الاقتراع على الأفراد: نظام اقتراع قلّما تحبّذه الديمقراطيات

الاقتراع على الأفراد: نظام اقتراع قلّما تحبّذه الديمقراطيات

أصدرت المفكرة القانونية في شهر جويلية المنقضي ورقة بحثيّة حول مشروع البناء القاعدي بعنوان “الرئيس يريد: تناقضات نظام البناء القاعدي ومخاطره”، في شكل كتيّب متوفّر بنسخة مطبوعة ونسخة إلكترونية. وقد رأينا من المفيد أن ننشر على موقعنا الأقسام الرئيسية التي تتألّف منها هذه الدراسة تباعا تسهيلا للبحث على شبكة الإنترنت.

ننشر هنا الجزء الأوّل من الباب الثاني من الدراسة، المتعلّق بنظام الاقتراع، والذي ناقشنا من خلاله مركزيّة الاقتراع على الأفراد في مشروع البناء القاعدي، ووضعه في سياقه، سواء الوطني، عبر العودة إلى النقاش حوله في الأشهر الأولى بعد الثورة، أو الدولي-التاريخي، عبر دحض الحجة التي تعتبره نظاما دارجا بين الديمقراطيات وعامل استقرار سياسي. في الجزء الثاني الذي سيليه، نناقش أكثر سلبيات ومخاطر نظام الاقتراع على الأفراد في تونس.

 يجدر لفت انتباه القارئ إلى أنّ كتابة الدراسة انتهت في الفترة الفاصلة بين نشر مشروع الدستور، في 30 جوان 2022، ونشر نسخة معدّلة عنه في 8 جويلية. وعلى الرغم من تراجع سعيّد في النسخة الثانية على حذف شرط الانتخاب المباشر لمجلس نواب الشعب، فإنّ ذلك لم يمنعه من تنزيل أفكار مشروع البناء القاعدي تدريجيّا. وقد حصل ذلك ليس فقط عبر إنشاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم (الذي سينتخب بشكل غير مباشر) واعتماد سحب الوكالة من النواب، ولكن أيضا عبر اعتماد نظام الاقتراع على الأفراد في دوائر صغرى وإلغاء دور الأحزاب السياسيّة في انتخابات مجلس نواب الشعب واشتراط التزكيات. وكلها أمور تم تكريسها في القانون الانتخابي كما في كيفية تطبيقه من قبل هيئة الانتخابات، على الرغم من بعض التنازلات كما في تقسيم الدوائر أو تعديل بعض تفاصيل شرط التزكيات (المحرّر).

إذا كان نظام الاقتراع عاملا مؤثرا في دراسة الأنظمة السياسيّة، فإنّ مكانة الاقتراع على الأفراد ضمن مشروع البناء القاعدي تتجاوز ذلك. فهو ضلع أساسي للفكرة، بل ونواتها الأصليّة. فقد وُلدت فكرة البناء القاعدي في خضمّ النقاش حول نظام الاقتراع المناسب للانتخابات التأسيسيّة، الذي تمحور في ربيع 2011، داخل الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، حول خياريْ النسبية والاقتراع على الأفراد[1]. حسمت الهيئة خيارها بالتصويت يوم 11 أفريل بأغلبية واسعة لصالح نظام الاقتراع النسبي مع أكبر البقايا[2]. خرج قيس سعيّد على منبر جريدة الصباح ليعلنه “يوما أسود في تاريخ القانون الدستوري التونسي”[3]. رأى مُدرّس القانون الدستوري في خيار النسبيّة تواصلاً مع نظام الاقتراع الأغلبي على القائمات، الذي كان يضمن قبل الثورة سيطرة الحزب الواحد على البرلمان. لكنّه، ودون أن يتفطّن إلى التناقض بين الفكرتين كتب في المقالة ذاتها أنّ النسبيّة ستؤدي إلى نوع من الاقتراع على الأفراد، بما أنّ رئيس القائمة يحتكر تقريبا حظوظ الفوز. اتّهم سعيّد أعضاء الهيئة العليا بتنصيب أنفسهم أوصياء على الشعب، ومواصلة “طبائع الاستبداد”، داعيا إلى استفتاء الشعب مباشرة في القانون الانتخابي، الذي اعتبره “أهمّ نصّ على الإطلاق في هذه المرحلة”[4]. هذا الموقف من الهيئة العليا وخيار الاقتراع النسبي شاطره إيّاه حينها العميد الصادق بلعيد، الذي دعا في العدد ذاته من الجريدة، الحكومة إلى التدخّل “لإيقاف الخزعبلات والمؤامرات الحزبيّة”، التي ستؤدي إلى “إنتاج مجلس تأسيسي غير متناسق” و”دستور هزيل”[5]. لم يمنع ذلك الصادق بلعيد من الترشح إلى الانتخابات التأسيسيّة على رأس قائمة مستقلة سمّاها “الكفاءة”، ليفشل في الحصول على مقعد في دائرة بن عروس، ويترسّخ لديه الاستنتاج بأن الاقتراع النسبي نافر للكفاءة.

لم يتوقّف النقاش حول نظام الاقتراع على المرحلة الأولى من الانتقال الديمقراطي. فقد صمدت النسبية مع أفضل البقايا ومن دون عتبة، التي كان اختيارها يقتصر في الأصل على الانتخابات التأسيسية بهدف تفادي استفراد طرف سياسيّ واحد بالخيارات الدستوريّة، أمام محاولات تغييرها[6]. أجريت الانتخابات التشريعية 2014 و2019 وفق نظام الاقتراع ذاته، مما ولّد شبه إجماع على اعتباره سببا في تشرذم المشهد البرلماني وعدم استقراره وأنّه أحد أبرز ملامح أزمة الحكم. وُضعت مقترحات عديدة لتعديل نظام الاقتراع، أبرزها إدخال عتبة انتخابية أو المرور إلى طريقة أكبر المتوسطات. مقترحات هدفت، بالإضافة إلى حسابات الربح والخسارة الانتخابيّة، إلى ترشيد التنوع السياسي داخل البرلمان وتسهيل الوصول إلى الأغلبية من دون المساس بفلسفة التمثيل النسبي القائمة على عدالة التمثيل. فمن بين ميّزات الأنظمة النسبية، بالمقارنة مع الاقتراع على الأفراد، انفتاحها على آليات تعديلية عديدة تسمح بالموازنة بين مختلف الأهداف والتقليص من الآثار السلبية عند التطبيق.

عادت فكرة الاقتراع على الأفراد في دورتين إلى البروز قبيل انتخابات 2019 عبر فاعليْن مختلفيّن. الأول ائتلاف “صمود”، الذي قدّم سنة 2018 مقترحا حمله الثلاثي الصادق بلعيد وأمين محفوظ وحسين الديماسي، وتبناه الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي[7] قبل أن يعدل عن رأيه. كان الهدف المعلن ضمان وجود أغلبيّة قادرة على الحكم، مع تحجيم حركة النهضة على افتراض أنّ المرور بدور ثان يفضي إلى إقصاء القوى المتطرفة، أسوة بالنموذج الفرنسي[8]. أمّا الفاعل الثاني، فكان المرشح قيس سعيّد، الذي دافع خلال الحملة الانتخابيّة للرئاسية عن مشروع البناء القاعدي، الذي يقوم على الاقتراع على الأفراد باسم استرجاع الشعب السلطة التي سرقتها منه الأحزاب، انسجاما مع الثورة ومع حركة التاريخ. في الحالتين، لم تنبع الفكرة من تقييم للتجربة وتشخيص مواطن ضعفها، بقدر ما كانت استئنافا لصراع الأشهر الأولى من الانتقال الديمقراطي بين أساتذة القانون العامّ في الجامعة التونسية. صراع امتزجت فيه الاعتبارات الموضوعية بالطموحات الذاتية، وكان محوره غير المعلن حسب قراءة الأستاذ المولدي القسومي[9]، رئاسة الهيئة العليا التي تولاها العميد عياض بن عاشور، وكانت بمثابة القيادة التشريعية للمرحلة الأولى من الانتقال الديمقراطي.

يبقى أنه، بين من يرنو إلى مشهد حزبي واضح وقويّ ومستقرّ، ومن يبشّر بديمقراطية من دون أحزاب، تبدو النتيجة المنتظرة من الاقتراع على الأفراد متناقضة. ولعلّ السبب الأهمّ في هذا التناقض، هو عدم اقتران التفكير في نظام الاقتراع بدراسة للمنظومة الحزبية والسوسيولوجيا الانتخابية في تونس. إذ أن آثار نظام اقتراع معيّن قد تختلف من واقع حزبي وانتخابي إلى آخر، بل وقد تتغير داخل نفس الدولة بتغيّر موازين القوى من انتخابات إلى أخرى. للأمانة، لا يقتصر الأمر على مساندي الاقتراع على الأفراد، وإنما هو نتيجة للفقر الكبير في هذا النوع من الدراسات في تونس، مما جعل النقاش حول نظام الاقتراع يكاد يقتصر على رجال ونساء القانون. فحتى التشخيص الذي يحمّل النسبية مع أكبر البقايا كامل مسؤولية التشرذم البرلماني، كثيرا ما يهمل العامل الأهمّ في هذا التشرذم، وهو ضعف الأحزاب السياسيّة، سواء في انتشارها الترابي ونتائجها الانتخابيّة، كما في برلمان 2019،[10] أو في تماسكها واستقرارها، كما في برلمان 2014.[11] لسنا نقصد بذلك الدفاع على نظام الاقتراع الحالي، وإنّما التأكيد على أهمّية تشخيص حالة المنظومة الحزبيّة الموجودة وكذلك السوسيولوجيا الانتخابيّة المحليّة في أيّ نقاش حول نظام الاقتراع. ولعلّ ما سنسوقه في الفقرات التالية من مطاعن ضدّ الاقتراع على الأفراد، نابع بالأساس من محاولة التفكير في هذا الواقع الحزبي والانتخابي والسوسيولوجي، بالاستناد إلى التجارب الانتخابية السابقة وإلى دراسات وتجارب مقارنة. ففي ظلّ ضعف المنظومة الحزبية والتقاليد الانتخابيّة، من شأن الاقتراع على الأفراد في دوائر ضيّقة أن يفرز عددا هامّا من النواب المنتصبين لحسابهم الخاصّ، ويخدم البارونات المحليّة على حساب أصحاب الالتزام الحزبي، ويجعل عمليّة الاقتراع محكومة بالروابط الزبائنيّة والعائليّة والعروشيّة. فالدوائر الصغرى، على عكس ما يبشّر به منظّرو المشروع، لن تحدّ من الفساد الانتخابي.

يبقى أن تصوّر نظام الاقتراع ضمن مشروع البناء القاعدي يتمايز بوضوح عن مقترح ائتلاف صمود وعن التجربة الفرنسيّة في عدّة مستويات، تطرح هي الأخرى إشكالات عديدة. فأمام معضلة تقسيم الدوائر، التي كانت من أسباب استبعاد نظام الاقتراع على الأفراد في 2011، يعتمد البناء القاعدي على التقسيم الإداري الموجود، وبالتحديد العمادات والمعتمديات، كقاعدة للتمثيل الانتخابي بغضّ النظر عن وزنها الديمغرافي، وهو ما يتعارض جوهريا مع المساواة بين المواطنين. من جهة أخرى، تثير فكرة التصعيد من المجالس المحلية إلى المجالس الجهويّة والمجلس الوطني، عبر القرعة، إشكالات عديدة، وتفضح في الآن ذاته الضعف النظري للمشروع الذي استورد “مقاربات جديدة” دون استبطان معانيها.

نظام اقتراع قلّما تحبّذه الديمقراطيات

في الوقت الذي يشدّد فيه مفسّرو البناء القاعدي على الطابع التجديدي والثوري لمشروعهم، الذي يستجيب في الآن ذاته إلى روح العصر (zeitgeist) التي انتهى معها دور الأحزاب، وروح الثورة التونسية التي انطلقت من معتمديات الداخل، فإنّهم لا يتردّدون في الاستناد إلى تجارب ديمقراطية عريقة كالولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في معرض دفاعهم عن نظام الاقتراع على الأفراد. فإذا كان شعار المشروع تجديديا، فإنّ نواته الأولى، أي الاقتراع على الأفراد، مستوحاة من ديمقراطيات ليبرالية تقليديّة، بل هي أقدمُ أنظمة الاقتراع تاريخيّا. أهمّية حجّة التجارب المقارنة لا تقتصر على هذه المفارقة في مشروع البناء القاعدي، وإنما تفسّر أيضا تأثّر جزء من النّخب، التي تقتصر ثقافتها السياسيّة على التجربة الفرنسيّة وبدرجة أقلّ التجربتين الأمريكية والبريطانية، بفكرة الاقتراع على الأفراد، حتى كادت النسبيّة تبدو على لسان البعض شذوذا تونسيا عن المبادئ الديمقراطية.

تاريخيّا، ظهر الاقتراع على الأفراد قبل الديمقراطية الحديثة، أي قبل تعميم حقّ الاقتراع الذي ظلّ لفترة طويلة حكرا على أصحاب قدر معيّن من الثروة. ساهم إقرار الاقتراع العامّ (الذكوري) في معظم الدول الأوروبية في القرن 19 في بروز أحزاب تمثّل مصالح الطبقات الاجتماعية السفلى، مما أدّى شيئا فشيئا إلى تشكّل منظومة حزبيّة في كلّ دولة[12]. بذلك، كان الاقتراع على الأفراد، بصيغه المختلفة، سابقا تاريخيا لتشكّل الأحزاب في مفهومها الحديث، التي تتوفّر على حدّ أدنى من الديمومة وتكون منتشرة على كامل التراب الوطني[13]. أمّا النسبية، فقد بدأت بعض الدول الأوروبية مثل بلجيكا وفنلندا والسويد في اعتمادها في فجر القرن 20، قبل أن تنتشر بعد الحرب العالمية الأولى، وبالأخصّ بعد الحرب العالمية الثانية، لتتبناها جلّ الدول الملتحقة حديثا بركب الديمقراطيّة. برز التمثيل النسبي كأفضل طريقة لترجمة أصوات الناخبين في توزيع المقاعد، “ليكون البرلمان مرآة الأمّة”[14]، ولكي يكون التصويت على القناعات السياسيّة والبرامج، لا على الروابط العائلية والمال والوجاهة.

خلافا لما قد يوحي به مثال الديمقراطيات الثلاث العريقة، غالبية الديمقراطيات اليوم تعتمد التمثيل النسبي أو المختلط[15]. فمن بين 21 ديمقراطية كاملة وفق مؤشر “ذي أكونوميست”، 4 فقط تعتمد الاقتراع على الأفراد. نجد النسبة ذاتها تقريبا (⅕) إذا ما وسّعنا البحث إلى “الديمقراطيات المعيبة”. تقريبا كلّ هذه الدول تعتمد الاقتراع على الأفراد في دورة واحدة أسوة بالنموذج البريطاني، وهو ما يمكن أن يفسّر بأنها كانت مستعمرات للمملكة العظمى وتنتمي إلى الكومنولث. أمّا الاقتراع على الأفراد في دورتين، فيكاد يكون استثناء فرنسيا[16]، لأن معظم الدول التي اعتمدته في القرن 19 تخلّت عنه لصالح الأنظمة النسبيّة أو المختلطة[17]. ولم يتوقّف هذا التوجه نحو اعتماد الأنظمة النسبية أو المختلطة، وصولا إلى الشيلي، التي استبدلت منذ سنوات قليلة نظام الاقتراع على الأزواج (وهو الأقرب إلى الاقتراع على الأفراد)، بالنسبية مع أكبر المتوسطات، في حين لا نكاد نجد ديمقراطية انتقلت من النسبيّة إلى الاقتراع على الأفراد.

إنّ صمود ديمقراطيات عريقة كبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أمام موجة النسبيّة يفسّر بتقاليد سياسيّة وانتخابية راسخة ومقبولة من مختلف الفرقاء، وبمنظومتيهما الحزبيتين، القائمتين على ثنائيّة حزبية مستقرّة[18]. فالاقتراع على الأفراد في دورة واحدة، الذي يؤدي إلى فوز المرشح الذي يأتي أولا في دائرته الانتخابية، بغضّ النظر عن نسبة الأصوات التي نالها، يؤدي إلى إقصاء الأحزاب التي تمتلك تمثيلا وطنيّا وازنا، لكن من دون قدرة على الفوز بدوائر ترابية[19]. لكن، كلّما كانت المنظومة الحزبية قائمة على الثنائية، ضعفت أهمية هذا الإشكال، وفقدت النسبية فائدتها. لذلك لا يطرح المثال الأمريكي إشكالا يذكر، على عكس النظام البريطاني الذي ينتج أحيانا خللا في التمثيل، لأن الثنائية الحزبية في المملكة المتحدة ليست مطلقة. يبقى أنّ نظام الاقتراع يساهم هو الآخر في الحفاظ على الثنائيّة الحزبية، فالعلاقة بين المنظومتين الحزبية والانتخابية هي كما يقول موريس دوفرجي، الذي كان أوّل وأبرز المنظرين في هذا المجال، علاقة ارتباط متبادل (dépendance réciproque)[20]. فنظام الاقتراع ينتج ليس فقط تأثيرا “ميكانيكيا” عند توزيع المقاعد، وإنما أيضا تأثيرا سيكولوجيا على الناخبين، عبر التصويت المفيد أو الاستراتيجي، مما يدفع في حالة الاقتراع على الأفراد في دورة واحدة، إلى الحفاظ على الثنائية الحزبيّة. وإذا كان كلاهما يؤثر بلا شكّ في الآخر، فإنّ اعتبار أحدهما نتيجة للآخر هو أشبه بالإجابة عن سؤال البيضة أو الدجاجة[21].

لا شكّ في أنّ التمثيل النسبي لا يساعد على إنتاج ثنائية حزبيّة. لكنّ هذه الأخيرة ليست شرطا ديمقراطيّا، إذ تقوم معظم الديمقراطيات على نظام متعدّد الأحزاب (multipartisme). كما أنّ الاقتراع على الأفراد في دورتين، المعمول به في فرنسا، لا يدفع هو الآخر في اتجاه ثنائية حزبيّة كما لو كان في دورة واحدة، وإنما يفرز نظاما متعدّد الأحزاب، دائما حسب دوفرجي[22]. لكنّ الفرق الأساسي بين النسبية والاقتراع على الأفراد في دورتين، هو في هاجس تحجيم الأحزاب “المتطرفة” لصالح الأحزاب المعتدلة، الذي يمثّل السبب الأساسي وراء التخلي عن النسبية في فرنسا على الرغم من تجربتها أكثر من مرّة. يبقى أنّ الاستقطاب الثنائي الذي شكّل الحياة السياسية الفرنسية طيلة عقود، بين أحزاب اليمين وأحزاب اليسار، انهار في السنوات الأخيرة، لصالح مشهد رباعي ثمّ ثلاثي. أدّى ذلك إلى إشكال تمثيلي، مع تعمّق الفرق بين توزع أصوات الناخبين في الدور الأول من التشريعيّة (وفي بقية الاستحقاقات الانتخابيّة)، وبين التركيبة البرلمانية التي تنتج عنها، مما زاد في استفحال أزمة نظام الاقتراع على الأفراد في دورتين. حتّى أنّ المرشحين الذين حلّوا في المراتب الثلاث الأولى في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، جميعهم يساندون المرور إلى النظام النسبي. أي أنّ الاستثناء الديمقراطي الذي تمثّله فرنسا، بوصفها الديمقراطية الوحيدة التي تعتمد الاقتراع على الأفراد في دورتين لانتخاب مجلسها التشريعي، قد تكون نهايته قريبة.

لكنّ ما يجمع بين الديمقراطيات التي تعتمد الاقتراع على الأفراد، هو وجود منظومة حزبيّة قوية، سواء كانت قائمة على حزبين فقط أو أكثر. فالاقتراع على الأفراد في هذه الدول، بغضّ النظر عمّا يثيره من اختلال بين نتائج الأصوات وتوزيع المقاعد، يُبقي التمثيل البرلماني حكرا على الأحزاب. أمّا في تونس، فالمنظومة الحزبية ضعيفة جدّا وغير مستقرّة. بل أنّ أهمّ أمراض الديمقراطية التونسية يأتي، على عكس التشخيص المهيمن في المزاج العامّ، من ضعف الأحزاب لا من هيمنتها. انعكس ذلك ليس فقط في الانتخابات البلدية، التي حاز المستقلون فيها على المرتبة الأولى، والرئاسية التي أوصلت شخصية مستقلّة إلى قصر قرطاج، وإنما أيضا في الانتخابات التشريعيّة. فقد تغيّر المشهد البرلماني جذريا بين 2011 و2014، حين فاز حزب نداء تونس بعد سنتين من تأسيسه، مقابل خروج معظم الأحزاب التي احتلت المراتب الأولى في الانتخابات التأسيسية من المشهد، باستثناء حركة النهضة. وتكرّرت الظاهرة ذاتها بين 2014 و2019، إذ تراجع حزب نداء تونس من 86 إلى 3 مقاعد فقط، في حين ظهرت قوى جديدة لتحتلّ المراتب الأولى. حتى حركة النهضة، التي استطاعت الحفاظ على تمثيليّة برلمانية وازنة، عرفت تراجعا حادّا في عدد الأصوات، الذي مرّ من مليون ونصف سنة 2011 إلى 561 ألف صوتا فقط سنة 2019. كما شهدت التجارب الانتخابية السابقة ترشّح عدد كبير من القائمات المستقلّة، التي استطاع بعضها الفوز بمقاعد، وقد بلغت الظاهرة أقصاها في انتخابات 2019 بوصول 11 مرشحا مستقلا إلى البرلمان[23].

لا تتجلّى هشاشة المنظومة الحزبية فقط في نتائجها الانتخابيّة، وإنما تظهر قبل كلّ شيء في ضعف ميداني، حيث لا قدرة للأحزاب على حشد الشارع ولا على استقطاب منخرطين ولا على التأثير في الرأي العامّ ولا على صياغة رؤى وبرامج. كما تتجلّى في ضعف الآليات الديمقراطيّة داخل الأحزاب، التي بقيت في معظمها مرتبطة بالزعيم المؤسّس[24]. لا شكّ أنّ عوامل عالمية ساهمت في أزمة النماذج التقليدية للأحزاب السياسية وبروز أشكال جديدة من التنظّم الحزبي، لكنّ ضعف المنظومة الحزبيّة لدينا هو قبل كل شيء ناتج عن تصحّر سياسي طيلة عقود، منذ دخول البلاد في نظام الحزب الواحد في بداية ستينات القرن الماضي، ثم قمع كلّ المحاولات السياسية يسارا ويمينا، حتّى تلك التي نشأت من رحم الحزب الدستوري نفسه. ربّما ساهم نظام الاقتراع الحالي في عدم استقرار المشهد الحزبي، لكنّ المشكل أعمق بكثير من ذلك. فالحلّ، كما المشكل، سياسي قبل أن يكون تشريعيّا، على الرغم من وجود مقترحات إصلاحات قد تساهم في تمتين المشهد الحزبي، منها ما يتّصل بنظام الاقتراع، أو يتجاوزها كمسألة التمويل العمومي للأحزاب السياسيّة على قاعدة نتائجها الانتخابية، المعمول به في جلّ الديمقراطيات، والذي من شأنه أن يدعم استقرارها ويقلّص من تبعيّتها لرؤوس الأموال، خاصّة إذا ما اقترن برقابة ناجعة على مالية الأحزاب[25].

إنّ الانتقال إلى اقتراع على الأفراد في دوائر ضيّقة سيسمح، في ظلّ ضعف المنظومة الحزبيّة في تونس، بوصول عدد أكبر من المستقلّين إلى البرلمان، ويُضفي طابعا محلّيا على المعركة الانتخابية. كما لن يكون دافعا قويّا في اتجاه اتحاد الأحزاب القريبة فكريا وعقلنة المشهد الحزبي، لأنّ تفتيت الانتخابات على عدد كبير من الدوائر يدفع الأحزاب إلى التحالف مع وجاهات محلّية، بدل إجراء تحالفات وطنية قد لا تزيد حظوظها في الدوائر الصغرى، حتى إذا تمّت بين الدور الأوّل والثاني، في ظلّ ضعف الرابط بين الأحزاب وناخبيها. فإذا كان الهدف عقلنة المشهد الحزبي والبرلماني، فالحلّ ليس في تغيير نظام الاقتراع في اتجاه الاقتراع على الأفراد في دوائر صغرى، وإنما في تعديل النظام النسبي بإضافة عتبة وطنية مثلا، تقصي القائمات والأحزاب التي لا تمتلك حدّا أدنى من الانتشار الوطني، وتحصر التمثيل في عدد معقول من القوى السياسيّة[26]. فلئن كان من المعقول في الديمقراطيات تعديل نظام الاقتراع بحثا عن درجة أكبر من الاستقرار، فإنّ ما يقترحه مشروع البناء القاعدي، قبل أن ندخل في التفاصيل، من المرجح أن يكون أثره عكسيا، بتصعيد عدد كبير من المستقلّين المنتصبين لحسابهم الخاصّ. كما يذهب على عكس التوجه العالمي في معظم الديمقراطيات، الذي يتخلى عن الاقتراع على الأفراد لصالح النسبية أو على الأقلّ الأنظمة المختلطة. فالرأي المساند للاقتراع على الأفراد هو في نشاز واضح مع السياق الديمقراطي العالمي، ومع إشكالات الواقع الحزبي والانتخابي التونسي.


[1] اقترحت لجنة الخبراء حينها مشروعين، الاقتراع على الأفراد على دورتين، والنسبية مع أكبر المتوسطات أو مع أكبر البقايا. في النهاية استقرّ الخيار على النسبية مع أكبر البقايا، التي تضمن تنوعا أكبر وتساهم في تمثيلية الأحزاب الصغرى والمتوسطة. أنظر صبرية السخيري زروق، انتخاب ومهام المجلس الوطني التأسيسي التونسي، مركز النشر الجامعي، 2014، ص. 93.

[2] Michael Lieckefett, “La Haute instance et les élections en Tunisie : du consensus au Pacte politique ?”, in Confluences Méditerranée, N° 82, Été 2012, p. 135.

[3] جريدة الصباح، 13 أفريل 2011، ص. 9.

[4] جريدة الشروق، حوار مع قيس سعيّد، 13 أفريل 2011، ص. 5.

[5] جريدة الصباح، 13 أفريل 2011، ص. 8.

[6] أبرزها كان سنة 2019، حين صادق البرلمان على مشروع قانون يتمضن عتبة ب3% على مستوى الدائرة، بالإضافة إلى تعديلات عديدة مسّت شروط الترشّح واعتبرت حينها على مقاس قوى سياسيّة كقلب تونس وعيش تونسي والدستوري الحرّ لاقصائها، لكنّ الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي لم يختمه، وسط شكوك حول مدى تمتّع الأخير حينها بملكة القرار في ظلّ حالته الصحّية أياما قبل وفاته.

[7] حسان العيادي، مبادرة تعديل القانون الانتخابي: الباجي قائد السبسي يتبنى المبادرة، المغرب، 21 مارس 2018.

[8] مهدي العش، الاقتراع على الأفراد: حلّ ملغوم لأزمة الحكم، نشر في العدد 17 من المفكرة القانونية.

[9] المولدي القسومي، في مواجهة التاريخ. صدى الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة في مسار الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي في تونس، دار محمد علي الحامي، 2021، ص. 191 وما يليها.

[10] مجموع أصوات الحزبين الأول والثاني في انتخابات 2019 (حركة النهضة وقلب تونس) ثلث الأصوات، أي أقلّ مما تحصل عليه الحزب الأول وحده في 2011 (حركة النهضة) وأيضا في 2014 (نداء تونس)

[11] في انتخابات 2014، حاز حزبا نداء تونس والنهضة، مراكمة، على قرابة ثلثي الأصوات، أعطتهما لوحدهما أكثر من 71% من المقاعد، بالإضافة إلى كتلتين سياسيّتين وازنتين وهما الاتحاد الوطني الحرّ والجبهة الشعبيّة. لكنّ حرب الشقوق داخل حزب نداء تونس الذي تشظى تدريجيا في عدّة أحزاب هي التي أدت إلى تشتت المشهد البرلماني.

[12] Philippe Lauvaux, Les grandes démocraties contemporaines, 2ème édition, 1998, PUF, p. 63.

[13] Louis Massicotte, “Les systèmes électoraux dans les pays démocratiques”, L’Actualité économique, Revue d’analyse économique, vol. 93, nos 1-2, mars-juin 2017, p. 25.

[14] Anne Chemin, La proportionnelle ou le rêve d’un Parlement “miroir de la nation”, Le Monde, 27 mai 2022.

[15] الأنظمة المختلطة هي التي تمزج الاقتراع الأغلبي بالاقتراع النسبي، إمّا في مستويين مختلفين للاقتراع لكلّ منهما عدد مقاعد محدّد لا يرتبط بنتائج المستوى الآخر، كما في اليابان، أو لاعتماد نتائج الاقتراع النسبي كطريقة لاصلاح خلل نتائج الاقتراع على الأفراد كما في ألمانيا، حيث يكون التوزيع النهائي للمقاعد مطابقا لنتائج الاقتراع النسبي. هنالك أيضا نظام الصوت الواحد القابل للتحويل، الذي يشكل يهدف إلى تمثيل نسبي لكنه ليس قائما على القائمات، ولكنّه يصنّف عادة ضمن عائلة الأنظمة النسبيّة.

[16] بقيّة الدول التي تعتمد الاقتراع على الأفراد على دورتين في انتخابات تشريعيّة هي أنظمة اوتوقراطية، كالبحرين وكوبا والكونغو، باستثناء تشيكيا التي تعتمده فقط لانتخاب مجلس الشيوخ (الغرفة العليا من البرلمان)، وتعتمد النظام النسبي في انتخابات مجلس النواب.

[17] موريس ديفرجيه، الأحزاب السياسية، ترجمة علي مقلد وعبد المحسن سعد، الهيئة العامّة لقصور الثقافة، القاهرة، 2011، ص. 249.

[18] في الولايات المتحدة الأمريكية، الثنائية الحزبية تكاد تكون مطلقة، إذ يحتكر الحزبان الديمقراطي والجمهوري التمثيل الانتخابي وينحصر التنافس السياسي داخلهما. أمّا الثنائية الحزبية البريطانية، فهي أكثر ليونة، إذ تشارك أحزاب أخرى في الانتخابات وتنال عددا من المقاعد، لكنّ النسبة الأكبر من المقاعد يحتكرها دائما الحزبان المحافظ والعمالي.

[19] على سبيل المثال، في الانتخابات العامة البريطانية لسنة 2015، نال حزب UKIP مقعدا وحيدا من أصل 650، رغم حصوله على أكثر من 12% من الأصوات، في حين تحصّل الحزب الاستقلالي الاسكتلاندي على 56 مقعدا بأقلّ من 5% من الأصوات، نظرا لقوة انتشاره في الدوائر الاسكتلندية.

[20] موريس ديفرجيه، سبق ذكره، ص. 250.

[21] B. Dolez, A. Laurent, Modes de scrutin et système de partis, in Pouvoirs N°163, 2017/4, p. 58.

[22] موريس ديفرجيه، سبق ذكره، ص. 247.

[23] لم نحتسب قائمات العريضة الشعبية في 2011 أو ائتلاف الكرامة وعيش تونسي في 2019 التي تعتبر قوى سياسيّة، بغضّ النظر عن شكلها التنظيمي عند ترشحها للانتخابات.

[24] أنظر المولدي لحمر، الانتخابات التشريعية التونسية من 2011 إلى 2019، تحديات لمفاهيم الشعبوية والحزب والزعامة، المجلة التونسية للعلوم السياسية، عدد خاصّ بانتخابات 2019، ص. 121.

[25] لمزيد من التفاصيل، أنظر: مهدي العش، فشل المنظومة السياسية: مواطن الخلل وسبل الإصلاح، نشر في العدد 23 من مجلة المفكرة القانونية – تونس، زلزال ديمقراطية فتيّة.

[26] المصدر ذاته.

انشر المقال

متوفر من خلال:

البرلمان ، أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني