اكتساب صفة الدفاع عن الجبال؟


2022-05-20    |   

اكتساب صفة الدفاع عن الجبال؟

منذ فترة، يشهد مجلس شورى الدولة تحوّلاً هامّاً في توجّهاته في قضايا المقالع والكسّارات، وهو تحوّل يؤمل أن ينعكس إيجاباً على قضايا البيئة بشكل عام. يتمثّل التوجُّه الجديد في توسّعه في قبول صفة الجمعيات البيئيّة في الطعن في القرارات الإدارية المتّصلة باستثمار المقالع بما يُمهّد لإبطالها. تمثّل آخر المُستجدّات في هذا الخصوص في تقريريْن أصدرَتْهُما تباعاً القاضيتان ريّان رماني وباتريسيا فارس. التقرير الأوّل أصدرته القاضية رماني بصفتها مستشارة مقرّرة في تاريخ 25/10/2021، وذلك في إطار المراجعة التي قدّمتها جمعيّة وصيّة الأرض ضدّ القرار الصادر عن وزير الداخلية السابق محمد فهمي بمنح مهلة لمواصلة استثمار مقالع شركات الترابة. أمّا التقرير الثاني فأصدرَتْه القاضية فارس بالصفة نفسها بتاريخ 9/11/2021 وذلك في المراجعة التي قدّمها اتّحاد بلديات الكورة ضدّ قرار حكومة الحريري في 10/8/2019 بمنح مهلة ثلاثة أشهر لمواصلة استثمار المقالع كافّة. وتأتي هذه التوجّهات لتُعيد التذكير بخضوع قطاع المقالع والكسارات لقوانين دأبت الحكومات المتلاحقة والإدارات العامّة على تجاهلها والتعامل معها وكأنّها غير موجودة. 

وقبل المضي في تحليل أهمية هذا التوجّه الجديد وأبعاده، يجدر إعادة التذكير بواقع هذه القضية وتفاعلاتها أمام مجلس شورى الدولة.

في تذكير مقتضب لواقع الكسارات: “المهل الإدارية” لارتكاب جرائم بيئية

يعود التفلّت القانوني الحاصل في ملف الكسّارات إلى فترة ما بعد حرب 1975-1990 التي تبعتْها خطط إعادة الإعمار التي بلغت ذروتها في فترة 1994-2000. وعليه، انتشرتْ المقالع والكسارات على جميع الأراضي اللبنانية وسط غياب كامل لأيّ رؤية بيئية أو منظومة تشريعية تنظّم هذا القطاع. ورغم أنّ الانتشار العشوائيّ للكسّارات وعملها غير المُنظّم أدّى إلى تعاظم الكوارث البيئية والصحية الناتجة عنها، بقيت الحكومات آنذاك عاجزة عن وضع حدّ له. فإذا اتّخذت حكومة الحريري الأولى قراراً بإقفال الكسارات في حزيران 1994 ووضعتْ المرسوم رقم 5616 الأوّل لتنظيم القطاع في تاريخ 6\9\1994[1]، فإنّها خضعت بعد إبطال هذا المرسوم لحاجات السوق لتباشر ممارسة منح مهل لأصحاب الكسارات بمواصلة استثمارها، وعملياً بمواصلة تدمير الجبال من دون إيلاء البيئة أيّ اعتبار. وقد عًرّفت هذه المهل بفعل تكرارها المتواصل بعدئذ بـ “المهل الإدارية”. وإذ صدر مرسوم تنظيم المقالع والكسارات رقم 8803/2002 بوضع شروط صارمة لاستثمار كسّارات أهمّها أن تكون واقعةً في مناطق جغرافيّة بعيدة عن السّاحل وعن أماكن السّكن وأن تخضع لتراخيص مُسبقة تحدّ من ضررها البيئيّ. إلّا أنّ المرسوم بقيَ خارج حيّز التطبيق لتعارضه بشكل صارخ مع مصالح البنية الاحتكارية للإسمنت التي تقوم على استثمار مقالع في مناطق قريبة من الساحل (وبشكل خاص في منطقة الكورة). وعليه، تجاهلتْ الحكومات المتعاقبة مرسوم المقالع لتستمرّ في نهجها السابق في منح “المهل الإدارية” لتأمين استمرارية عمل المقالع والكسارات.

وفي سنة 2019، أعادتْ حكومة الحريري، ممثّلة بوزيرة الداخلية السابقة ريّا الحسن، وضع ملف الكسارات في واجهة الإصلاحات المراد تطبيقها. فاتّخذت هذه الأخيرة قرارات ومواقف بيّنت عن نية أوّلية لتكريس تطبيق مرسوم تنظيم المقالع والكسارات. وقد اعترفتْ[2] الوزيرة بالأضرار البيئية الجسيمة التي تسبّبت بها المقالع والكسارات، كما أدانتْ عدم شرعية القرارات المرتبطة التي أصدرها سلفُها نهاد المشنوق فيما يتعلّق بتنظيم القطاع، مُوضحة أنّ عدد هذه المقالع بلغ 150. وقد تبيّن أنّ وزير الداخلية المشنوق كان يفعل ذلك من خلال الإيعاز إلى قوى الأمن الداخلي بعدم اتخاذ أيّ إجراء بحق هذه الكسارات. وهذا ما عاد وأكّده وزير البيئة آنذاك فادي جريصاتي مؤكّداً تصميم الحكومة على وضع حدّ للخروج عن القانون في هذا المجال[3]. وفعلاً، وبدءاً من 1 آذار 2019، أُغلقتْ المقالع والكسّارات بعدما عمّمت وزارة الداخلية على القطع الأمنية وجوب وقفها.

إلّا أنّه وخلافاً لكلّ هذه التأكيدات والتوقّعات، عاد مجلس الوزراء تحت ضغط السوق وبخاصّة شركات الترابة ليَمنح بعد أقلّ من 20 يوماً مهلة إداريّة مدتها 90 يوماً لأصحاب الكسارات لمواصلة استثمارها. وبذلك، أعادتْ حكومة الحريري العمل بممارسة خطيرة ومخالفة لأبسط القوانين، علماً أنّها عادتْ وأعقبتْ قرارها ذاك بقرار ثانٍ بمنح مهلة إدارية ثانية لشهر واحد، وذلك في آب 2019. وإذ برّرت حكومة الحريري قراراتها تلك بحاجتها إلى وقت لإجراء دراسة ووضع مرسوم جديد وبضرورة منح السوق إمكانية الاستمرار بانتظار ذلك، فإنّها فشلتْ في إحراز توافق بين القوى المكوّنة لها على خريطة المناطق التي يجوز استثمار مقالع فيها وتالياً في إقرار المرسوم الجديد الموعود. بعد ذلك، عادت حكومة حسان دياب (2020-2021) وتحت الضغط نفسه، لتسلك الاتجاه نفسه أي منح مهل إدارية، وإن حصرتْ الإجازة بالمقالع المستثمرَة من شركات الترابة. وقد برّر وزير الداخلية السابق هذا التوجّه بذريعة الحاجة إلى إعادة الإعمار بعد تفجير مرفأ بيروت.

المواجهة القضائية مرهونة بقبول الصفة

في مواجهة هذه الفوضى المستمرّة، اعتمدتْ مجموعةٌ من الحركات الشعبية (الائتلاف الشعبي ضدّ المقالع والكسارات) والمنظّمات والجمعيات البيئيّة والحقوقيّة، ومن ضمنها المفكرة القانونية، استراتيجية قضائية قوامها الطعن المنتظم بهذه القرارات. وقد برز بشكل خاصّ في هذا المضمار انخراط اتّحاد بلديّات الكُورة في مواجهة هذه القرارات وصولاً إلى تقديم مراجعة قضائيّة ضدّ القرار الصّادر عن حكومة الحريري في آب 2019. وقد سجّل حتى الآن تقديم 5 مراجعات:

  • مراجعتان ضدّ قرار حكومة الحريري رقم 45 في تاريخ 21/3/2019 بمنح مهلة إدارية (90 يوماً) لمواصلة استثمار المقالع والكسارات. وقد قدّمتْ هاتين المراجعتيْن مجموعةٌ من الحركات البيئية في مناطق مختلفة في لبنان (الائتلاف الشعبي ضدّ المقالع والكسارات) من جهة، وكلّ من جمعية وصية الأرض والخطّ الأخضر من جهة أخرى،
  • مراجعة قدّمها اتحاد بلديات الكورة ضد قرار حكومة الحريري في تاريخ 10/08/2019 بمنح مهلة إدارية (30 يوماً) لمواصلة استثمار المقالع والكسارات،
  • مراجعتان أخريان قدّمتْهما جمعية وصيّة الأرض ضدّ القرار رقم 19 الصادر عن حكومة دياب في تاريخ 28/07/2020 والقرار الصادر في تاريخ 19/03/2021 عن وزير الداخلية والبلديات السابق محمد فهمي بمنح مهل إدارية لصالح شركات الترابة بمواصلة استثمار المقالع الممنوحة لها.   

وقد هدفت هذه المراجعات إلى مواجهة ممارسة المهل الإداريّة مع ما يستتبع ذلك من نهش للجبال ومسّ بالبيئة وإضرار بالصحة العامّة، وإن بدا واضحاً أنّ نجاح المراجعات في حال حصوله إنّما يترتّب عليه مفاعيل رمزيّة أكثر ممّا هي مفاعيل عمليّة. وهذا الأمر يعود إلى قصر المهل الممنوحة التي كان من المُنتظر أن تنتهي قبل أن يتسنّى لمجلس شورى الدولة البتّ بالمراجعات المقدّمة إليه في هذا الخصوص، وبخاصة في غياب طريق العجلة[4] في القضاء الإداري. بمعنى أنّه أياً تكن وجهة القرار، يتوقّع صدوره بعدما ضرب من ضرب وهرب من هرب. كما كان من البيّن للجهات التي قدّمت المراجعات أنّ نجاح الدعاوى يتطلّب قبل كلّ شيء الاعتراف بصفة الحركات البيئيّة والحقوقيّة في الطعن في قرارات مماثلة بهدف حماية الشرعية. وهذا ما أسمتْه “المفكرة” في محلّات عدّة معركة كسب الصّفة للطعن بالقرارات الإداريّة ضماناً لشرعيّتها. وقد نشأتْ هذه المعركة بعدما أصدر مجلس شورى الدولة عدداً من القرارات بردّ دعاوى قدّمتها جمعيات بيئية في قضايا الحفاظ على الأملاك البحرية والحدّ من التلوّث البحريّ على أساس أنّه ليس لهذه الجمعيات أيّ مصلحة مباشرة أو خاصّة لمُداعاة الدولة وأنّ قبول دعاويها إنّما يؤدي إلى تشريع الدعوى الشعبية أي تمكين كلّ فرد من الطعن في القرارات الإدارية من دون أن يكون له مصلحة مباشرة أو متميزة[5]. بنتيجة هذه القرارات وتحت حجّة تجنّب الدعاوى الشعبية، وصل مجلس شورى الدولة عملياً إلى تحصين عدد كبير من القرارات الإدارية (التي تحوم شبهات جدّية على عدم شرعيتها وربّما فسادها) وإبقائها بمنأى عن أيّ رقابة قضائية وتالياً إلى تجريد القضاء الإداري من أحد أدواره الأساسية الذي هو حماية الشرعية والموارد العامّة وضمْناً البيئة. ويلحظ أنّ هيئة القضايا (ممثلة الدولة التي يفترض أن تدافع عن الشرعية والصالح العام) قد عمدتْ بشكل منتظم إلى إثارة مسألة انتفاء الصفة في ردّها على الطعون في القرارات الإداريّة. وقد ركّزت ذلك بشكل خاصّ في ردّها على الطّعون ضدّ قرارات غير قانونية بداهة، حيث أدركتْ أنّ انتفاء الصفة هي الحجّة الوحيدة الرابحة لحماية هذه القرارات من الإبطال.  

وفي بعض هذه الحالات، أدّتْ هذه القرارات إلى تجريد الدّولة من إمكانيّة استرداد أملاك بحريّة تُقدّر قيمتها بعشرات ملايين الدولارات. والملفت أنّ أغلب هذه القرارات صدرتْ في دعاوى بيئيّة وفي وجه جمعيات بيئيّة رغم أنّ قانون البيئة يضع صراحة على عاتق كلّ مواطن واجب السهر على حماية البيئة وبالتالي الدفاع عن هذا الحقّ أمام أيّ تعدٍّ وضمْناً تعدّيات أجهزة الدولة (المادة 3 من قانون 444/2002).

وقبل المضيّ في تفصيل التوجّهات الجديدة في قضايا المقالع، تجدر الإشارة إلى بروز معركة الصفة في المداعاة في مناقشات مجلس النواب أيضاً في 2020 وذلك بعدما اكتشف بعض النوّاب صعوبة الطعن بمرسوم منح الجنسية لمئات الأشخاص. وإذ أنجزتْ لجنة الإدارة والعدل بعد ذلك اقتراح قانون يمنح الصفة لكلّ 5 نوّاب في الطعن بفئات معيّنة من القرارات الإدارية التي تتّصل بمنح الجنسية أو ترشح عن مسّ بالأملاك أو الأموال العامّة أو البيئة، رفضتْ الهيئة العامّة السير به. وقد تميّزت في هذا المضمار مداخلة نائب رئيس مجلس النوّاب إيلي الفرزلي الذي يعدّ أحد أهمّ الناطقين باسم النظام السياسيّ الحاكم تعليقاً على هذا الاقتراح في سياق إحدى الجلسات التشريعية في مجلس النوّاب في 2020. فقد نقل المرصد البرلماني للمفكرة حرفياً عنه أنّ النوّاب “يبالغون في الميل الشعبي لزيادة اختصاص القضاء مع منع أيّ تدخّل في القضاء”. وتابع: “القضاء الحالي بحاجة إلى تغيير شامل. فإما نغيّره كلّه وإمّا نبقى على ما نحن من دون زيادة صلاحياته. لكن عيب أن نسنّ القوانين وتفرّحنا لدقائق أمام جمهور ثمّ لا تطبّق”.  ثم سارع إلى إعلان رفضه لأن تتعرّض السلطة لأيّ محاسبة في ظلّ القضاء الحالي: “هل يجوز أن نُفسح المجال للقضاة الحاليين ليقدّموا تقارير عن متلبّسين، ويكون أحدٌ منّا بينهم؟”[6] تكمن أهميّة هذه المداخلة في توضيح البُعد السّياسيّ لمعركة الصّفة بالادّعاء والأهم وعي السلطة الحاكمة لهذه الأبعاد وتوجّسها من أيّ تغيير في هذا الخصوص. 

شورى الدولة يتوسّع في قبول الصفة في قضايا المقالع

على ضوء ما تقدّم، سننظر إلى ما آلتْ إليه المُراجعات المُقدّمة ضدّ القرارات الإداريّة والمذكُورة أعلاه بمنح مهلٍ إداريّة لمواصلة استثمار المقالع والكسارات، وبخاصّة بما يتّصل بقبول صفة المداعاة. وأوّل ما نستشفه هنا هو التحوّلات الحاصلة في هذا الشأن في مواقف القضاة الإداريين ولكن أيضاً هيئة القضايا. وقبل عرض النقاشات والتوجّهات التي برزت في المراجعات المذكورة، تقتضي الإشارة إلى أنّ مجلس شورى الدولة قد قبل المراجعة الأولى المشار إليها أعلاه رقم 23549/2019 في تاريخ 23/3/2021 من دون أن يتسنّى لنا حتى الآن الاطلاع على تفاصيل المراجعة وإجراءاتها.

ففي الدعوى الأولى المقدّمة من جمعيتَي وصية الأرض والخط الأخضر ضدّ قرار حكومة الحريري الصادر في تاريخ 21/3/2019، حصل توافق تامّ بين ممثلي هيئة القضايا والمستشارة المقرّرة في الدعوى ميراي داوود ومفوّض الحكومة على انتفاء الصفة. وقد برّرت المقرّرة داوود موقفها بـ “أنّ الحكومة منعتْ أصحاب المقالع من استخدام متفجّرات وفرضتْ عليها الامتثال للشروط البيئية المحدّدة في المرسوم 8803/2002”. وبذلك، تكون ارتكبت خطأين:

الأوّل حين اعتبرتْ ضمناً أنّه ليس للجمعيات البيئيّة أيّ صفة للمطالبة بحصر استثمار المقالع بالأماكن المحدّدة على الخريطة المرفقة بمرسوم 8803. وهذا خطأ طالما أنّ الخريطة المرفقة بالمرسوم يصحّ وصفها بالخريطة البيئية أي الخريطة التي وُضعت بهدف الحؤول دون المسّ بأماكن حسّاسة بيئياً أو مكتظّة بالسكان، بحيث يشكّل أيّ تجاوز لهذه الخريطة عملياً مسّاً بالبيئة.

والثاني حين أنكرت ضمناً صفة الجمعيات البيئية بالمطالبة بضمان توفّر الشروط البيئيّة اللازمة للحصول على ترخيص باستثْمار المقالع. وهذا خطأ طالما أنّ حماية البيئة لا تكون مضمونة بوضع قواعد ملزمة وحسب بل هي تفترض قبل كلّ شيء وضع نِظام مراقبة وترخيص مُسبق يحول فعليّاً دون حصول استثمارات مضرّة بالبيئة وهو النّظام الذي قفزتْ الحكومة فوقه من خلال منح مهل إدارية.

وبكلمة، إنّ مجرّد الطّعن بقرار الحكومة لمخالفته نصوصاً بيئية إنّما يشكّل سبباً كافياً لاكتساب الصفة والمصلحة خلافاً لما جاء في تقرير المقرّرة داوود.

بقي أن نشير بخصوص هذه المراجعة إلى أنّ هيئة القضايا قد اعتمدتْ فيها حججاً لا تقلّ غرابة، حيث اعتبرتْ أنّ الطابع المزمن والمعمّم للمخالفة يجرّد الجمعيات البيئية من أيّ صفة للادّعاء. وهذا ما نستشفّه بوضوح من قولها إنّ “الأضرار المدّعى بها هي أضرار عامّة تُصيب البيئة نتيجة العمل بالكسّارات على مدى عقود من الزمن”. وهي حجّة تقارب العبث طالما أنّ خطورة مواصلة استثمار المقالع من الناحية البيئية تتفاقم بقدر ما تطول مدتها أو يتوسّع انتشارها وليس العكس.

والملفت أنّ القرار الصادر في هذه المراجعة في تاريخ 4/05/2021 عن هيئة المحكمة (فادي الياس، كارل عيراني، وميراي داوود) ردّ الدعوى لانتفاء موضوعها بعد ثبوت إبطال القرار المطعون فيه، من دون التعرّض لمسألة الصفة.  

أما في الدعوى الثانية المقدّمة من اتّحاد بلديات الكورة ضدّ قرار حكومة الحريري الصادر في تاريخ 10/08/2019، فقد تطوّرت آراء الأطراف المعنيّة بحيث شهدْنا انقساماً فيما بينها بين مؤيّد ومعارض لمسألة الصفة. ورغم أنّ الاتّحاد هو هيئة عامّة، فإنّ هيئة القضايا لم تجد حرجاً في الطعن في صفته، متذرّعة بأنّ القرار يتجاوز نطاقه الجغرافي. فكأنّما يكفي حسب الهيئة أن توجد مقالع خارج نطاق اتّحاد بلديات الكورة لإسقاط صفة هذا الاتحاد حتى ولو كان عدد كبير من هذه المقالع ضمن نطاقه. وقد ردّت المستشارة المقرّرة فارس بتأكيد صفة ومصلحة الاتحاد باعتبار أنّ الأضرار البيئية التي تلحق بالاتحاد من جرّاء عمل المقالع والكسارات هي أضرار مباشرة. وقد جاء حرفياً في تقريرها المؤرخ في 9/11/2021: “وبما أن حجم الأضرار والأخطار التي تنتج عن استثمار المقالع والكسارات أفضى إلى صدور نص تنظيمي خاص بهذا القطاع يحصر إمكانية استثمار المقالع والكسارات في مواقع محدّدة دون سواها مع إخضاع التراخيص المطلوبة لأصول وإجراءات خاصّة. وبما أنّه بالنظر إلى حجم الأضرار البيئية والصحيّة الناتجة عن المقالع والكسارات واتّساع رقعتها، فإنّ الأضرار اللاحقة بقرى القضاء الذي تستثمر في نطاقه المقالع والكسارات المشمولة بقرار السماح بالعمل، تعتبر أضراراً مباشرة تتحقق معها المصلحة الشخصية والمباشرة التي تمنح الصفة لطلب إبطال القرار المطعون فيه”. وقد أتت مطالعة مفوّض الحكومة موافقة للتقرير. وما تزال هذه الدعوى عالقة أمام مجلس شورى الدولة.

وفي الدعوى الثالثة المقدّمة من جمعية وصية الأرض ضدّ قرار حكومة دياب رقم 19 تاريخ 28/07/2020، لم تثِر هيئة القضايا مسألة الصفة كما لم يصدر المستشار المقرّر تقريره فيها بعد.

وفي الدعوى الرابعة المقدّمة من جمعية وصية الأرض أيضاً ضد قرار وزير الداخلية السابق محمد فهمي، لم تقدّم هيئة القضايا خلافاً لما دأبت عليه أيّ ردّ مما قد يؤشر إلى تبدّل إيجابي في موقفها. والأهم، هو أنّ المستشارة المقرّرة ريّان رماني سلّمتْ في تقريرها الصادر في تاريخ 27/10/2021 بصفة الجمعية البيئية ومصلحتها بتقديم هذه المراجعة من دون أن تستشعر أيّ حاجة لمناقشتها. ومن شأن هذا الأمر أن يؤشر إلى انتقال عدد من القضاة من فترة إنكار صفة الجمعيات البيئية إلى فترة التسليم بها على اعتبار أنّها أمر لا يقبل أيّ جدل جدّي. وإذ اعترضتْ مفوّضة الحكومة فريال دلّول على النتيجة التي وصلت إليها المستشارة المقرّرة فإنّها لم تدلِ بأيّ موقف يتّصل بتوفّر الصفة أو انتفائها.

ليس للحكومة أن تسهّل ارتكاب الجرائم البيئية

أبعد من مسألة الصفة، كيف دافعت هيئة القضايا (ممثلة الدولة والتي يفترض أن تدافع عن الصالح العام) عن الدولة في هذه الدّعاوى؟ هنا، ومع تسجيلنا أن هيئة القضايا لم تقدّم أي جواب في المراجعة الأخيرة، فإنها قدّمت عموما حجّتين أساسيتين تولّت المُستشارتان المُقرّرتان دحضَهما. 

الأولى، وهي الحجّة التي قدمتها هيئة القضايا في دعوى اتّحاد بلديات الكورة، وقد تمثلت في القول بأنّ “الأصول والأعراف المتّبعة بالنسبة لمنح المهل الإدارية للمقالع والكسارات، هي أسوة بالمهل الممنوحة لأصحاب المحطات والمحروقات”. وهذا الأمر إنّما يعني وفق ما بيناه في مقالة سابقة[7] أنّ هيئة القضايا تستمدّ تبريرها للمهل الإدارية من كونها باتت تشكّل أعرافاً وهي في الواقع أعراف غير قانونية بداهة. وهذا ما ردّت عليه ببلاغة كليّة المستشارة المقرّرة باتريسيا فارس حيث جاء حرفياً ضمن تقريرها: “وبما أنّه لا يمكن التذرّع بالأعراف الإدارية في ظلّ وجود أنظمة صريحة تمنع منح المهل الإدارية للمقالع والكسّارات، هذا فضلاً عن أنّه هناك نصّ خاصّ يرعى نشاط هذه الأخيرة، يختلف عن النصّ الذي يرعى محطّات المحروقات، ممّا يحول دون إمكانيّة مقارنة الوضع القانوني لكلّ من هذين النوعين من المحلات المصنفة”. وذهبت المقرّرة أبعد من ذلك بحيث شدّدت على أنّ المرسوم 8803/2002 نصّ على عقوبات جزائية على مستثمري المقالع والكسارات في حال مزاولة العمل من دون ترخيص قانوني، ممّا يعني أنّ عمل الكسارات من دون ترخيص هو جريمة يعاقب عليها القانون. وهي بذلك ألمحتْ بشكل واضح وأكيد إلى أنّ الحكومة بمنحها هذه المهل لا تُرسي فقط “ممارسات غير قانونية إنّما تذهب أبعد من ذلك في اتجاه تشريع جريمة بيئية. وهذا ما قالتْه بوضوح حين اعتبرت أنّ منح الحكومة “مراراً وتكراراً مهلاً إدارية للمقالع والكسارات العاملة خلافاً لأحكام المرسوم 8803/2002” إنّما يشكّل “طريقة غير مباشرة لتأمين غطاء شرعي، ومخالف للأنظمة المرعية الإجراء، يكون بديلاً للمبدأ العام الذي هو الترخيص القانوني، ويتيح لمؤسّسات لم تستحصل على ترخيص قانوني أو لا تستوفي الشروط المفروضة قانوناً، متابعة استثمارها رغم ذلك”.

أمّا الحجّة الثانية التي غالباً ما أثارتْها وتثيرها هيئة القضايا دفاعاً عن القرارات المطعون فيها، فهي الظروف الاستثنائية التي غالباً ما ترد في متن القرارات الإدارية المطعون فيها وقوامها الحاجة الماسّة إلى استخراج المواد الأوّلية للبناء. وهنا جاء الردّ البليغ من المستشارة ريّان رماني في المراجعة المقدّمة ضدّ قرار وزير الداخلية بمنح مهل إدارية. فبعدما ذكّرت أنّه ليس لوزير الداخلية أيّ صلاحية بإصدار قرار منح مهل إدارية لاستثمار مقالع، رأتْ عدم توفّر شروط تحقّق نظريّة الظروف الاستثنائية “لاسيما لناحية وجود الإدارة في وضع يستحيل معه عليها التقيّد بمبدأ الشرعية”.

بانتظار صدور القرارات النهائية في هذه الدعاوى، نكتفي هنا بتسجيل تطوّر في عمل عدد من القضاة الإداريين في ممارسة أدوارهم في حماية البيئة بدءاً من توسيع الاعتراف بصفة المداعاة انتهاء بوضع الإدارة العامّة أمام مسؤوليّتها في تطبيق القانون. على أمل أن ينجح هؤلاء في قلب توجّه اجتهاد القضاء الإداري برمّته.      


[1] أنظر: ” التحاصص في الحصى“، جويل بطرس ورازي أيوب، مجلة المفكرة القانونية لبنان، تاريخ 24/01/2019، عدد 58.
[2]“لا صوت يعلو على صوت تفجير الجبال: احتكار الإسمنت وفساده”، نزار صاغية، مجلة المفكرة القانونية لبنان، تاريخ 12/04/2021، عدد 68.
[3] “تغطية صحفية، جريصاتي في لقاء مع المهندسين لشرح ومناقشة خطة المقالع والكسارات”، موقع نقابة المهندسين بيروت، تاريخ 16/04/2019.
[4] “قضاء العجلة في القضاء الإداري اللبناني: الغائب الأكبر”، ندي أبي راشد، المفكرة القانونية لبنان، 2020-06-26، عدد 65
[5] أنظر، ” الصفة والمصلحة في القضاء الإداري اللبناني، فرانسوا بلان، المفكرة القانونية لبنان، 27/06/2020، عدد 65
  أنظر، “وتستمرّ معركة الصّفة والمصلحة أمام مجلس شورى الدولة اللبناني: مخاوف من تجريد الدولة من آخر المدافعين عنها”، المفكرة القانونية، المفكرة القانونية لبنان، 27/06/2020، عدد 65
[6] ماهر الخشن، جلسة تشريعية لاستعادة هيبة المجلس في مواجهة الثورة.. الفرزلي: “الإسراف في تبرئة الذات إسقاط لها، ويؤكل الثور الأبيض يوم يؤكل الأسود”، المفكرة القانونية،27/4/2020.
[7]  “لا صوت يعلو على صوت تفجير الجبال: احتكار الإسمنت وفساده”، نزار صاغية، مجلة المفكرة القانونية لبنان، تاريخ 12/04/2021، عدد 68
انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، بيئة ومدينة ، سلطات إدارية ، مجلة لبنان ، لبنان ، مقالات



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني