اقتراح قانون لحماية المنافسة أم لتنظيم الاحتكار وحمايته؟

اقتراح قانون لحماية المنافسة أم لتنظيم الاحتكار وحمايته؟
رسم رائد شرف

تشريع “حماية المنافسة” منتظر منذ أكثر من عقدين، حيث يعود أوّل الطروحات الجدّية لإقراره في لبنان إلى منتصف التسعينيّات في إثر حثّ الاتّحاد الأوروبي السّلطات اللبنانية على وضع إطار تشريعيّ في هذا المجال، كشرط لتوقيع اتفاقية الشراكة الأورو-متوسطية. 

وهو تشريع أساسي لمكافحة الاحتكارات وحماية الاقتصاد وحقوق المستهلك.

وكان وزير الاقتصاد السّابق منصور بطيش قد أعدّ مشروعاً في هذا الصدد في أيار 2019، أدخل تعديلات عليه خلفه راوول نعمه قبل أن تقوم كتلة الوفاء للمقاومة بتقديم اقتراح هو بمثابة استعادة لمشروع بطيش مع بعض التحسينات عليه، وهو الذي اعتمد كأساس للنقاش في اللجان النيابية. 

وكان المرصد البرلماني قد دوّن ملاحظاته على مقترح قانون المنافسة ضمن مقالتين (في عدد “المفكّرة القانونية” المخصّص للاحتكارات)، الأولى تناولت مفهوم الممارسات المخلّة بالمنافسة والثانية تناولت آليات حماية المنافسة. واعتبر المرصد أنّ المقترح، وعلى افتراض أنّه بداية في مجال حماية المنافسة، يشوبه العديد من الثغرات. كما خصّص المرصد سلسلة من المقالات لمسألة تخفيف حماية الوكالات الحصرية التي يدخلها المقترح (نحيل القارئ إليها هنا وهنا وهنا وهنا)

أما النسخة المطروحة على التصويت في البرلمان خلال جلسة 21-22 شباط 2022، وهي النسخة التي أقرّتها اللجان النيابية المشتركة، فقد اتجهت بشأنها الأضواء كلّها نحو التخفيف من حماية الوكالات الحصرية (وهي تتصل بالاستيراد والتوزيع) وهو أمر شهد تطوراً معيناً. وعلى هامش ذلك، كان يجري في الغرف المغلقة إفراغ سائر أحكام المقترح من أي جدوى، وتشويه آليات حماية المنافسة. وبنتيجة ذلك، أمكن اعتبار الاقتراح بصيغته النهائية بمثابة قانون لتنظيم الاحتكار وحمايته وليس قانوناً لحماية المنافسة. ونعمد هنا إلى تبيان أبرز الأسباب التي تحتّم هذه النتيجة بشكل مختصر، مشدّدين على التشويهات في الاقتراح التي أدخلتها صيغة اللجان المشتركة، محيلين القارئة إلى تفاصيلها في المقالات المذكورة أعلاه.

لأنّه يقوّض مجالات حماية المنافسة أو إمكانات مكافحة الممارسات المخلّة بها 

وما يحملنا إلى اعتبار اقتراح قانون المنافسة المطروح على التصويت بمثابة اقتراح لحماية الاحتكار وتنظيمه، الأسباب التالية:

يعتمد الاقتراح تعريفات تقيّد بشكل كبير الممارسات المحظورة وبالتالي الخاضعة للمعاقبة:

  • اعتمد الاقتراح (بصيغتيه الأساسية والنهائية) تعريفاً إشكالياً  لـ “السوق” التي يجدر منع الإخلال بالمنافسة فيه، بحيث تمّ ربطه  بمعيار جغرافي. فبعدما عرّف الاقتراح السوق بأنّها “منطقة جغرافية محدّدة تتوفّر فيها ظروف منافسة متجانسة ومميزة عن غيرها من المناطق، بحيث تكون المنتجات فيها قابلة للاستبدال فيما بينها”، نصّ على أنّه يكون “في وضع مهيمن (من) كانت حصته في السوق المعني لا تقل عن 35%”. والإشكال يتأتى من صغر مساحة لبنان. فكيف ستحدّد مثلاً هذه النسبة بالنسبة إلى سوق بيع السيارات، خصوصاً إذا ما تمّ تقسيمها على أساس مناطق جغرافية مختلفة؟
  • عزّزت الصيغة المعدّلة من الربط بين وقوع إخلال فعلي بالمنافسة وقيام اتفاقات مخلّة بالمنافسة. بمعنى أنّ الفعل لا يقع ضمن الحظر إلّا في حال إثبات إخلال فعلي بالمنافسة في حين أنّ “إمكانية الإخلال” كافية للمعاقبة في القانون المقارن. 
  • حصرت الصيغة المعدّلة مفهوم الوضع المهيمن في السوق بتملّك حصة معيّنة منه في حين أنّ هنالك تجليّات أخرى لوجه الإخلال بالمنافسة هذا (كانت قد اعتمدتها الصيغة الأساسية). ورفعت الصيغة المعدّلة النسبة من الحصص في السوق في النسخة المقرّة في اللجان بحيث باتت تتراوح بين 35 و55% حسب عدد الأشخاص، في حين كانت تتراوح بين 20 و33%. وطبعاً سيضيّق رفع النسب هذا من حظوظ توفّر هذا الوجه من الإخلال بالمنافسة. وكان رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برّو اعتبر في حديث مع “المفكّرة” أنّ نسبة  35% مرتفعة جداً بحيث سيكون احتكار قطاع الأسمنت من قبل ثلاث شركات كما هو حاصل اليوم قانونياً ومحمياً من قبل الدولة.
  • أفقدت كلّ من الصيغة الأساسية والمعدّلة مفهوم “استغلال التبعيّة الاقتصادية” من أي مفاعيل بحد ذاته بحيث لا يعاقب على حدة بل فقط إذا نتج عن وضع مهيمن.
  • حصرت الصيغة المعدّلة موجب الإبلاغ عن عمليّات التركز الاقتصادي بحالة تجاوز متوسّط حصّة الأطراف (المشاركين في عملية دمج مثلاً) نسبة 30% من السوق. فألغت الصيغة المعتمدة المعايير الأخرى لموجب الإبلاغ، كالالتفات إلى أحجام رقم الأعمال العالمي أو المحلّي الخاص بهذه الأطراف (وهو المعتمد في القانون المقارن).
  • لم تعتمد أي من الصيغة الأساسية أو المعدّلة تعريفاً لمفهوم “مجموعة من الأشخاص” يمتلكون حصّة من السوق. وفي حال تفسير هذه العبارة على أنّها تشترط الإعلان الرسمي عن المجموعة، لن يتمكّن للقانون من أن يطال الكارتيلات غير المُعلنة.

في المقابل يوسّع الاقتراح بشكل كبير مجال الاستثناءات على مبدأ حظر الممارسات (أي الحالات حيث لا ملاحقة ولا عقوبة):

  • أورد المقترح الأساسي استثناءات على حظر الأعمال والاتفاقات والتحالفات المخلّة بالمنافسة، من خلال استخدام مفهومين قابلين للتوسّع هما “النفع الاقتصادي العام” أو “التقدم التقني أو الاقتصادي”، ومن دون وضع أي ضوابط لمنع التعسّف في استخدامهما. وأضافت الصيغة المعدّلة في اللجان حالات “تحسين إدارة الشركات المتوسطة أو صغيرة الحجم” و”ظهور منتج جديد” و”زيادة قدرة الشركات اللبنانية على المنافسة في الخارج”، وهي استثناءات خطيرة جداً.

ورفعت الصيغة المعدّلة النسبة القصوى من مجمل أعمال السوق التي يُسمح دونها بإعمال هذه الاستثناءات، بحيث بات النص يشترط ألّا تتجاوز “الحصّة الإجمالية لأطرافها نسبة تزيد عن 40% من مجمل أعمال السوق المعنية” بعد أن كانت 10% فقط في الاقتراح الأساسي.

  • أضافت الصيغة المعدّلة استثناء يُخرج الاتفاقات والممارسات العمودية المقيّدة (أي مثلاً منع مورّد من التعامل مع منافسين)، بحيث باتت لا تحظّر إذا أثبت أحد الأفرقاء أنّ “الفائدة التكنولوجية أو الاقتصادية أو غيرها من الفوائد التنافسية الناتجة عن الاتفاق تفوق عموم نتائجه السلبية”.
  • يعتبر المقترح عمليات التركيز الاقتصادي (التي يُخضعها للمصادقة المسبقة) مصدّقة عند عدم اتخاذ هيئة المنافسة قراراً ضمن مهلة محدّدة.
  • يبيح المقترح المضي في عملّيات التركّز قبل صدور موافقة هيئة المنافسة في حالة تعلّقها بالقدرة التنافسية للأطراف المعنية محلياً أو دولياً، وهو استثناء شديد الخطورة.
  • في المقابل – ويُعتبر ذلك من التحسينات النادرة على النص – تمّ حصر مفهوميْ الضرورة والمصلحة العامة بالحالات المتعلّقة “حصراً بالتنمية الصناعية أو القدرة على توفير فرص العمل الجديدة أو الحفاظ على تلك الموجودة وبالقدرة التنافسية للأطراف المعنيّة محلياً ودوليّاً” (وهذا ما سبق أن دعا إليه المرصد).

لأنّه يضرب استقلالية الهيئة الوطنية للمنافسة ويقوّض فعالية نشاطها

يفتح المجال لتأخّر إنشائها

  • ألغت الصيغة المعدّلة مهلة الـ 6 أشهر لإنشاء الهيئة الوطنية للمنافسة. وطبعاً يحمل ذلك معه الخوف من تكرار التجارب السابقة حين تأخّر التكوين الفعلي للهيئات المنشأة بموجب قوانين لسنوات (آخرها هيئة مكافحة الفساد).

لا يمنحها أي استقلالية

  • تتمتّع الهيئة بصلاحيات إنزال عقوبات إدارية بالمخالفين من دون أن تتمتّع بالاستقلالية أو بضمانات المحاكمة العادلة (لا سيّما عدم الفصل بين صلاحيات الملاحقة والتحقيق والحكم). فهي تحت إشراف وزير الاقتصاد ويعيّن أعضاؤها بموجب مرسوم حكومي.

خلل في المصالح المتمثّلة في تشكيل مجلس المنافسة داخل الهيئة، وضرب التنوّع المطلوب داخلها

  • استبدلت الصيغة المعدّلة من صيغة تقديم خبراء في مجالات معيّنة وممثّلين عن قطاعي الإنتاج والتوزيع ترشيحاتهم بعد إعلان يوزّع في الصحف لتشكيل المجلس، باعتماد عضويات محفوظة لمرشّحين من قبل كل من غرفة التجارة والصناعة والزراعة (2) والمجلس الاقتصادي والاجتماعي من غير أرباب العمل (1)، ونقابة المحامين في بيروت والشمال مداورة (1)، ومجلس الجامعة اللبنانية (1). وتُعتبر هذه الصيغة أقلّ حمائية بالنظر إلى الواقع القائم في لبنان، وتسهيلاً لوضع يدّ الجهات القوية والتقليدية التي قامت في النظام الاقتصادي شديد الاحتكار الذي ساد في العقود الثلاثة الأخيرة، على المجلس.
  • لا مكان محفوظ لخبير في حماية المستهلك.
  • استبعاد قضاة مجلس شورى الدولة وديوان المحاسبة وحصر العضوية باثنين من القضاة العدليين (2).
  • خلوّ النص من أحكام خاصّة بتضارب المصالح.

وضع موجب سريّة واسع جداً على الهيئة، ما قد يقوّض بشكل كبير فعالية نشاطها في كشف الممارسات المخلّة بالمنافسة وملاحقتها

  • وسّعت الصيغة المعدّلة موجب السريّة الذي بات يتعدّى حماية “الأسرار التجارية” ليشمل كل “الأسرار المهنية والتقنية والمالية” و”عدم المسّ بالمصالح التجارية المشروعة” للأطراف،
  • بات موجب السريّة في الصيغة المعدّلة يسري عند نشر قرارات الهيئة وفي تعاملها مع مجالس حماية المنافسة في الخارج في حين أن تبادل المعلومات أساسي لكشف الممارسات المخلّة بالمنافسة وملاحقتها،
  • إنزال عقوبات قاسية على أعضاء الهيئة وموظفيها في حال مخالفة هذا الموجب كغرامة تصل إلى 24 ضعف الراتب الشهري للموظف و48 ضعف الراتب الأدنى لعضو الهيئة والصرف من العمل. ويذكّر ذلك بالشروط والعقوبة التي كانت مفروضة على الشاكي والتي كان منصوصا عليها في قانون الإثراء غير المشروع قبل تعديله (حيث كان يفرض لقبول الشكوى أن يقدم الشاكي كفالة مصرفية مقدارها خمسة وعشرون مليون ليرة لبنانية، وغرامة لا تقل عن 200 مليون ليرة وبالحبس لفترة هي ثلاثة أشهر حتى سنة فضلاً عن العطل والضرر، في حال منع المحاكمة عن المشكو منه أو إبطال التعقبات بحقه)، والتي كانت بمثابة عقبات لملاحقة جرائم الإثراء غير المشروع. 

لأنّه يعتمد نظاماً عقابياً من دون أسنان وغير متناسب مع خطورة الأفعال

  • العقوبات تبقى غير فعّالة ولا تتناسب مع خطورة الأفعال المحظورة. والملفت أنّ نسخة اللجان المشتركة خفّفت بعد أكثر من مقدار بعض العقوبات والغرامات الإكراهية،
  • لم تعالج الصيغة المعدّلة مسألة غياب العقوبات الجزائية، 
  • جعلت الصيغة المعدّلة إثبات الضرر الناتج عن الممارسات المخلّة بالمنافسة أمراً بغاية الصعوبة حيث ألغت القرائن على وقوع الضرر المستوجب التعويض،
  • لم تعالج الصيغة المعدّلة الطابع الواسع لإمكانية تسوية الأوضاع المنافية للمنافسة خلال سنة من تاريخ نفاذه. ويشكّل ذلك خطراً على مصلحة المجتمع والاقتصاد حيث كان يقتضي إرفاقها بمعايير واضحة عن الأفعال غير القابلة للتسوية.
انشر المقال

متوفر من خلال:

المرصد البرلماني ، البرلمان ، تشريعات وقوانين ، حقوق المستهلك ، لبنان ، اقتصاد وصناعة وزراعة



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني