بتاريخ 22/6/2016 أصدر قاضي الأمور المستعجلة في بيروت جاد معلوف قراراً "بإقفال مطاحن لبنان الحديثة وضبط كامل كمية القمح ومنتوج الطحين والعلف الحيواني الموجود داخلها حالياً على ألاّ يعاد العمل بها الا بعد إصدار الخبيرة المعيّنة من قبل المحكمة تقريراً يبيّن أن المستدعى بوجهها قامت بكل التعديلات اللازمة التي تؤمن الحد الأدنى من الجودة والسلامة في المنتوجات التي تبيعها. وعلى أن تدفع هذه الأخيرة غرامة إكراهية مئة وخمسين مليون ليرة لبنانية عن كل يوم تتمّ فيه مخالفة هذا القرار".
وجاء قرار القاضي بعد ان أرسلت المحكمة خبيرة مكلفة بالكشف على المطحنة فنظمت هذه الأخيرة تقريراً دقيقاً خلصت فيه الى "أنه لا يجوز الاستمرار في تشغيل هذه الصوامع بدون وضع خطة علمية وهندسية لتنظيف وتعقيم وإعادة ترميم الصوامع والبناء بأكمله ليكون مطابقاً للمعايير العالمية والعلمية للجودة والسلامة العامة للغذاء".
بداية الحملة
في آذار من العام 2016 أطل وزير الصحة وائل أبو فاعور على وسائل الاعلام خلال مؤتمر صحافي أعلن خلاله أن "القمح الذي نأكله في لبنانيحتوي على مادة الاوكراتوكسين المسرطنة""، فردّ عليه وزير الاقتصاد آلآن حكيم مؤكداً أن "وزارته قامت بفحص عيّنات من القمح ووجدت انه غير مسرطن".
هذا التناقض في الآراء والمعلومات من قبل الطرفين، أثار الشك لدى اللبنانيين، ما دفع البعض الى التحرك. وعليه منذ نحو ثلاثة أشهر تقدم بعض الافراد فضلاً عن عدد من الجمعيات منها جمعية "فرح العطاء" و"جمعية حماية المستهلك"، باستدعاء امام قاضي العجلة في بيروت طالبوا من خلاله تعيين خبراء للكشف على عدد من المطاحن الموجودة ضمن نطاق منطقة بيروت لمعرفة ان كان القمح يحوي على مواد مسرطنة وان كانت شروط تخزين القمح سليمة لديهم. وبناء عليه كلف قاضي العجلة خمس خبراء للكشف على خمس مطاحن في نفس الوقت.
وفي هذا السياق يتحدث المحامي الياس سلامة من "فرح العطاء" ويقول: "توجهنا عند الساعة السادسة صباحاً بتاريخ 14/4/2016 الى المطاحن للكشف عليها. وأثناء اخذ العينات من احد الاكياس في مطاحن لبنان الحديثة سقط منها الصراصير فأغلقنا الكيس، وتوجهنا الى القاضي وأخبرناه ما حصل معنا. فأصدر القاضي قرار "بتكليف الكاتبين زياد شعبان وغسان مشلب بتحديد المخازن التي تم استخراج العينة المضروبة منها وختمها فوراً بالشمع الاحمر. وكلف الخبيرة كارول السخن باعداد تقرير عن القمح الموجود في المخازن ونتيجة الفحوصات بشأنه وابداء رأيها حول مدى إمكانية الاستمرار في استعمال كل من المخازن المعنية بعدما تبين وجود الصراصير في داخلها، وما اذا كان من الضروري تفريغها وتعقيمها قبل إعادة استعمالها".
وتابع سلامة: "وقد توجهت الخبيرة السخن الى المكان وقامت بالتصوير وأصدرت تقريرها بأن المطحنة غير مستوفية للشروط الصحية والمعايير المطلوبة. واثناء قيامنا بالكشف على المحطنة، كانت الصراصير والجرذان تسرح في المكان ناهيك عن الروائح الكريهة والاوساخ والنوافذ المكسورة وكل ذلك موثق بالصور والفيديو".
وقبل ان يصدر القاضي قراره بإغلاق المطحنة، طلب من المعنيين فيها التعليق على تقرير الخبيرة السخن في مهلة 48 ساعة. فطلبوا منه مهلة اطول للاجابة فأعطاهم أربعة ايام وبعد الإجابة اتخذ القرار.
وبناء عليه، عند الساعة العاشرة من صباح 23/6/2016 توجه كاتب المحكمة زياد شعبان يرافقه محامي الجهة المستدعية ملحم خلف الى "مطاحن لبنان الحديثة"، لتطبيق قرار القاضي. في البداية كان الوضع طبيعياً داخل المخازن وكانت واضحة محاولات تنظيف المكان. على ان أعمال الشطف والغسيل لم تتمكن من اخفاء الروائح الكريهة والتي هي نتيجة طبيعية لنشّ الجدران وتخزين القمح على نحو غير سوي.
الجولة بدأت من المخازن التي ختمت بالشمع الأحمر وصولاً الى الطابق الخامس حيث المعدات وحيث "الطوابير" التي يوضع فيها الطحين. وكان الخبير يفحص الآلآت ويستوضح عن آلية العمل فيما يقوم المحامي خلف بالتقاط الصور لتوثيق المخالفات.
محاولة الاعتداء على المحامي خلف
ومن ثم حضر وكيل الجهة المستدعى بوجهها المحامي قسطنطين كاليونجي الذي طلب من الجميع مغادرة المبنى باستثناء كاتب المحكمة كما طلب الامتناع عن التقاط الصور. وهنا سأل خلف "هل هناك قرار من القاضي يمنع التصوير؟". فردّ عليه كاتب المحكمة "وهل هناك قرار بأن تصوّر". فأجابه خلف: "بالمبدأ وحسب القانون كل شيء غير مصرح به نفياً هو مسموح. ما تعلموني القانون انا هنا مستدعٍ. وانا هنا بقوة القانون وبقوة القرار".
ارتفعت حدة الأصوات قليلاً وقام كاتب المحكمة بالاتصال بالقاضي لمعرفة ان كان بالامكان منع خلف من التقاط الصور. الا انه عاد خائباً من هذه الناحية حيث قال بأن القاضي أوعز اليه ان يقوم بعمله المكلف به وحسب، ما يعني على نحو مباشر بأنه لم يمنع التصوير.
شريط كهربائي طويل مربوط بحجر يمتد من كورة في الارض الى مخزن عميق تحت الارض فيه طحين، هكذا تقاس كمية الطحين الموجودة. بعدها يسحب الشريط ويوضع جانباً على الارض. المشهد مستفز بعض الشيء لا سيما وأنّ الطحين فيما بعد لا يغسل وانما يستخدم فوراً. الا ان دخول التلفزيونات قطع مسألة التدقيق في مدى صحة هذا الاسلوب في القياس. استقبلهم خلف مصرحاً وبصوت مرتفع "ما حدا رح ياكل قمح جواتو صراصير.. القضاء اليوم يعيد الثقة في لبنان". من ثم شرح باختصار الواقعة القانونية التي أدّت الى اتخاذ هذه الاجراءات في المطحنة.
وبعد ان انهى خلف حديثه، توجه كاليونجي الى الوسائل الاعلامية قائلاً: "حتى من خلال تقرير الخبيرة النظري الذي قدمته الى المحكمة والذي هو ليس تقريراً علمياً فيه نتائج عن عينات الطحين الذي أخذوا منه، فإن الطحين جيد ونحن يهمنا السلامة العامة والصحة العامة". عندها سألته اعلامية عن دافع القاضي باصدار هكذا قرار ان كانت تتوافر في المطحنة الشروط اللازمة، فأجاب: "هم قاموا بفحص مخزن لا يستعمل وموجود في الجهة الأخرى".
واستعان كاليونجي "بقرار صادر عن وزارة الزراعة يحمل الرقم 502/1 يسمح بوجود بقايا زجاج واوساخ وحتى صراصير في شوالات القمح ". وأصرّ على نكران وجود هذه الاوساخ في المطحنة رغم توثيق الجهة المدعية لهذه الحالات بالصور والفيديو كما تم توثيق صور الجرذان الحية والنافقة. علماً انه أثناء الجولة في المطحنة كان واضحاً الانتشار الكثيف لأدوات صيد وقتل الفئران. وتحدى كاليونجي الخبيرة السخن بأن تعطي عينة عن قمح غير مطابق للشروط. وأصرّ على ان القمح جيد وأن "التقارير نظرية".
اسلوب التشكيك المعتمد من وكيل الجهة المستدعى في وجهها قابله تأكيد المحامي خلف على كفاءة الخبراء الذين لم يسبق للجهة المستدعية اي معرفة بهم. وتابع: "ان لم يوجد من يهتم بالسلامة الغذائية في لبنان فنحن نريد من القضاء ان يهتم بها". ولفت الى ان "قرار القاضي غير قابل للاستئناف وانما يحق لأصحاب المطحنة الاعتراض" مؤكداً ان "الهدف من الدعوى في الاساس هو تأمين السلامة الغذائية للمواطن مطالباً بتشكيل هيئة وطنية للسلامة الغذائية في لبنان".
ثم تابع خلف جولته في جو مشحون بينه وبين وكيل الجهة المستدعى في وجهها، واستمر يشرح التغييرات السريعة المستحدثة من خلال انارة بعض الاماكن المظلمة وتنظيف أماكن اخرى وغيرها من الامور. واثناء سيره نصح أحد الموجودين المحامي كاليونجي ان يصطحب خلف ليريه احد البرادات. فردّ عليه كاليونجي "سآخذه الى البراد اليوناني واقدم له فنجان قهوة". سمع خلف ما قاله فأجاب "اسلوب المخابرات لا ينطلي عليي". فردّ عليه كاليونجي "نحن نتأهل بك ليس لتقول لي وسائل المخابرات.. استاذ ملحم لن تكمل مسيرتك قبل ان تسحب تعبير وسائل المخابرات". الا ان خلف لم يكترث بما قاله وتابع صعود السلالم ليتابع عملية الكشف، فعندها اشتعل كاليونجي غضباً وقال له "اعمل معروف برات المطحنة". فرد عليه خلف "قل للقاضي ان يوقفني"، ثم تابع صعوده للسلالم. عندها طلب المحامي من العمال اللحاق بخلف لاخراجه بالقوة وقال لهم "خلوا يطلع برا… طلعوا برا". فركض نحو عشرة أشخاص وراء خلف وبدأوا بشد ملابسه حتى فكوا ربطة عنقه. وبعد ان تمّ حصره في زاوية الطابق الخامس حتى كاد يسقط عن الحافة، صرخ عليهم قائلاً: "من سيجرؤ على الاقتراب مني سأضعه في الحبس الليلة". فردّ عليه عدد من العمال بكمّ من الشتائم والسباب فيما كان قسم منهم يلاحق الاعلاميين الذين حاولوا تصوير ما حدث. عندها تدارك المحامي كاليونجي الوضع وطلب من العمال الابتعاد عن خلف الذي تابع جولته حتى النهاية .
وفي حديث معه نفى خلف النية في الادعاء على من تعرض له مؤكداً ان "الغاية ليست اقفال المطاحن على نحو دائم وقطع أرزاق الناس. انما كل ما نريده هو تنظيف المكان وجعله مطابقاً لمعايير السلامة الغذائية".
موقف وزير الصحة
وفي اتصال مع وزير الصحة وائل أبو فاعور تعقيباً على قرار القاضي جاد معلوف، أعرب الأخير عن فرحه في الخطوة التي تمّت والتي أثبتت صحة اقواله. وقال: "ممتاز. الحمدالله ان هناك من يتحرك في البلد ولا مصالح أخرى لديه سوى السلامة العامة". وأكد ان القرار الصادر هو محفز له في استمرار حملته ضد الأغذية الفاسدة و"كل ما يهدد السلامة العامة للمواطنين".
متوفر من خلال: