الإهمال يقتل رولا بحلق في حيّ السلّم


2021-12-18    |   

الإهمال يقتل رولا بحلق في حيّ السلّم

عندما طوت الطفلة رولا بحلق (13 عاماً) كتاب الجغرافيا، إذ كانت تدرس لامتحاناتها صباح اليوم التالي، لم تكن تعرف أنّها تطوي آخر صفحة من حياتها. عند الساعة الحادية عشرة والنصف من ليل الثلاثاء 14 كانون الأوّل 2021، أطفأت رولا هاتف والدتها، الذي تستعين به للدراسة عبر الإنترنت، وخلدت إلى فراشها. ما كادت تغمض عينَيْها حتّى خَسَفت أرض الغرفة في منزل عائلتها المؤلَّف من غرفتَيْن، في حيّ الكرامة في منطقة حيّ السلّم، لتغرق في حفرة مياه آسنة يقوم عليها منزلها. علِق أشقّاء رولا على الحافّة، فيما انزلقت هي داخل حفرة الصرف الصحّي بعدما وقعت إحدى الخزائن عليها. وبما أنّ البيت غارق في الظلام، بسبب انقطاع الكهرباء، لم يلحظ أحد أنّ الأرض مخسوفة، ظانّين أنّ الأمر يقتصر على وقوع الخزانة.

يروي أحد الجيران الذي انتشل رولا ونقلها إلى مستشفى البرج أنّهم استيقظوا على صراخ والدتها، فهبّ الجميع إلى المساعدة. وعلى ضوء الهواتف النقّالة تمكّنوا من إنقاذ أشقّاء رولا، إلى أن بدأت والدتها بالصراخ “رولا.. رولا وقعت لتحت”. بدأت العائلة، مع الجيران، بإزالة الردم والخزانة والأثاث فظهرت يد رولا عائمة على سطح الماء بعد مرور نحو عشر دقائق. “كان جسدها منتفخاً”، يقول جار العائلة، مؤكّداً أنّها نُقِلت فوراً إلى مستشفى البرج، لكنّ رئتَيْها كانتا ممتلئتَيْن بالأوساخ والمياه الآسنة، ففارقت الحياة”.

“كانت وردة البيت وزينته” بهذه العبارات يرثي علي بحلق ابنته رولا، ليؤكّد بصوت متهدّج “نحن لغينا هيدي الجورة من 15 سنة وحوّلنا المجارير عالقسطل الرئيسي، بس ما منعرف شو كان عم بيصير وكيف رجعت امتلأت”. لم يتمكّن الوالد من إكمال الحديث، هو الذي انتقل حالياً إلى قريته يونين حيث يُقام العزاء ، يظنّ أنّه لن يتمكّن من العودة إلى العيش في المنزل الذي ماتت فيه ابنته.

لكنّ لأحد الجيران وجهة نظر أخرى. يُخبر كيف يجتاح الفيضان السنوي لنهر الغدير، الذي يبعد عنهم نحو عشر دقائق سيراً على الأقدام، الحيَّ كلّ عام “نحن كمان منغرق بمياه نهر الغدير ويمكن تكون الجورة مليانة من فيضانه المتكرّر”. 

بنى تحتية مهترئة

عند مدخل الشارع المؤدّي إلى منزل آل بحلق في حيّ الكرامة، حيث لا وجود لمقوّمات العيش الكريم، يستقبلك نهر من مجاري المياه الآسنة، يرتفع منسوبه حيناً ليبلغ نحو 50 سنتمتراً،  بينما ينخفض في أماكن أخرى. تمتدّ مسارب المجاري على طول الطريق، منها ما هو مُحكَم الإقفال، فيما يفيض بعضها بالأوساخ والنفايات، وبعضها الآخر مردوم بالبحص والرمل. أمّا أسلاك الكهرباء وتمديدات المياه فتحتلّ الفضاء حاجبةً السماء.

نصل إلى منزل آل بحلق، وهو بناء أرضي قديم جدّاً استأجره والد علي بحلق في الخمسينيّات. هنا ترعرع علي وكبر وتزوّج وسكن مع أهله كونه الصبيّ الوحيد. يفتح أحد الأقارب باب المنزل المؤلَّف من غرفتَيْن لنجد الأثاث مُحطَّماً بمعظمه: شنط مدرسية، ألعاب، و”قجّة” لتجميع الأموال، كلّها مبعثرة على الأرض. وفي الغرفة، حيث قضت رولا، نجد في الحفرة العميقة بعض الكتب المدرسية والملابس، هي الحفرة نفسها التي ابتلعت طفلة شاء حظّها السيّئ أن تعيش حيث يُترَك الناس لمصيرهم، من دون أدنى مقوّمات العيش الكريم والآمن.

تقول إحدى الجارات إنّ والدة رولا طالما كانت تصرّ على الانتقال من المنزل، نظراً إلى ضيق المكان والروائح المنبعثة منه وتسبُّبِه بأمراض للعائلة، لكنّ الضائقة الاقتصادية كانت تحول دون ذلك “أجرة البيت هلأ صارت مليون ليرة ع القليلة، ومعاش ربّ العائلة كله مليون وخمسمئة ألف”، لتسأل “يعني شو بيعمل ووين بدو يستأجر؟”

يقول الحاجّ محمّد شريم، أحد ورثة المنزل المستأجَر من آل بحلق، إنّ جدّه شيّد البناء، وإنّ الصرف الصحّي كان في السابق عبارة عن حفر تحت المنازل، تعمد العائلات إلى شفط مياهها النتنة عندما تمتلئ. في الثمانينيّات أنشأ السكّان شبكة صرف صحّي على نفقتهم الخاصّة، وألغوا الجُوَر الصحّية وحوّلوا المجاري إلى الشبكة الجديدة، من دون ردم الحفر “وهنا الخطأ” برأيه. ويرجّح شريم، كما بقيّة أهل الحيّ، أن يكون انسداد شبكة الصرف الصحّي المتكرّر في الشوارع قد تسبّب في تسرب المياه إلى داخل الجورة من جديد عبر القساطل، فراكمت على مدى سنوات وارتفع منسوبها ما أدّى إلى اهتراء موادّ البناء وأرض الغرفة التي تقع فوقها، كما إلى تشقُّق الأرض وتفسُّخها. “لو كانت الجورة مردومة يمكن ما كان صار هيك بس الميّ عم تتجمّع تحتها وما عم تنسحب”، يضيف شريم، ليعتبر “أنّ المسؤوليّة لا تتحمّلها جهة معيَّنة واحدة، فالبنى التحتية للمنطقة مهترئة وبحاجة إلى الكثير من الصيانة”. 

الأهالي يتخبّطون والحيّ مسرح البلديات

بثت حادثة موت رولا القلق والرعب في نفوس القاطنين في الحيّ، بخاصّة أنّها ليست المرّة الأولى التي تقع فيها حوادث مأساوية بسبب البنى التحتية الكارثية. فقبل شهرَيْن تقريباً، وقع سطح إحدى الغرف على سرير مواطن شاء القدر ألّا يكون متواجداً في منزله. ومنذ سنة أيضاً، وقع جدار منزل آخر على عائلة نجا أفرادها بأعجوبة. وعلى الرغم من كثرة المنازل المشابهة حالتها لحالة منزل آل بحلق لم تتحرّك البلديّة، ومعها المؤسّسات الرسمية المعنية، لتكشف على أساسات المنازل. ويلفت أبو علي إلى وجود حفرة مشابهة تحت منزله أيضاً، قام والده بإلغائها من دون ردمها، ولا يعلم إن كانت ممتلئة أم لا.

وعلى الرغم من أنّ حيّ السلّم يتبع عقارياً إلى بلديّة الشويفات (بحسب رئيس بلديّة الشويفات زياد حيدر)، لا يلمس أهالي المنطقة تقديماتها، وفق ما يقولون، ولا يشعرون بوجودها. وتدلّ أحاديث السكّان إلى أنّ أكثر من بلديّة تتقاسم الخدمات، منها الشويفات وبلديّة برج البراجنة واتّحاد بلديّات الضاحية الجنوبية. لكن، وعلى الرغم من كثرة الجهات، لا تزال حال المنطقة يرثى لها، فهي تعوم على بنية تحتية مهترئة ومستنقع من الصرف الصحّي، ما ينبئ بوقوع حوادث متكرّرة مفجعة، في ظلّ الفيضان السنوي لنهر الغدير الذي “يزيد الطين بلّة”.

يشرح المختار كامل صعب أنّ تشييد الأبنية السكنية في المنطقة بدأ في الخمسينيات حيث راحت العائلات تشتري بضعة أمتار من الأراضي لتبني منازل تسكنها. وأبرز المالكين كان يُدعى أبو ريمون صعب بالتعاون مع عائلات من آل حيدر، وكانت الوحدات السكنية عبارة عن غرفتَيْن. مع تكاثر العائلات، راح السكّان يبنون طوابق إضافية على أساسات المنازل القديمة. من هنا فإنّ معظم الأبنية اليوم في حال يرثى لها “كلّو نشّ من السطح والحيطان”، وقد عمد ميسورو الحال إلى ترميم منازلهم وتدعيمها بالحديد، أمّا مَن لا قدرة له على ذلك فيعيش مُسَلِّماً قدره إلى الله.

ويأخذ المختار على بلديّة الشويفات عدم اكتراثها للمنطقة إلّا في حال وجود مخالفة “يعني كلّ هالمصائب في المنطقة والبلديّة غير معنية، بس إذا شي حدا عمّر خيمة بينطّوا كل الجهات عليه”. ويعتبر صعب أنّ المنطقة تستعين لإنجاز خدماتها بثلاث بلديّات “الشويفات” والبرج واتّحاد بلديّات الضاحية، وأنّ شؤون المنطقة تسيّرها لجنة مشتركة بين حزبَيْ حركة أمل وحزب الله، ينبثق عنها لجان أحياء مُصغَّرة.

يقول محمّد، أحد سكّان الحي، إنّ “البلديّة ما بتجي إلّا إذا حدا من حزب الله أو حركة أمل دقّ لها ، وأنا إذا دقّيت مثلاً ما حدا بيردّ عليي”. لا يعلم محمّد، كما كُثُر من الأهالي، أيّ بلديّة هي المسؤولة عن منطقتهم “ساعة منشوف عنّا بلديّة برج البراجنة وساعة بلديّة الشويفات أو اتّحاد بلديّات الضاحية، وضايعة الطاسة”. محمّد، الناقم على الوضع ككلّ، يعتبر أنّ جميع الجهات والأحزاب لا ينظرون إلى الناس كمواطنين بل كأصوات انتخابية، “لمّا طاف نهر الغدير من سنتين جابوا بلديّة الغبيري فتحت المجرى وإجوا النوّاب يتصوّروا حدّ الجرّافة، كلّه هيدا ليقولوا شوفوا شو عم نعمل”.

“نحن أساساً غير موجودين على الخريطة العقارية، بعدنا أرض زراعية” يقول عاصم برجي، أحد سكّان المنطقة ايضاً. وعلى الرغم من أنّ المنطقة تُحسب عقارياً على بلديّة الشويفات، “غالباً ما نلحظ وجود خلاف بينها وبين بلديّة المريجة، يعني بيزتّوها على بعض”. ويشير إلى أحد مجاري الصرف الصحّي الذي تتدفّق منه المياه الآسنة مغرقةً الشارع ليقول “شوفي صرلنا خمسة أيّام مندقّ لبلديّة الشويفات وما حدا بيردّ، هلّق بس ممكن يجوا بعدما قِتْلِت طفلة”.  ويلفت برجي إلى أنّ معظم الإصلاحات الضرورية واللازمة في المنطقة يقوم بها أبناء الحيّ بعدما يجمعون الأموال من بعضهم البعض. ويشير إلى مجرى صرف صحّي آخر “هيدا نحن صبّيناه باطون على حسابنا ليكي الشغل النظيف، المتعهّدين بيتركوا الشغل من نصّه ومنرجع نصلّح وراهم عن جديد”. ويتزوّد أهالي المنطقة بالمياه من خلال آبار إرتوازية، إمّا تابعة لعائلات وإمّا للأحزاب، ويدفع الأهالي اشتراكات شهرية عبارة عن 100 ألف ليرة عن كلّ منزل.

من جهته، يعتبر رئيس بلديّة الشويفات زياد حيدر، في اتّصال مع المفكرة القانونية، أنّ البلديّة تقوم بواجباتها تجاه منطقة حيّ السلم التابعة لها، إذ تنظّف مجاري الصرف الصحّي بطريقة دورية عبر ماكينات خاصّة، جُلبت خصّيصاً لتلك المنطقة “أنا ما بحتاج لهذه المعدّات لا بخلدة ولا بالشويفات لأنّ ما عنّا مشاكل”.  يقول حيدر إنّ البلديّة “تنفق مبالغ ضخمة على هذه الخدمة ما دفع النيابة العامّة المالية إلى رفع دعوى للتدقيق في كيفيّة إنفاق هذا المبلغ الكبير الذي وصل إلى حدود 800 مليون ليرة لبنانية” حسب قوله. ويشرح أنّ منطقة حيّ السلّم تعتريها مشاكل عدّة كونها شُيّدت منذ زمن بلا دراسات وبطريقة فوضوية مخالفة لمعايير البناء السليم، وبدون تمديدات لمجاري الصرف الصحّي، ما يؤدّي إلى طوفانها بين الفترة والأخرى، وأنّ أكثر من 80% من هذه الوحدات غير مرخَّصة. ويشدّد على أنّ البلديّة تعمل، بالتعاون مع الأحزاب في المنطقة، منذ أكثر من خمس سنوات على تنفيذ مشاريع مموَّلة لتحسين البنى التحتية فيها والمشكلة لم تُحَلّ بعد، “الريغارات صارلها 50 سنة ما تغيّرت”، يقول. ويُبدي حيدر تخوُّفه من وقوع حوادث مؤلمة كالتي أدّت إلى مقتل رولا بحلق، مناشداً وزارة الأشغال ومؤسّسات الدولة الأخرى المساعدة، “نحن بلديّة ميزانيّتها على قدها، وهيدي منطقة بدّها إعادة تنظيم وكتير خدمات”.

وفيما يموت الأطفال في أَسِرَّتهم، يستمرّ نهر الغدير في فيضانه المعتاد كلّ سنة، مرّة أو أكثر،  فيما تتسابق البلديّات والأحزاب لإسكات الناس وامتصاص نقمتهم، والحلّ غالباً ما يكون آنياً ومرحلياً.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضايا ، الحق في السكن ، لبنان ، مقالات ، بيئة وتنظيم مدني وسكن



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني