الاقتطاع المباشر بين التعددية النقابية والابتزاز السياسي


2023-03-24    |   

الاقتطاع المباشر بين التعددية النقابية والابتزاز السياسي
رسم عثمان سلمي

مرة أخرى، وفي سياق الأزمة الدائرة بين السلطة الحالية والاتحاد العام التونسي للشغل، يعود الاقتطاع المباشر للواجهة من جديد، كعصا تهدّد بها السلطة هذا الأخير، وتعطي فرصة لأنصارها من أجل تشويهها. لذلك كان من الأهمية بمكان الوقوف على خلفيات التوظيف السياسي لهذه الآلية، للكشف عما يحيط بها من مغالطات وحقائق.

الاقتطاع المباشر هو الآلية  المعتمدة في القطاع العمومي والوظيفة العمومية، والتي يتم من خلالها استخلاص معلوم الانخراط في إحدى المنظمات النقابية. وعوضا أن يتم دفعه عن طريق المكاتب الجهوية والمحلية لتلك المنظمة يقع استخلاصه مباشرة من راتب المنخرط وذلك عن طريق إدارة المؤسسات والمنشآت العمومية الراجع لها بالنظر، والتي تقوم فيما بعد  بتحويل مجموع هذه المبالغ للحساب الجاري للمنظمة النقابية. وقد مثّل الاقتطاع المباشر عنوانا لتصالح الإدارة ومن ورائها السلطة السياسية مع الحركة النقابية والتنسيق المشترك بينهما. وعليه، فمن غير المستغرب أن يكون عنوانا أيضا لفترات الشدّ والانسداد بينهما. وفي السياق التونسي، ارتبط الاقتطاع المباشر بأكبر وأقدم منظمة نقابية في البلاد: الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي تمتع بهذا الحق منذ سنوات دون سواه من المنظمات الأخرى، إلى حدّ تحوّل معه الاقتطاع إلى “امتياز” ممنوح لهذه المنظمة حسب خصومها.

وتركز سردية المهاجمين للاتحاد على تغوّله السياسي وتحكّمه الإداري من جهة وعلى عائداته المالية الضخمة وغياب الشفافية حولها، خاصة عندما يتعلق الأمر بآلية الاقتطاع المباشر التي يتمّ وصفها عمدا بكونها اقتطاعا آليا وتصويرها وكأنها امتياز “إقطاعي” تفرضها بيروقراطية المنظمة على الموظفين. ولكن هذه الصورة المبنية على المبالغة ليست هي الواقع. ذلك أن الاقتطاع المباشر ليس سوى مورد من موارد مالية متعددة لهذه المنظمة والتي تتنوع من الإعانات الحكومية وصولا إلى التصرف في بعض المؤسسات مثل نزل “أميلكار” وغيرها. ولكن نظرا لغياب نشر ميزانية الاتحاد للعموم، فإننا لا نعلم يقينا ما توفره هذه الآلية من موارد وهو ما يترك مجالا خصبا للشائعات والمبالغات من طرف خصوم المنظمة، خاصة خلال الظرف الحالي حيث أمستْ العلاقة بين الاتحاد والسلطة في إحدى أكثر مراحلها توترا.

في هذا المقال، نسعى لتتبع آلية الاقتطاع المباشر منذ 2011 لليوم، لا فقط من زاوية نظر قانونية وحقوقية بحتة وإنما أيضا من خلال توظيفها السياسي.

الاقتطاع المباشر “عصا” السلطة المحببة

من الطبيعي أن تكون علاقة السلطة السياسية بالاتحاد العام التونسي للشغل علاقة متشعبة وغير ثابتة. إذ يحتوي تاريخ الدولة الوطنية الحديثة أمثلة عدة تعكس حينا القرب والتوافق وحينا آخر الجفاء والقطيعة. أما العنصر الثابت في كل هذه الأطوار فهو وجود منظمة نقابية قوية وسلطة سياسية تسعى للهيمنة عليها وفي أفضل الحالات التوافق معها. وبعد الثورة التونسية لسنة 2011 لم يتغير المشهد كثيرا، إذ لعب الاتحاد دورا أساسيا في فترة الفراغ السياسي الأولى ثم خلال حكم الترويكا وصولا لدوره المركزي في الحوار الوطني 2013-2014. وهي محطّة أضحى إثرها الاتحاد طرفا وازنا في المعادلة السياسية تحت شعار التوافق الوطني. وفي السنة الموالية، وبتاريخ 16 نوفمبر 2015 صدر عن رئيس الحكومة الحبيب الصيد، المنشور عدد 22 والذي منح إلى جانب الاتحاد عددا من المنظمات النقابية الأخرى الأقل حجما الحقّ في التمتّع بآلية الاقتطاع الآلي. هذه الخطوة وقتها سرعان ما ندّدت بها المنظمة النقابية واعتبرتها مندرجة ضمن خانة الاصطفاف الحكومي وراء منظمة “الأعراف” والضغط على النقابيين أثناء إحدى أطول الأزمات بين المنظّمتين حول الزيادات في أجور القطاع الخاص وكادتْ أن تؤدي إلى إضراب عام في هذا القطاع وقتها. وضمن ردود الفعل على هذا الإجراء، لمّح الاتحاد إلى أن هذا المنشور مجرد استنساخ لمنشور آخر سابق أبرمه رئيس حكومة الترويكا قبل مغادرته القصبة سنة 2013،[1] وذلك بهدف الضغط على المنظمة التي كانت أبرز حركات المعارضة وقتها، إلا أن رئيس الحكومة اللاحق مهدي جمعة جمد المنشور ولم يعمل به. في الفترة الموالية لحكومة الصيد، تحديدا حكومة يوسف الشاهد، ورغم العلاقة  التي بدت متوترة بين حكومته والاتحاد خاصة في أيامها الأولى، إلا أن مسألة الاقتطاع المباشر لفائدة الاتحاد لم تطرح مطلقا بل تمّ التخلي عمّا ذهبت إليه حكومة الصيد، وذلك في ظل غياب نية واضحة في التصعيد مع المنظمة وقتها. وما يلاحظ بخصوص كل هذه الخطوات، أن السلطة السياسية على اختلاف الممسكين بزمامها طوال العشرية الماضية لم تسعَ فعلا إلى اتخاذ خطوات جذرية في الحدّ من هذا “الحق” وإلغائه، بل كان أقصى قرار اتخذ في هذا الصدد هو إشراك المنظمات النقابية الأصغر في التمتع به إلى جانب الاتحاد.

أما المثال الوحيد الذي ذهب إلى ما أبعد من هذا فقد تم على الصعيد المحلي لا الوطني، إذ قرر رئيس بلدية بنزرت المنتمي لحركة النهضة، إيقاف الاقتطاع المباشر لفائدة جميع النقابات المهنية مطلع فيفري 2021. حصل ذلك إثر إقدام عدد من العاملين بالبلدية على تأسيس نقابة جديدة ثم الانسلاخ عنها. وقد برّر رئيس البلدية وقتها قراره بأن إيقاف الاقتطاع الآلي يهدف إلى” تحرير الموظفين والأعوان وإتاحة الحرية لهم للالتحاق بأي نقابة يريدون”. وبطبيعة الحال، فإن قيادة الاتحاد رفضت هذا القرار ودعت إلى الاحتجاج أمام مقر البلدية. وهنا حام الجدل حول مدى قانونية هذا الإجراء، إذ تمسك الرافضون له بكون خيار الخصم من الأجور في الوظيفة العمومية من صلاحيات رئيس الحكومة دون سواه. بينما أكد رئيس البلدية أن قرار الاقتطاع لا يتم إلا بموافقة الآمر بالصرف، وفي علاقة بموظفي البلدية فإن ذلك يكون من مشمولات السلط المحلية[2]. غير أن الأحداث سرعان ما طوت هذا النقاش القانوني، مع نشر الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 17 فيفري بلاغا مقتضبا عن لقاء جمع رئيس البلدية المعني بالأمين العام للاتحاد تمّ خلاله “طرح عدة ملفات إشكالية تم على إثره تسويتها بالحوار”. وعليه، فإنه وفي مختلف سياقات العشرية اللاحقة للثورة لم تُطرح مسألة الاقتطاع إلا كوسيلة ضغط سرعان ما يقع التراجع عنها مع التسويات التي سرعان ما تتم بين الاتّحاد والسلطة السياسية تحت عناوين شتى.

الاقتطاع المباشر والتعددية النقابية

ورقة الاقتطاع المباشر التي يقع التلويح بها في وجه الإتحاد العام التونسي للشغل، دائما ما يقع تسويغها بحقّ التعددية النقابية، إذ تزعم السلطة السياسية أن تعميم هذه الآلية على بقية المنظمات النقابية الأخرى من شأنه أن يكرس ويعزز التعددية النقابية، باستثناء مثال رئيس بلدية بنزرت الذي سعى لتعزيز التعددية من خلال الإلغاء الجذري لهذه الآلية عوض تعميمها. 

ويؤكد المدافعون على تعميم الاقتطاع الآلي على كل النقابات أن هذا الأمر ليس مجرّد امتياز أو منّة من السلط الادارية وإنما هو تطبيق للنصوص الدستورية التي كرست بشكل صريح الحقوق النقابية، سواء الحقّ في بعث النقابات (الفصل 35 من دستور 2014)  أو ممارسة العمل النقابي (الفصل 36)[3]. فالتعددية النقابية تستوجب تعميم آليات العمل النقابي على جميع المنظمات: الحق في التفاوض مع سلط الإشراف والتفرّغ النقابي بالنسبة لنقابيي القطاع العام، إضافة إلى الاقتطاع المباشر، وهو ما لم يتم العمل به إذ بقيت هذه الآليات أو الحقوق في أغلبها حكرا على المنظمة الكبرى والأكثر تمثيلية أي الاتحاد العام التونسي للشغل. لذلك لم يكن من المستغرب أن يقع اتهامه من طرف هذه النقابات بضرب التعددية النقابية والضغط على السلطة السياسية للحيلولة دون تفعيلها. وفي تفنيده لهذه المزاعم، يبني الإتحاد دفاعه قانونيا بالعودة لمسألة التمثيلية. والمقصود بها أن المنظمة الأكثر انتشارا بين العمال تتولى تمثيلهم في ذلك القطاع أو المؤسسة، وبالتالي يحق لها وحدها التمتع بهذه الحقوق. ومن البديهي أن يكون الاتحاد العام التونسي للشغل هو هذه المنظمة. هنا تفصِل سردية المنظمة بين الحق في التعددية النقابية المكفول دستوريا من جهة، والحقوق المنجرة عن تمثيلية الشغالين ومن بينها الاقتطاع. والملاحظ هنا أن مسألة الحقوق المنجرة عن التمثيلية ومدى تعميمها من عدمه هي أقرب للقواعد العرفية الناشئة عن الممارسة بين السلطة والمنظمة الشغيلة، إذ أن النص القانوني المرجعي لحدود اللحظة، ألا وهو مجلة الشغل لم يشر لهذه المسألة وإنما اكتفى بالتأكيد ضمن الفصل 242 على مبدأ حرية تأسيس النقابات، وذلك على خلاف تشريعات مقارنة توسّعت في تفسير مسألة التمثيلية هذه. ولذلك كان لزاما على القضاء الإداري أن يتدخل في مرحلة ما لسدّ هذا الفراغ.

المحكمة الإدارية على الخط

سنة 2015، طُرِحت المسألة أمام المحكمة الإدارية في علاقة بدعوى رفعتها الجامعة العامة التونسية للشغل ضد رئاسة الحكومة ووزير الشؤون الاجتماعية طعنا بالإلغاء في قرارات ضمنية صادرة عن الجهتين المدعى عليهما والمتعلقة بتمكينها من الحقوق المتمثلة أساسا في الاقتطاع المباشر والتفرّغ النقابي. وعليه، أصدرت المحكمة الإدارية حكمها عدد 139135 بتاريخ 26 جوان 2015 والذي جاء فيه “أن رفض الإدارة تمكين الجامعة العامة للشغل من الحقوق والامتيازات المترتبة عن صفتها كمنظمة نقابية يؤول إلى إفراغ مبدأ حرية ممارسة الحق النقابي من أهمّ مكوّناته”. وفي هذا الحكم، ذهبت المحكمة نحو الربط المباشر بين التعددية النقابية والحقوق المترتبة عنها كالاقتطاع المباشر والفصل بين هذه الأخيرة ومعطى التمثيلية.

أما عن بنائها القانوني لحكمها هذا، فقد عادت فيه لنصوص الدستور المكرسة للحق النقابي والتعددية النقابية والتي جاءت مجملة. ثم مع معاينتها لغياب “النصوص التشريعية ذات العلاقة بممارسة الحق النقابي” باستثناء النصوص العامة في مجلة الشغل، استوجب على المحكمة العودة إلى الاتفاقيات الدولية المصادق عليها وتحديدا اتفاقية العمل الدولية رقم 151 المتعلقة بعلاقات العمل في الوظيفة العمومية، تحديدا مادتها الرابعة الرافضة للتمييز بين النقابيين في الوظيفة العمومية، لتخلص في النهاية إلى ضرورة تفعيل الإدارة لآلية الاقتطاع المباشر وذلك من أجل “أن تعامل كل التنظيمات النقابية على قدم المساواة  تفعيلا لتعددية نقابية حقيقية تماهي ما حققته الدولة التونسية من تعددية سياسية فعلية”. ومن خلال هذه الحيثية الأخيرة، نلاحظ التشبع بمناخ الحقوق والحريات والتعددية الذي أحاط بهذا الحكم وصبغه في تلك الفترة من الإنتقال الديمقراطي. ولكن هل كان لزاوية النظر القانونية والحقوقية هذه أن تحيط بكل جوانب المسألة؟

للنقابات أيضا لعبتها السياسية

لم تطرح مسألة الاقتطاع المباشر على الصعيد القانوني إلا لماما في علاقة بفقه القضاء سابق الذكر،  ولكنها ارتبطت كلما طرحت في الفضاء العام بسياقات سياسية أساسا. خاصة من زاوية الاتّحاد العام التونسي للشغل، الذي اعتبرها دائما خطوة من خطوات الضغط عليه لتحجيمه وإضعافه. وهذا يعود أساسا لموقف الاتحاد نفسه من النقابات الأخرى، إذ أن هذه المنظمة والتي كانت لفترة طويلة قبل 2011 الاتحاد النقابي الوحيد في البلاد[4] وجدت نفسها إثر الثورة أمام واقع مختلف مع تأسيس عدد من المنظمات النقابية الجديدة[5] والتكريس الدستوري للتعددية النقابية. الأمر الذي ترفضه هذه المنظمة وتعتبره محاولات “غير بريئة” لضرب الاتحاد وتشتيت وحدة العمال، فثقل تجارب الاتحاد منذ أزمة 1978 وتجربة “الشرفاء” الذين انشقّوا وحاولوا بعث اتّحاد مواز ومُوال للسلطة  في الثمانينات[6] حافظ على حضور خطر ضرب المنظمة وتفتيت العمل النقابي، وبالتالي تبني نهج تحتكر فيه القيادة النقابية للمنظمة أحقيّة الدفاع عن العمال وتمثيلهم دون سواها[7]. ولعلّ ترؤس إحدى هذه المنظمات النقابية الجديدة، تحديدا “اتحاد عمال تونس” من طرف السيد اسماعيل السحباني من شأنه أن يعيد إلى أذهان نقابيي المنظمة الكبرى كل هذه الهواجس. خاصة وأنه سبق له أن تولّى الأمانة العامة لاتحاد الشغل لأكثر من عشر سنوات خلال فترة حكم الرئيس بن علي، وهي فترة يعتبرها كثيرون أكثر فترات المنظمة قتامة، حين نجحت السلطة في تطويع المنظمة وإضعافها[8].

وبناء على هذا، عمل الاتحاد للضغط لا من أجل حلّ هذه النقابات أو منع بعثها نظرا لاستحالة ذلك قانونا أو واقعا، ولكن من أجل الحدّ من نفوذها. وتحت فكرة التمثيلية دفَعَ نحو حصر الامتيازات النقابية وعلى رأسها الاقتطاع المباشر ضمن حدود الاتحاد دون غيره. وتمنحنا ردود وبيانات قيادات الاتّحاد حول خطوة الحبيب الصيد سنة 2015 أبرز دليل على ذلك، إذ أكدت المنظمة بأنها سترد بكل الوسائل القانونية على ما وصفته بكونه “عملية سطو” على حقوق الشغالين التي ناضلوا من أجلها وتعميمها على “دكاكين” نقابية[9]

يبدو أن الاتحاد بتاريخه الطويل، لا يطمئن للمنظمات الأخرى الناشئة، إذ يرى في أغلبها “أحصنة طروادة” جاثمة أو حتى محتملة من الممكن للسلطة أن تلجأ لها لضرب المنظمة، ليطغى هذا الهاجس حتى على البعد الحقوقي والقانوني والديمقراطي للتعددية. بل ولعل هذا التشبث باحتكار التمثيلية وما ينجر عنها، وفر للسلطة أحيانا طوقا للضغط على حقوق الموظفين والشغالين. ولعل إضراب التعليم العالي لسنة 2018 بقيادة نقابةإجابةأبرز مثال على ذلك، بل إنه وفّرَ لها كذلك التعلات والبنية التحتية للهجوم على الاتحاد في مرحلة يبدو أنها حاسمة.

بين سعيّد والاتحاد: فصل من من معركة كبرى

مثل كل الأجسام الوسيطة، وجد الاتحاد نفسه أمام سلطة سياسية لم يعهد مثلها سابقا. إذ تنبئنا الأحداث والأقوال خاصة منذ صعود قيس سعيد لرئاسة الجمهورية عن علاقة ملتبسة بين الإثنين، ورغبة في الحد من دور المنظمة منذ الرفض الضمني لمبادرة الحوار الوطني التي طرحها الاتحاد مطلع ديسمبر 2020. ولكن مع ذلك أعلن الاتحاد دعمه لقرار رئيس الجمهورية المتعلق بتجميد البرلمان يوم 25 جويلية 2021 والمشروط بتوفير الضمانات الدستورية اللازمة لمواكبة التراتيب الإستثنائية، ليقترح في الفترة اللاحقة خارطة طريق للمرحلة الجديدة، ومرة أخرى رفضها الرئيس علنيا وبشكل تهكمي. ومع انطلاق سعيّد في التأسيس لمشروعه الجديد، بدأت معارضة الاتحاد للمسار تتخذ حدة أكثر منذ المقاطعة الضمنية للاستفتاء والرفض العلني لمبادرة الحوار الاقتصادي في شكلها المقترح وقتها. تعمّقت الأزمة بين السلطة السياسية والاتحاد أكثر واتخذت عناوين عدة لعل أبرزها كان المنشور عدد 20 بتاريخ 9 ديسمبر2021 والذي حدّ من حقّ التفاوض المباشر بين المؤسسة النقابية والوزارات المعنية. 

وأمام انسداد الوضع السياسي في البلاد أعاد الاتحاد الدعوة لمبادرة حوار وطني بالشراكة مع جملة من المنظمات الوطنية منذ ديسمبر 2022. هذه الخطوة سرعان ما جاء ردّ السلطة القائمة عليها سريعا، إذ صدر عن رئاسة الحكومة  بتاريخ 5 جانفي والذي نصّ على إمكانية  استخلاص معلوم الانخراط من الأعوان العموميين الراغبين في الانخراط في عدد من المنظمات النقابية بعنوان سنة 2023 وقد عدد المنشور المنظمات النقابية المعنية بالإجراء، ألا وهي  الكنفدرالية العامة التونسية للشغل واتحاد عمال تونس والمنظمة التونسية للشغل واتحاد نقابات النقل والنقابة الوطنية لأعوان وإطارات العدلية والاتحاد التونسي للمربين،  بينما غاب إسم أكبر منظمة نقابية من القائمة، أي الاتحاد العام التونسي للشغل.  أثار المنشور الذي وقع تداوله بشكل كبير على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصّات الإعلامية، التساؤل حول احتمال إقدام السلطة على تعليق آلية الاقتطاع المباشر بالنسبة للاتحاد ومنحها للمنظمات الأخرى في سابقة لم تحدث من قبل، الأمر الذي نفتْه المنظمة فيما بعد لتؤكد أنها تلقت بدورها منشورا آخر سابقا لذلك، يؤكد تواصل تمتعها بالآلية[10]. من الجليّ أن منشور رئاسة الحكومة لم يكن بريئا ومبنيا على بواعث ديمقراطية وحقوقية راسخة بقدر ما جاء للضغط على الاتحاد في علاقة بالمبادرة الوطنية التي يدعو إليها. ولعلّ استقبال رئيسة الحكومة للسيد إسماعيل السحباني يوم 11 جانفي 2023 يؤكد هذا التوجه. كما أن ضعف ردود فعل الاتحاد إعلاميا تجاه خطوة تعميم الاقتطاع المباشر، دليل آخر على التباين في موازين القوى اليوم واشتداد التوتر وامتداده لمسائل أخرى يبدو أن الاقتطاع معها لن يكون سوى فصل من معركة كبرى[11].

طوال العشرية الموالية للثورة، بقيتْ آلية “الاقتطاع المباشر” موضوعا سياسيا بامتياز، تعود له السلطة للضغط على التمثيلية النقابية وشيطنتها وتتشبث به الأخيرة لتثبيت هيمنتها النقابية، أما بعده الديمقراطي والتعددي فلم يطرح جديا بالشكل الكافي. واليوم وتحت نظام جديد قوامه الحكم الفردي تحت مسميات البناء القاعدي ونبذ كل الأجسام الوسيطة، تعود هذه الآلية للضوء مرة أخرى ولكن ك “معول” محتمل لتفتيت العمل النقابي وتشتيته بعيدا عن عناوين التشاركية والتعددية.


[1] تصريح سامي الطاهري، الناطق الرسمي للاتحاد العام التونسي للشغل،  جريدة الشروق 18 نوفمبر 2015

[2] تصريح كمال بن عمارة رئيس بلدية بنزرت لإذاعة جوهرة أف أم بتاريخ 8 فيفري 2021

[3] تم نقل نفس الأحكام في دستور 2022 ضمن الفصلين 40 و41.

[4] ثمن الإستقلالية:إسكات النقابات العمّالية والطلّابية في تونس، تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش، 21 أكتوبر 2010

[5] من أهم هذه المنظمات نذكر: الجامعة العامة التونسية للشغل واتحاد عمال تونس والمنظمة التونسية للشغل ورابطة عمال تونس

[6] للمزيد عن أزمتي 1978 و1985: محمد الكيلاني، التاريخ المنسي: مذكرات مناضل وطني، كلمات عابرة، تونس 2020

[7] سهام الدريسي، الاتحاد العام التونسي للشغل … المكون المدني المشارك في إدارة الحكم،  مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات، 2022.

[8] فتحي الجراي، الاتحاد العام التونسي للشغل ودوره في الانتقال الديمقراطي وتشكيل الواقع السياسي، مجلة لباب، العدد16، نوفمبر 2020، ص18.

[9] تصريح سامي الطاهري، سابق الذكر

[10] تصريح غسان القصيبي المكلف بالإعلام في إتحاد الشغل لإذاعة IFM بتاريخ 24 جانفي 2023.

[11] نظم الاتحاد العام التونسي للشغل بتاريخ 4 مارس أول مسيرة احتجاجية من نوعها يقودها الاتحاد منذ مدة، وذات مضامين سياسية واضحة ضد المسار السياسي والحقوقي للسلطة السياسية في تونس اليوم.

انشر المقال

متوفر من خلال:

عمل ونقابات ، محاكم إدارية ، مؤسسات عامة ، نقابات ، مقالات ، تونس ، حقوق العمال والنقابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني