الاستشارة الوطنية في تونس: “مكياج” ديمقراطي للانقلاب على الدستور


2022-01-20    |   

الاستشارة الوطنية في تونس: “مكياج” ديمقراطي للانقلاب على الدستور

بعد أسبوعين من “العمليّة البيضاء”، انطلقت الاستشارة الوطنية، أو “الاستفتاء الإلكتروني” كما يصرّ الرئيس قيس سعيّد على تسميتها، كأولى الخطوات في خارطة الطريق التي أعلن عنها هذا الأخير يوم 13 ديسمبر. وبحسب تلك الخطّة، تنتهي الاستشارة يوم 20 مارس، لنمرّ إلى  تأليف مخرجاتها من طرف لجنة خبراء، ثمّ عرض مقترحات دستورية وربما تشريعية على الاستفتاء يوم 25 جويلية المقبل، وأخيرا تنظيم انتخابات تشريعية على أساسها في 17 ديسمبر 2022. 

وبين استنفار أجهزة الدولة لتشجيع المواطنين على المشاركة، ودعوة أحزاب المعارضة وبعض منظمات المجتمع المدني، كلّ لأسبابه، إلى المقاطعة، يبدو أنّ تفاعل معظم التونسيين كان أقرب إلى التجاهل. إذ لم يتجاوز الإقبال عشرات الآلاف. ولئنْ تمحورتْ معظم المواقف الناقدة حول منهجية الاستشارة، وعدم جدّية معظم الأسئلة، والشكوك حول مدى احترام المعطيات الشخصيّة، وإقصاء نسبة هامّة من المواطنين ممّن ليس لهم نفاذ إلى شبكة الإنترنت أو لا يملكون شريحة هاتف جوّال مسجّلة باسمهم، فإنّ كلّ هذه المؤاخذات، على أهميتها، لا يجب أن تحجب الأصل. فالهدف الأساسيّ، كي لا نقول الوحيد، من هذا “الاستفتاء الإلكتروني”، هو إلباس مشروع سعيّد الشخصي، الرامي لتغيير النظام السياسي، بثوب ديمقراطي.

“رأيكم… قرارنا”

استشارة أم استفتاء إلكتروني؟ بدا سعيّد، منذ خطاب 13 ديسمبر، متردّدا حول تسمية هذه الآلية. ورغم أنّ التسمية الرسميّة المعتمدة على المنصّة المخصّصة لها، هي “الاستشارة الوطنيّة”، ظلّت عبارة “الاستفتاء الإلكتروني” تتردّد في أدوات التواصل الحكومي وفي خطابات رئيس الجمهورية، وصولا إلى هجوم هذا الأخير على وسائل الإعلام التي تضعها بين ظفرين. وربّما يعبّر هذا التردّد الاصطلاحي عن تناقض أعمق، يتعلّق باستتباعاتها، أي بمدى إلزامية نتائجها. ففي حين تعني “الاستشارة” في العادة مجموعة آراء لا تقيّد صاحب القرار، ترتبط فكرة الاستفتاء، على العكس، بقرار مباشر من الشعب. فإذا لم تكن للاستفتاء قوّة إلزامية، أصبح في جوهره استشارة، وبالتالي أقرب إلى براديغم الديمقراطية التمثيلية، منه إلى الديمقراطية المباشرة، وهذا يفترض في الحالتين أن يكون السياق العامّ نفسه ديمقراطيا.

بغض النظر عن عدم جواز اعتبار هذه العملية “استفتاء”، لا من حيث السياق، ولا طريقة المشاركة التي تغيب فيها أدنى الشروط الديمقراطية، وتسمح لشخص واحد بالمشاركة أكثر من مرّة، ولا من حيث الأسئلة المطروحة، فإنّ السؤال عن مآل المخرجات هو الذي يفسّر تضارب التسميات. إذ لم يصدر نصّ ينظّم الاستشارة ويحدّد مآلاتها. الإجابة الوحيدة المتوفّرة، تخصّ مخرجات المحور الأول، المتعلّق بالشأن السياسي والانتخابي، والتي سوف تتولى “تأليفَها” لجنةٌ يعيّنها رئيس الجمهورية. وهي اللجنة ذاتها التي نصّ عليها الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021، الذي علّق فعليّا الدستور تمهيدا لتعديله خارج إجراءاته، عبر مقترحات يعدّها رئيس الجمهورية بالتعاون معها. أي أن الاستشارة، في هذا المجال، هي مرحلة تمهيديّة أضيفتْ إلى التمشي الذي أعلنه سعيّد في أمر 22 سبتمبر.

أمّا المحاور الخمسة المتبقيّة، أي “الشأن الاقتصادي”، “التنمية المستدامة”، “الشأن التعليمي والثقافي”، “الشأن الاجتماعي” و”جودة الحياة”، فلا يمكن أن ينتج عنها أي آثار إلزامية. بل هي أقرب إلى سبر الآراء منها إلى الاستشارة، إذ يتعلّق معظمها بالمشاكل التي يواجهها المستجوب، أو يرى أنّ فئات معيّنة كالنساء والأطفال أو المعطلين عن العمل تواجهها في المجالات المذكورة، أو بأسئلة عامّة حول عناوين الحلول. بل نكاد لا نجد أثرا للإصلاحات التي تعهّدت بها الحكومة سرّا لصندوق النقد الدولي أملا في الوصول إلى اتفاق تمويل معه، كقضيّة رفع الدعم وخصخصة بعض المنشآت العموميّة. أسئلة هذه المحاور ليست فقط مجهولة المآلات، بل غير قابلة أصلا لترجمةٍ عمليّة وإلزامية، لا في نصوص قانونية ولا في سياسات عمومية. فالهدف من إدراج هذه المحاور، لا يعدو أن يكون تحفيز الأغلبية، التي قد لا ترى في النظام السياسي والانتخابي إجابة على مشاكلها اليومية، على المشاركة في الاستشارة وإخفاء الرهان الحقيقي وراءها، وهو إضفاء صبغة ديمقراطية على مشروع البناء القاعدي الذي يحمله سعيّد. 

ربّما أصدق ما في “الاستشارة”، هو الجملة الختامية في التقديم الذي ورد على منصتها: “الاستشارة الوطنية… رأيكم… قرارنا”، طالما أن المفصود بضمير المتكلّم هو صاحب المبادرة، أي السلطة. فإذا كانت أسئلة المحاور الخمسة الأخيرة لا يمكن أن تنتج “قرارات”، فإن أسئلة المحور السياسي والانتخابي، على العكس، لها من المعياريّة ما يسمح بترجمتها في شكل قرارات. لكنّها موجّهة لتبرير قرار جاهز، وإظهار ما يتأهّب رأس السلطة لفرضه، كأنّه نابع من القاعدة. وحده هذا الرهان يمكن أن يفسّر إصرار رئيس الجمهوريّة على اعتماد لفظ “الاستفتاء”. وهو بالفعل “استفتاء”، لا بالمعنى الديمقراطي، وإنما بالمعنى الديني، الذي نطلب فيه “فتوى” تبرّر ما نعلم جيّدا عدم شرعيّته، وهي عادة محبّذة لدى السلاطين.

أسئلة على مقاس إجابة جاهزة

لا يحتاج الأمر ذكاء خارقا ولا تنجيما ولا محاكمة للنوايا، لاستنتاج أنّ أسئلة المحور السياسي والانتخابي موجّهة لتحقيق هدف واضح، وهو مشروع رئيس الجمهوريّة. فرغم حذفِ السؤال الأوّل الذي كان يحمل في طياته إدانة مطلقة لمسار الانتقال الديمقراطي، بغثّه وسمينه، تماشيا مع موقف سعيّد، وإضافة سؤال أخير حول ما إذا كانت “الدولة وحدها هي التي تتولى تنظيم الشؤون الدينيّة”، ظلّت معظم الأسئلة تقود نحو “البناء القاعدي”. إذ يقوم هذا الأخير على ثلاثة أضلع أساسيّة: نظام رئاسي، واقتراع على الأفراد في دوائر صغرى، وسحب الوكالة من النواب، وهي التي من شأنها مجتمعة أن تنتج “ملكية جمهورية” يحتكر  الرئيس فيها تمثيل الإرادة الشعبية والسلطة الفعلية.
بهذه الطريقة، يدعى المشاركون أولا إلى الاختيار بين النظام الرئاسي، والنظام البرلماني والنظام المختلط، ثم بين “الاقتراع على الأفراد” و”على القائمات”، هكذا، دون تفصيل للخيارات، وكأنّ تعديل نظام الاقتراع الحالي لا يمكن أن يمرّ سوى عبر الاقتراع على الأفراد. يتكرّر الأمر في السؤال الموالي، حول “سحب الوكالة”، من دون توضيح تفاصيلها، ومع حصرها في النواب، أي باستثناء رئيس الجمهورية. فالمطلوب هو استغلال موجة معاداة البرلمانية والأحزاب، لتوجيه الناس لاختيار نظام رئاسي واقتراع على الأفراد وسحب الوكالة من النواب، أي ببساطة، لاقتراح النظام القاعدي. طبعا انطلقت مجموعات مساندي سعيّد في التحشيد على وسائل التواصل الاجتماعي لصالح الأجوبة التي تخدم مشروعه. حتّى أنّ رضا شهاب المكي، أحد منظري المشروع، لم يتردّد في نشر أجوبته على هذه الأسئلة الثلاثة، كأنّ الأمر لم يكن واضحا بما فيه الكفاية.

كما يظهر “التوجيه” في سؤال “الإصلاحات التي يجب القيام بها لتطوير الحياة السياسية”. إذ يدعى المشاركون إلى اختيار ثلاث إجابات كحدّ أقصى من بين “تعديل القانون الانتخابي”، “تعديل قانون الأحزاب”، “تعديل الدستور”، “دستور جديد”. أمّا الخيار المتبقّي، مع “اللاّ إجابة”، فهو “لا أرى ضرورة لأيّ إصلاح”. أي أنّ إصلاح المسار السياسي لا يمكن أن يمرّ إلاّ عبر الدستور وقانون الأحزاب والقانون الانتخابي، والبديل عنها هو ببساطة عدم الإصلاح. صياغة الخيار الأخير تجعل من الصعب جدّا على من لم يكن راضيا على المسار (وهو حال معظم التونسيين) اختياره، فتدفعهم إلى الخيارات الأخرى. كما يؤدّي وضع خيارين حول الدستور، إمّا تعديله أو تغييره بأكمله، إلى تغييب السؤال الأصلي حول ما إذا كان الدستور من أسباب الحصيلة السلبية للانتقال الديمقراطي، وافتراض أنّه المشكل، فيكون الحلّ إمّا تعديله أو تغييره. فالمطلوب هو، بوضوح، فتوى “شعبيّة” تبيح المساس بالدستور خارج الشروط التي يضبطها.

يبقى السؤال حول القضاء، الذي تغيّر هو الآخر منذ العملية البيضاء، إذ لم يعُد يخصّ الإشكالات التي تعوق عمله، وإنما سؤال بنعم أو لا، حول ما إذا كان “القضاء، في تنظيمه الحالي، يحقّق العدالة المنشودة”. صياغة السؤال، التي تربط أي نقص في أداء القضاء بالمقارنة مع ما هو منشود، بتنظيمه الحالي، لا تقلّ توجيها عن بقيّة الأسئلة. فالمطلوب هنا أيضا هو “فتوى”، لكن لمعركة الأمد القصير، وهي السيطرة على القضاء، التي تمرّ عبر حلّ المجلس الأعلى للقضاء وتغيير قانونه.

عندما تُفرغ التشاركية من مضمونها

إنّ انتقاد الاستشارة لا يعني القول بأنّ الاصلاحات السياسية يجب أن تبقى حكرا على المختصين، ولا أنّ الشعب ليس أهلا لمناقشة مثل هذه المسائل. لكنّ تشريك الناس يمرّ عبر النقاش العامّ وتبادل الرؤى، لا عبر أسئلة موجّهة ترى في الشعب قطيعا يجب أن يسير وراء مشروع راعيه. فحالة الإحباط من حدود الديمقراطية التمثيليّة في السنوات الماضية، خاصّة مع تنكّر الأحزاب الحاكمة في كلّ مرّة لوعودها، لا تبرّر الانخراط في مسرحية تدّعي التشاركية من دون أن تتوفر فيها أبسط شروطها. 

إنّ أساليب الديمقراطية التشاركيّة تقوم على عدّة مراحل، بدءا بالمبادرة، مرورا بصياغة الأجندة والأسئلة، ثمّ التداول، وصولا إلى القرار. هذه الاستشارة لا تختزل فقط التشاركية في مرحلة واحدة، وهي التداول، بل تفرغ أيضا هذه الأخيرة من جوهرها، بما أنّ كل مشارك يجيب على الأسئلة منفردا مع حاسوبه أو هاتفه، دون أي نقاش عامّ أو تبادل للرؤى. هي بذلك أقرب إلى وهم “الديمقراطية الفوريّة” (démocratie immédiate)، التي تغيب فيها كلّ الوسائط، بما فيها عامل الزمن، ويتحول فيها قرار المشاركة السياسية إلى مجرّد رقن على الحاسوب، منها إلى الديمقراطية المباشرة أو التشاركيّة.

ولعلّ “الاستشارة الوطنية” أبلغ مثال على أهمّية مرحلتي المبادرة وصياغة الأسئلة، إذ يظهر معها كيف يمكن لمن يحتكرهما توجيه العمليّة أينما يريد. على العكس، تكمن ميزة الآليات التشاركية في تمكين المواطنين، إذا ما استطاعوا بلوغ نسبة معيّنة، من فرض أولوياتهم على ممثليهم، والتدخّل مباشرة في العملية التشريعية. فإذا كانت التشاركية الحقيقية تنبع بالأساس من القاعدة لتفرض نفسها على السلطة، فإن تشاركيّة سعيّد ليست سوى محاولة لإلباس مشروعه المحدّد سلفا رداء شعبيا. 

أمّا الاستفتاء المبرمج يوم 25 جويلية، فلا يمكن أن يضفي على العمليّة طابعا ديمقراطيا، لأنه سيتوّج مسارا فرديّا بامتياز، ليكون أشبه باستفتاء على الشخص (plébiscite) لا على المشروع. مشروع لن يقع التداول فيه في جمعية تأسيسية منتخبة ديمقراطيا، وخاضعة للرقابة والضغط والمشاركة المواطنية، كما حصل، لمن خانتهم الذاكرة، في سنوات المجلس الوطني التأسيسي، وإنما من طرف لجنة يعيّنها ويتحكّم في قرارها رئيس الجمهورية. بل أن الاستفتاءات الدستورية هي آلية محبذة لدى الأنظمة الشعبوية، تلجأ إليها عادة لمزيد تركيز السلطة التنفيذية وتغوّلها وتحصّنها في مواجهة السلطات المضادة. 

ربّما يكمن وجه الشبه الوحيد بين تجارب دول أمريكا اللاتينية، التي أحال عليها سعيّد في معرض دفاعه عن “الاستفتاء الإلكتروني”، ومسار 25 جويلية، في النزعة التي تعتري الحكام إلى تغيير القاعدة الدستورية وفق رغباتهم. لكنّ عمليات تعديل وتغيير الدساتير في أمريكا اللاتينية في العقود الأخيرة، رغم ما شاب بعضها من انتقادات، كانت تتمّ عادة باحترام الإجراءات الدستورية، لا بالتلاعب بها، أو بالمرور عبر سلطة تأسيسية منتخبة. حتى ألبرتو فوجيموري، الرئيس الأسبق للبيرو، والذي يصعب اعتباره مثالا ديمقراطيا، وبعد أن استغلّ في سيناريو شبيه ب25 جويلية، الحالة الاستثنائية ليحلّ البرلمان ويخضع القضاء ويحتكر السلطات، عاد ودعا إلى انتخابات جمعيّة تأسيسيّة جاءت نتيجتها لصالحه، ونتج عنها دستور 1993.

هل صحيح أنّ “الشعب أسقط دستور 2014″؟

لا يزال رئيس الجمهوريّة، رغم هجومه المتكرّر على دستور 2014، واعتباره أنّه “كلما غابت الدساتير كلما زادت الحريات”، يصرّ على أنّه بصدد تطبيق الدستور. فبعد أن استعمل الفصل 80 لكي يحتكر كلّ السلطة إلى أجل غير مسمى وفي غياب أي رقابة، أحال الأمر 117 لسنة 2021، الذي علّق فعليا الدستور، إلى مبدأ سيادة الشعب في الفصل الثالث منه، الذي يجيز حسب سعيّد تجاهل الإجراءات المنظمة لتعديل الدستور طالما لم تعدْ تلبي المبدأ. حجّة أنّ “إرادة الشعب”، كما ظهرت في 25 جويلية، تعلو على الدستور وتجيز تغييره، تقوم على مغالطة كبرى.

باستطاعة الشعوب أن تسقط دساتيرها وتغيّرها. وهذا ما حصل في تونس منذ 11 سنة، بعد ثورة شعبية، وحراك متواصل في ساحة القصبة وغيرها من الشوارع والساحات، أدّى بعد شهرين من رحيل بن علي إلى تعليق دستور 1959. وهو أيضا ما حصل في التشيلي منذ سنتين. لكن هنالك فرقا جوهريا بين ثورة شعبية تطيح بدستور، وانخراط شعبيّ لاحق في إجراءات رئاسية، مهما بلغ حجمه. ربما كانت مظاهرات 25 جويلية نهارا، التي خرج فيها آلاف المواطنين واستهدفوا بالخصوص مقرات حركة النهضة، ستتحول لو لم يعلن رئيس الجمهورية الحالة الاستثنائية إلى ثورة شعبيّة. لكن لا يمكن اعتبارها، في حالتها هذه، ثورة أسقطت الدستور. أمّا الانخراط الشعبي ليلا، تماما كما شعبية رئيس الجمهورية، مهما بلغ ارتفاعها وبغضّ النظر عن مدى مصداقيّة سبر الآراء، فلا يمكن أن تُعتبر “إرادة شعبية” أو أن تصحّح قرارات فوقيّة غير شرعيّة. في نفس السياق، لا يعني ضعف المقاومة الشعبية للانقلاب على الدستور سقوطه، أو أنّ تغييره مطلب شعبي. فإذا كانت مطالب الشعب اقتصادية واجتماعية، فإن التركيز على الدستور كان ولا يزال هاجس بعض النخب السياسية، إمّا لعجزها عن مقارعة التحديات الاقتصادية والاجتماعية، أو لاختزالها المرحلة الماضية، بكل ما نتج عنها، في أنّها “على مقاس النهضة”. 

كذلك، لا يعني تقاعس النخب الحاكمة في الفترة الماضية عن تطبيق الدستور وإرساء مؤسساته، ولا خرقه المتكرّر سواء من طرفهم أو من طرف سعيّد نفسه، سقوط النصّ. فخرق القاعدة القانونية، مهما بلغ حجمه، لا يعني انتهاء صلاحيتها. تماما كما لا تعطي الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 شرعية لذلك، بغضّ النظر عن أنّ التصويت له في الدور الثاني لم يكن على مشروع وإنما لما رمز إليه من نظافة يد، بخاصة بالمقارنة مع منافسه. فلئن كان معلوما أنّ مشروع سعيّد هو البناء الديمقراطي القاعدي، فهو بمجرّد ترشحه لرئاسة الجمهورية وأدائه اليمين، ملزم بإخضاع مشروعه للضوابط والآليات الدستورية. 

تطبيق تجريبي لبعض ملامح “البناء القاعدي”؟

لا شكّ إذن أنّ الهدف الأساسي من الاستشارة هو إضفاء مشروعية ديمقراطية على انقلاب سعيّد على الدستور من أجل فرض بنائه القاعدي. لكنها في نفس الوقت تطبيق تجريبي لبعض ملامح المشروع. 

ربما أخطر ما في مشروع البناء القاعدي، هو إختزاله السياسة في “شأن محلّي”. فعوض أن تتنافس مشاريع اقتصادية واجتماعية وطنية، تعبّر عن مصالح فئات اجتماعية، أمام صندوق الاقتراع، تنبع الحلول الاقتصادية والاجتماعية من القاعدة، لتناقش في مجالس محلية، ويقع “تأليفها” جهويا ووطنيا. أي أنّ المشاكل الاقتصادية هي محليّة، وحلولها محلية، ولا حاجة لصياغة استراتيجيات وطنية طالما أعدنا السيادة للشعب في القاعدة، وهو الكفيل بإنتاج الحلول بصفة تلقائية.

من هنا أيضا، جاءت الاستشارة لتترجم هذه الفكرة. إذ يبدأ المحور الاقتصادي بسؤال موجّه، قوامه إذا كان “حلّ المشكل الاقتصادي والاجتماعي يمكن أن يكون في المستوى المحلي”. أما بقية الأسئلة، في مختلف المحاور، فجلّها يحمل هذا الطابع المحلي. فحلول البطالة، والعراقيل أمام بعث المشاريع، والمشاكل التي يواجهها الأطفال والمراهقون، والنساء، وكبار السن، جميعها مرتبطة بالجهة. حتى مشاكل الطاقة والمياه والبيئة والصحّة والنقل والتربية والثقافة، هي مشاكل جهوية، محلية. ليس مفاجئا إذن أن يقترن تبنّي رئيس الجمهورية لمصطلح البناء القاعدي لأول مرّة منذ انتخابه، بدفاعه عن “الاستفتاء الالكتروني”، وبوصف البناء القاعدي بأنّه مرادف “للتنمية في كل الجهات”. الهدف واضح، والوسيلة واضحة، والحيلة واضحة، إلاّ لمن يرفض فتح عينيه.

لا يقتصر الأمر على الأسئلة. فالتمشّي القائم على لجنة يكون دورها “تأليف” مقترحات تنبع من القاعدة عبر استشارة الكترونية، يذكّر هو الآخر بفلسفة البناء القاعدي. لكنه في الوقت ذاته يفضح حدوده ومخاطره. فالاستشارة الوطنية، كما البناء القاعدي، تدّعي تحقيق ديمقراطية حقيقية في حين أنّها، على نقيض ذلك، إفراغ للديمقراطية من عمقها السياسي، وتدّعي إعادة السيادة للشعب في حين أنها تُمركزها أكثر من أي وقت مضى بين يديّ شخص واحد. 

 لقراءة هذه المقالة باللغة الانجليزية


1 Carlo Invernizzi Accetti & Giulia Oskian, “What is a consultative referendum ? The democratic legitimacy of popular consultations”, Perspectives on Politics, 1-16, 2020. doi:10.1017/S1537592720002340
2 Pierre Rosanvallon, Le siècle du populisme. Histoire, théorie, critique, Editions du Seuil, 2020, p. 54.
3 Monica Barczak, “Representation by consultation? The rise of direct democracy in Latin America”, Latin American Politics and Society, Volume 43, Issue 3, Fall 2001, p. 45.
انشر المقال

متوفر من خلال:

سياسات عامة ، البرلمان ، أحزاب سياسية ، مقالات ، تونس ، دستور وانتخابات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني