل سنوات أمام أنظار لجنة التشريع العامّ. كانت النتيجة تَعطُّل مناقشة المبادرة التشريعية رغم إصدار مكتب المجلس طلباً شكلياً لاستعجال النظر. ولم تحظَ سوى بجلستين في مارس 2020 لتعود بعدها إلى الرفوف.

في المقابل، شكّل مقترح القانون المُنقَّح للمرسوم 116 أولويّة الأغلبيّة المتحكّمة في مكتب المجلس وفي لجنة الحقوق والحرّيّات ما غذّى الشكوك حول النوايا الحقيقية وراءه، خصوصاً بالنظر إلى علاقة القنوات التلفزية المستفيدة من أحكامه بالأحزاب المساندة له. فعلاوة على إقرار استعجال النظر في هذه المبادرة وتمريرها للجلسة العامة رغم إيداع مشروع قانون حكومي ينظّم القطاع السمعي البصري يحظى دستورياً بأولويّة النظر، غيّر مكتب المجلس تركيبة لجنة الحقوق والحرّيّات ليضمن الأغلبيّة داخلها تزامناً مع مناقشة مقترح القانون، بتعويض نائبة عن الكتلة الوطنية بأخرى عن قلب تونس.

لقد قرّر مكتب المجلس، في ما اعتبرته منظَّمة البوصلة خرقاً خطيراً للنظام الداخلي[4]، اعتماد بداية الدورة النيابية تاريخاً مرجعياً لضبط تركيبة اللجان، ما يعني احتساب كتلة قلب تونس كما لو لم يتراجع عدد نوّابها من38 إلى 26 وإلغاء أيّ تمثيل للكتلة الوطنية التي تكوّنت خلال الدورة. هدفَ هذا القرار أيضاً إلى السيطرة على لجنة التحقيق في شبهات تضارب المصالح التي حامتْ حول رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ. بمعنى آخر، استعمل التحالف الثلاثي، الذي فقد الأغلبيّة المُطلَقة في الجلسة العامّة بسبب الاستقالات التي عصفت بمكوّنَيْن منه، سيطرته على مكتب المجلس لتحصين أغلبيّته داخل اللجان، كلّما كان هنالك رهان سياسيّ مهمّ.

التحقت قيادات سياسية من الصفّ الأوّل بمكتب المجلس بدل مواصلة ترؤّس لجان مهمّة نظراً إلى أهمّيّة الدور الذي أدّاه خلال الدورة البرلمانية الأولى، فتخلّت سامية عبّو عن رئاسة لجنة التشريع العامّ وعبير موسي عن رئاسة لجنة الطاقة من أجل عضويّة المكتب. وقد يكون حضورهما من بين الأسباب التي دفعت الغنوشي إلى التغيّب عن بعض الجلسات فقدَ خلالها التحالف الذي يتزعّمه الأغلبيّةَ فمرّت قرارات ضدّ مصالحهم. قد يكون فقدان الأغلبيّة داخل مكتب المجلس أحد الأسباب التي ساهمت في تشنّج نوّاب ائتلاف الكرامة فلجأوا إلى شتّى الوسائل لمنع إدانة تصريحات زميلهم في الكتلة محمّد العفّاس حول الأمّهات العازبات، وصولاً إلى العنف المادّي ضدّ النائب أنور بن الشاهد يوم 7 ديسمبر.

اللوائح البرلمانية: عندما نسدّ ثغرات القانون… بخرقه

كان عدم إحالة مشروع اللائحة الذي تقدّمت به كتلة الحزب الدستوري الحرّ “لتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم إرهابي” على الجلسة العامّة أكثر قرارات مكتب المجلس إثارة للجدل. فقد اعتبر المكتب، بتصويت أغلبيّة الأصوات السبعة نفسها، أنّ مضمون اللائحة “يدخل ضمن مجال التشريع”، الأمر الذي يخالف صريح نصّ النظام الداخلي. يسمح هذا الأخير لكلّ رئيس كتلة بتقديم مشروع لائحة “بهدف إعلان موقف حول موضوع وحيد” على الجلسة العامّة للمناقشة والتصويت. بعبارة أخرى، لم يستثنِ مجالات معيّنة ولم يفرضْ شروطاً سوى أحادية الموضوع وعدم تعلّقه “بإحدى اللوائح المنظَّمة بالنظام الداخلي”، والمقصود لائحة اللوم ولائحة إعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور.

يشكّل غياب الشروط على إيداع اللوائح وفرض عرضها على الجلسة العامّة في أَجَلِ شهر ثغرةً في النظام الداخلي تسمح لأيّ كتلة بأن تتحكّم في الأجندة البرلمانية والسياسية[5]. ثغرة استغلّتها كتلة الدستوري الحرّ لإدراج مشاريع لوائح مؤدّاها إجبار النواب على الاصطفاف، إمّا وراءها أو وراء حركة النهضة. فالكتلة ذاتها كانت قد عرضت قبل أسابيع من ذلك لائحة لإدانة التدخّل الأجنبي في ليبيا، التدخّل التركي والقطري تحديداً، أحدثت هي الأخرى جدلاً كبيراً. في الأسبوع ذاته، نظرت الجلسة العامّة في لائحة اقترحها ائتلاف الكرامة تطالب فرنسا بالاعتذار عن جرائمها خلال الحقبة الاستعمارية. في الحالتين، كانت اللوائح التي تفتقر لأيّ قيمة تشريعية أو إلزامية أداة بيد المبادرين بها للفرز بين “الوطنيين” و”الخونة”، وفق منظورهم. لم تحظَ أيّ من اللائحتين بالأغلبيّة اللازمة (109 أصوات)، ويبدو أنّ هدفهما لم يكن أساساً المصادقة عليهما بقدر ما كان إيجاد حالة من الاستقطاب الثنائي وإحراج الخصوم، وهو ما تحقّق.

لم تكن مواصلة كتلة الدستوري الحرّ استغلال هذه الثغرة مفاجئة، خصوصاً في ظلّ استطلاعات الرأي التي أثبتت نجاعة استراتيجيّة الصراع الثنائي مع الإسلاميين. إنّ رفض مكتب البرلمان إحالة اللائحة المطالِبة بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم إرهابي لم يزدها سوى إصراراً على إيداع مشاريع لوائح جديدة، سواء حملت مطلب اللائحة المرفوضة ذاته أو مطالب مشابهة، كإصدار البرلمان “تنديداً بتبييض الإرهاب ودعوة الحكومة لتجفيف منابعه وتفكيك منظومة تمويله وحلّ التنظيمات السياسية والجمعيّاتية الداعمة للعنف والفكر الظلامي المتطرف”.

الحلّ الذي وجده مكتب المجلس برفض عرض مشروع اللائحة “تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كتنظيم إرهابي” على الجلسة العامّة، لم يكن غير ناجع فقط إنّما شكّل خرقاً فاضحاً للنظام الداخلي، حيث استعمل المكتب سلطة تقديرية لم يمنحه إيّاها النصّ. لا وجودُ ثغرةٍ قانونية، ولا تعسّفُ كتلةٍ في استعمالها يبرّر خرق القانون لسدّها. يبدو أنّ الأغلبيّة النيابية أدركت، أسوة ببقيّة الكتل، عدم قانونيّة وضعف نجاعة هذا الحلّ فاختارت استراتيجية أخرى تقوم على مقاطعة الجلسات المخصَّصة لنقاش اللوائح، الأمر الذي يحول دون اكتمال النصاب الضروري لعقدها، وهو ما حصل يوم 15 ديسمبر بخصوص لائحة التنديد بتبييض الإرهاب.

رغم قانونيّة ونجاعة المقاطعة كان من الأجدى التسريع بتنقيح النظام الداخلي لترشيد استعمال آليّة اللوائح أو تعويضها بأخرى تحقّق الهدف ذاته، ألا وهو تمكين المعارضة من إيصال صوتها والتأثير في الأجندة البرلمانية بدون تعطيل العمل التشريعي، كتخصيص أيّام للمعارضة في كلّ دورة برلمانية تطرح خلالها ما تريد من نقاط على جدول الأعمال[6].

الإجراءات الاستثنائية: المعانَدة في الخطأ لا تصحّحه

إنّ تجاهُل النظام الداخلي عِوض تنقيحِه هو نفسه ما حصل حين صادق البرلمان على إجراءات استثنائية تتيح له مواصلة العمل مع تفشّي وباء كورونا. تمّ ذلك مرّة أولى يوم 26 مارس 2020، بعد إعلان الحجر الصحّي العامّ بأيّام، صوّتت حينها الجلسة العامّة على “مشروع قرار” اقترحه مكتب المجلس. يسمح هذا “القرار” باختصار آجال النظر في مشاريع القوانين المتعلّقة بمجابهة الجائحة وآثارها، وعقد الجلسات العامّة عن بُعد بما في ذلك التصويت، بالإضافة إلى اجتماعات اللجان ومكتب المجلس وندوة الرؤساء، ويفوّض الدور الرقابي على الحكومة “لخليّة أزمة”، وجميعها أمور تتعارض مع مقتضيات النظام الداخلي.

أثار عرضُ هذا النصّ على الجلسة العامّة تساؤلات وانتقادات من عدد من النوّاب، بخاصّة أنّ النظام الداخلي لا يسمح للجلسة العامّة بالمصادقة على “قرارات” ولا لمكتب المجلس أن يكون جهة مبادرة. لم تمنع هذه الاحترازاتُ النوّاب من المصادقة على القرار بأغلبيّة 117 صوتاً، مقابل احتفاظ 17 ومعارضة 3. فقد صوّتت كلّ الكتل لصالحه، باستثناء كتلة الدستوري الحرّ التي احتفظ جلّ أعضائها بأصواتهم، ونائبَيْن من الكتلة الديمقراطية صوّتوا ضدّه.

إنّ التأقلم مع الوضعيّة الوبائية لضمان استمراريّة عمل البرلمان أمر محمود مع ذلك، كان ينبغي أن يمرّ عبر تنقيح النظام الداخلي بإضافة باب للإجراءات الاستثنائية، يضبط شروطها ومداها وطريقة تفعيلها. إلّا أنّ الأغلبيّة البرلمانية كانت آنذاك في سباق ضدّ الزمن، ليس نظراً إلى سرعة انتشار الفيروس فقط، إنّما أيضاً، والأهمّ، لاستباق إيداع حكومة إلياس الفخفاخ مشروع قانون لنيل تفويض للتشريع عبر مراسيم. فكانت الإجراءات الاستثنائية لا تهدف إلى الإبقاء على البرلمان محوراً للعمليّة السياسية فقط، إنّما أيضاً إلى إبطال إحدى ذرائع طلب التفويض، وهي استحالة اجتماع البرلمان في هذه الظروف الصحّية[7].

وعِوض تدارك الأمر إبّان الموجة الوبائية الثانية، والتصويت على تنقيحٍ للنظام الداخلي يسمح بتفعيل هذه التدابير، مرّر مكتب المجلس مرّة أخرى “مشروع قرار” لتصويت الجلسة العامّة. أثار هذا التصويت جدلاً واسعاً، حيث اتّهمت كتلٌ نيابية رئاسةَ الجلسة ولجنةَ الفرز بتزوير النتائج، بعد إعلانها عن 118 صوتاً “مع”، في حين كان عدد الحاضرين أقلّ من 109. ولعلّ ما عزّز الشكوك هو تأخّر نشر نتائج التصويت، الذي احتاج أسبوعين، مقارنة بأجل 48 ساعة الذي يضبطه النظام الداخلي، بالإضافة إلى القائمة المنشورة نفسها التي تضمّنت 117 اسماً، منهم من لم يحضر الجلسة وآخرون أنكروا تصويتهم لصالح القرار. وقد استجلبت الكتلة الديمقراطية عدل تنفيذ لمعاينة فيديوهات الجلسة الذي خلص إلى أنّ عدد المصوّتين لصالح الإجراءات الاستثنائية لم يتجاوز 101، أي أقلّ من الأغلبيّة المطلقة اللاّزمة لاعتمادها، “قياسا على ما يتطلّبه تعديل النظام الداخلي” حسب ديباجة القرار الأوّل المصادَق عليه في 26 مارس. وبقيت الجلسات العامّة التشريعية مُعطَّلة لأسابيع، بين احتجاج الكتلة الديمقراطية وتشبّث الأغلبيّة البرلمانية بصحّة التصويت، في انتظار بتّ الهيئة الوقتية لرقابة دستوريّة مشاريع القوانين في طعن الكتلة الديمقراطية في دستوريّة مشروعَيْ قانونَيْن تمّ التصويت عليهما وفقاً للإجراءات الاستثنائية. لكن الهيئة، ورغم تذكيرها بأنّ رقابتها تشمل إجراءات المصادَقة على مشاريع القوانين كما مضمونها، رفضت الطعن في الأصل[8]، واعتبرت أنّه “طالما كانت التدابير محدودة في الزمن ومبرَّرة” بالمصلحة العامّة ومبدأ استمراريّة المرفق العامّ، فإنّ اعتمادها لا يبرّر التصريح بعدم دستوريّة المشروعَيْن. كان تعليل الهيئة الوقتية ضعيفاً بالمقارنة مع الطعون المقدَّمة، في ما يبدو كأنّه حِرصٌ على تفادي فتح “صندوق باندورا”، نظراً إلى ما قد ينجرّ عن التصريح بعدم دستوريّة القوانين المصادَق عليها وِفق الإجراءات الاستثنائية.

كان من شأن إقحام التدابير الاستثنائية في النظام الداخلي إنهاء الجدل، وهو ما نصّ عليه قرار 7 أكتوبر الذي ألزم لجنة النظام الداخلي بعرض مشروع التنقيح على الجلسة العامّة قبل انتهاء فترة التدابير الاستثنائية. كان بالإمكان تفادي أسابيع من الجدل والصراع والتشكيك، لو تمّ إجراء تنقيح سريع للنظام الداخلي. لكن الأغلبية البرلمانية اتّجهت للحلّ الأسرع، وذلك، على الأقلّ حسب معارضيها، بنيّة تسهيل التصويت على تنقيح المرسوم 116، فكان الرهان السياسي، مرّة أخرى، أهمّ من ضرورة احترام النظام الداخلي.

تنقيح النظام الداخلي: نقاشٌ غلبت عليه الرهانات السياسية والآنية

برزت الحاجة إلى تنقيح النظام الداخلي لمجلس نوّاب الشعب منذ المدّة البرلمانية الفارطة، وتمّ إيداع مقترحات عديدة في هذا الشأن. لكن لم يكن الرئيس السابق للبرلمان محمّد الناصر متحمّساً لذلك، واعتبر نفسه مستهدفاً بطرح نوّاب حركة النهضة فكرة التداول السنوي على الرئاسة، فبقي البرلمان يعمل وِفق قواعد ثمّة إجماع على ضرورة مراجعتها.

لذلك، لم يكن مفاجئاً أن يشكّل تنقيح النظام الداخلي إحدى أولويّات البرلمان المنتخَب في 2019. لكنّه احتاج قرابة سنة من النقاشات داخل اللجنة، لم تنتهِ إلّا في منتصف شهر نوفمبر، ليتأجّل عرضه على الجلسة العامّة إلى سنة 2021. لا يترجم طولُ النقاشات حرصَ مختلف الكتل على النهوض بأدوار المجلس، وخصوصاً التشريعي والرقابي، بقدر ما يترجم طغيان الرهانات السياسية عليه.

كان الرهان الأوّل، مرّة جديدة، مسألة التداول السنوي على الرئاسة التي اقترحتها الكتلة الديمقراطية في سياق صراعها مع الغنوشي، وصادقت عليها اللجنة قبل أن تتدارك الأغلبيّة البرلمانية الأمر وتعيد التصويت على الفصل بعد أشهر للتراجع عن هذا التنقيح، ليتحوّل النقاش إلى تبادل الشتائم والاتهامات[9]. كما استأثرت مقترحات منع “السياحة البرلمانية” بقدر كبير من النقاش والجدل، فقد سعى التحالف الثلاثي الذي أفقده تهاطل الاستقالات، خصوصاً في كتلة قلب تونس، الأغلبيّة المطلقة إلى وضع حدّ لنزيف النواب. وصادقت اللجنة على المقترح القاضي بأن يفقد كلّ نائب يستقيل من الحزب أو الائتلاف الذي ترشّح باسمه، عضويّته في البرلمان. لا شكّ أنّ ظاهرة “الانتجاع البرلماني” أضرّت كثيراً باستقرار البرلمان كما بصورته لدى الناس. لكن إقرار جزاء فقدان العضويّة في النظام الداخلي للبرلمان هو أوّلاً، مخالف للدستور[10]؛ وثانياً، حلّ غير ناجع يكتفي بعلاج أحد الأعراض الجانبية عِوض التصدّي لأمراض الحياة السياسية في تونس، كضعف الديمقراطيّة داخل الأحزاب وغياب شفافيّة التمويل، التي تحتاج إلى مراجعة شاملة للمنظومة القانونية الخاصّة بالأحزاب والانتخابات؛ وثالثاً، حلّ محكوم بحسابات سياسية آنية، لا برؤية إصلاحية شاملة.

كان منطق الحسابات الآنيّة نفسه وراء مقترحات أخرى استهدفت ممارسات كتلة الحزب الدستوري الحرّ عبر تعزيز الصلاحيّات العقابية لمكتب المجلس ومنع رفع لافتات أو رايات أو صور تحت قبّة البرلمان، وتسليط عقوبة المنع من أخذ الكلمة لثلاث جلسات متتالية على كل نائب يعتلي منصة الرئاسة أثناء سير الجلسة العامّة[11].

طبعاً، لم يمنع التركيز على الرهانات السياسية من إدخال تنقيحات عديدة على بقيّة فصول النظام الداخلي، كتخفيض عدد أعضاء اللجان من 22 إلى 15، واستبدال التقسيم بين لجان قارّة ذات دور تشريعي، ولجان خاصّة ذات دور رقابي، إلى لجان قارّة تجمع بين الدورين ولجان خاصّة وقتية حول مواضيع معيّنة. كذلك، ذهبت اللجنة في اتّجاه الترفيع من عدد النوّاب الذين يحقّ لهم تكوين كتلة إلى 10، والتشديد على إلزاميّة الحضور بذكر الأعذار الشرعية للتغيّب وإقرار الاقتطاع الآلي بمجرّد التغيّب عن جلستين عامّتين للتصويت وثلاثة اجتماعات لجان في الشهر نفسه، وترشيد آليّة نقاط النظام التي كثيراً ما تُعطِّل الجلسات العامّة، وإعادة صياغة الأحكام الخاصّة بالحصانة البرلمانية، وترشيد الأسئلة الشفاهية للوزراء بتحديد مدّة السؤال والإجابة بسبع دقائق، إلخ.

رغم إيجابيّة معظم هذه المقترحات فقد تميّزت باكتفائها في معظم الأحيان بإصلاحات جزئية، لا تغيّر جذرياً طريقة عمل البرلمان. حيث كانت الكتل النيابية مشغولة تحديداً بالحسابات السياسية الآنية، التي استأثرت بالقدر الأكبر من النقاش، وطبعته بتجاذباتها وصراعاتها، عِوض البحث عن تصوّر مشترَك لما يمكن أن ينهض بالعمل البرلماني. سيتكرّر نفس الجوّ على الأغلب في الجلسة العامّة، وقد يعطّل المصادَقة على التنقيحات، الجيّد منها كما السيّئ.

طبعت الأجواء المشحونة عمل البرلمان خلال سنته الأولى، فساهمت في تعطيل أشغاله وإفساد صورته أكثر فأكثر لدى الرأي العامّ. صحيح أنّ كتلتَيْ ائتلاف الكرامة والدستوري الحرّ تتحمّلان مسؤوليّة كبيرة في ما آلت إليه الأوضاع، الأولى بتكرار استفزازاتها لخصومها، واستعمال خطاب عنيف ومتطرّف، معادٍ لحقوق النساء والأقلّيّات وصل إلى حدّ التكفير، والثانية باعتصاماتها المتكرّرة وتعطيلها للجلسات وافتعالها الدائم للصراعات. ومن المرجّح أن تواصل الكتلتان الاستراتيجية ذاتها، بما أنّ استطلاعات الرأي تثبت نجاعتها. لكن هياكل تسيير المجلس، وخصوصاً رئاسته ومكتبه، تتحمّل هي الأخرى قدراً كبيراً من المسؤوليّة، حيث كانت جزءاً من المشكلة لا من الحلّ، وساهمت في تغذية الصراع بقرارات محكومة بمصالحها الحزبية حتّى على حساب احترام النظام الداخلي.

ليس ما سبق حنيناً لسنوات “التوافق” ولا هو شيطنة للصراع السياسي، لكن توتّر الأجواء وحالة الصراع الدائم التي يشهدها البرلمان تذكّرنا بأجواء المجلس الوطني التأسيسي، مع فرق جوهري يتمثّل في عدم اتّصال صراعات اليوم برهانات تشريعية تغيّر واقع الناس، على عكس صراعات سنوات 2012 و2013 التي كانت على الأقل ترجمة لحجم الرهان، صياغة دستور الجمهوريّة الثانية. اليوم، أصبح الصراع والمبالغة في إظهاره هدفاً في حدّ ذاته، وانشغل معظم الفاعلين بحسابات المصالح الانتخابية وحتّى المالية في بعض الأحيان، وتصارُع الجميع على قيادة سفينة… توشك أن تغرق.

 

 

نشر هذا المقال بالعدد 21 من مجلة المفكرة القانونية | تونس | لقراءة العدد اضغطوا على الرابط أدناه:
جائحة 2020: ملامح ثورة مغدورة

 

  1. مهدي العش، “أسئلة حول صلاحيّات رئيس البرلمان التونسي: عندما يتجاوز الطموح السياسي الصلاحيّات القانونية”، المفكّرة القانونية، 12 جوان 2020.
  2. يوسف عبيد، “ماذا بعد سحب الثقة من رئيس مجلس نواب الشعب؟ فاز الغنوشي دون أن ينتصر”، المفكّرة القانونية، 14 أوت 2020.
  3. باستثناء إحالة مشروع قانون تحسين مناخ الاستثمار على لجنة التشريع العامّ بدل لجنة الماليّة، لتفادي تعطيله من قِبل رئيسها منجي الرحوي المنتمي للمعارضة.
  4. “تقييم منظمة البوصلة لأشغال مجلس نواب الشعب، الدورة البرلمانية الأولى”، منظمة البوصلة، ص. 27.
  5. مهدي العش، “اللوائح البرلمانية : سلاح بلا ضوابط للفرز السياسي وإحراج الخصوم”،المفكّرة القانونية، 19 جوان 2020.
  6. المصدر نفسه.
  7. حاولت أحزاب الأغلبيّة البرلمانية التقويض من مجال التفويض داخل لجنة النظام الداخلي، قبل أن ترضخ لضغط الفخفاخ والرأي العامّ وتصوّت بأغلبيّة واسعة على منح التفويض في صيغة قريبة من التي اقترحتها الحكومة.
  8. قرارا الهيئة الوقتية لمراقبة دستوريّة مشاريع القوانين عدد 2020/1 و2020/2 مؤرّخان في 23 نوفمبر 2020.
  9. “تقييم منظمة البوصلة لأشغال مجلس نواب الشعب، الدورة البرلمانية الأولى”، منظمة البوصلة، ص. 47.
  10. مهدي العش،”مقترح منع ’السياحة الحزبية‘ في النظام الداخلي للبرلمان التونسي: عندما نترك المرض لنعالج أحد أعراضه”،المفكّرة القانونية، 11 ماي 2020.
  11. “تقرير لجنة النظام الداخلي والقانون الانتخابي والقوانين البرلمانية حول مقترح تنقيح وإتمام النظام الداخلي لمجلس نواب الشعب”، مجلس نوّاب الشعب، 28 ديسمبر 2020، ص. 42.

 

انشر المقال

متوفر من خلال:

مجلة ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، حركات اجتماعية ، تونس ، دستور وانتخابات ، مجلة تونس



لتعليقاتكم


اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني