استقالات موجعة تنذر بانهيار المرفق القضائي


2021-11-26    |   

استقالات موجعة تنذر بانهيار المرفق القضائي

انتشرت في وسائل الإعلام في 24/11/2021 معلومات حول تقدّم عدد من القضاة استقالاتهم إلى مجلس القضاء الأعلى، وهم القاضيات جانيت حنّا ورلى الحسيني وكارلا القسّيس، فضلا عن القاضي زياد مكنّا. وكما جاء في بيان ائتلاف استقلال القضاء اليوم، لم يعلن هؤلاء عن أسباب استقالاتهم التي يبدو أنّه تمّ تقديمها بصورة جماعية، وتالياً لا تتوفّر حتى الآن معلومات موثوقة حول نوايا أصحابها، وما إذا كانت نهائية أم قُدّمت على سبيل الضغط أو لفت النظر إلى تردّي الأوضاع التي وصل إليها المرفق العام القضائي. فبالإضافة إلى تدنّي قيمة رواتب القضاة (التي أصبحت تقارب 250 دولاراً كمتوسّط) على غرار عموم الموظّفين العموميين والكثير من العاملين في القطاع الخاص، يعاني المرفق القضائي من مجموعة من العوامل السلبية المتمثّلة في شحّ الموارد المادية (كهرباء، ورق للمحاكم، …) إضافة إلى إضرابات الموظفين العامّين احتجاجاً على أوضاعهم المادية، الأمر الذي يُعطّل عمل وانتاجية القضاة منذ فترة. 

كما ذكر ائتلاف استقلال القضاء في بيانه أنّ العامل المادي ليس العامل الوحيد المؤثر، بل يندمج مع عامل معنوي ناتج عن تعرّض العديد من القضاة لحملات منظّمة من التّحقير والتّخويف عن غير حقّ، وذلك على خلفيّة عدد من القضايا أهمّها قضية تفجير المرفأ والقضايا المتّصلة بحاكم مصرف لبنان والمصارف. هذه الحملات، باتت تُشعر القضاة بألّا إمكانية لإحداث أي خرق في نظام الإفلات من العقاب المتجذّر في لبنان وبتعاون وانصياع تام من قبل العديد من زملائهم.

إنّ مجرد التدقيق في أسماء القضاة المستقيلين يؤكد المخاوف بأن أكثر القضاة تأثّرا بهذه العوامل السلبية هم القضاة الأكثر حرصاً على الحفاظ على أخلاقيّاتهم القضائية سواء لجهة الاستقلالية أو النزاهة. وهذا الأمر يتأتّى عن اعتماد هؤلاء بشكل أساسي وربما حصريّ على رواتبهم الأساسية وذلك بخلاف القضاة المنخرطين في الفساد الذين تزخر حساباتهم بمنافع غير مشروعة. كما يتأتّى عن أنّ هؤلاء هم الأكثر عرضة للتحريض والترهيب والتحقير بفعل استقامتِهم ورفضِهم الإذعان لمنظومة الإفلات من العقاب، ومن تراكمات من الظلم لسنوات بحقّ هؤلاء بسبب انعدام تكافؤ الفرص مع من يُذعن لها. 

انطلاقا من ذلك، يهمّ “المفكرة القانونية” التذكير بما كانت وثّقته من قبل حول استقالات قضائية جماعية في أوائل التسعينيات في زمن ما بعد انتهاء حرب 1975-1990 وبعد الانهيار الأول للعملة اللبنانية. وكما اليوم، لم تنحصر أسباب الاستقالات بالظروف المادّية للقضاة بل تجاوزتها إلى أسباب مهنّية تتعلّق بتكافؤ الفرص واستقلالية السلطة القضائية. 

كتب استقالات فردية: “أي مستقبل نعد به أنفسنا وأولادنا والعالم من حولنا في وطن لا قضاة فيه؟” 

(منشور في الورقة البحثية عن إصلاح القضاء العدلي التي نشرتها المفكرة: 6-7):  

برزت حركة استقالات في صفوف العديد من القضاة تبعا لانهيار القيمة الشرائية لرواتبهم بعد انهيار العملة الوطنية في الثمانينات. وقد بلغت أوجها بين 1991 و1993. وقد برزت في الإعلام في هذه الفترة كتب استقالة فردية صادرة عن عدد من القضاة، علما أن بعضهم تمسك بهذه الاستقالة فيما عاد بعضهم الآخر عنها فيما بعد. 

ومن أبرز هذه الاستقالات، استقالة القاضي الراحل جوزيف غمرون المقدمة لوزير العدل بهيج طبارة والتي عبّر فيها ببلاغة عن اعتراضه لما آلت إليه الأوضاع في القضاء:

“أستقيل لأني لم أعد أستطيع التحمّل، أن يقف قاض على باب مستشفى، مصاباً بنوبة اختناق كادت تقضي عليه، فيُمنع من الدخول لأنه لا يحمل في جيبه ألف دولار… ولأني لم أعد أستطيع التصوّر أن يصل القضاة إلى آخر الشهر وهم المؤتمنون على أرواح العباد وأرزاقهم وليس في جيبهم ما يؤمن شراء كتاب لهم ولا قميص لأولادهم ولا حتى أحياناً رغيف، وهم على الذل قاعدون…

ولأني وأنا القاضي، لم أعد أستطيع الاحتماء في حمى دولة، يكرم فيها الشاويش، ومن حقه التكريم، أكثر مما يكرّم كبير من القضاة.

وقد تعلمت في البيت وفي المدرسة وفي الكلية بأن حرية المواطن وكرامته واستقلاله لا تكون إلا من خلال قضاء حرّ وصريح ومستقل. هذه المدرسة التي علمتها وعشتها طوال تلك السنين إنها تستقيل اليوم …، إنها تستقيل من خلال من سبقني من القضاة ومن خلال من يسابقني منهم إلى الاستقالة.

فهل يراد لعدلية لبنان … أن يخرج منها القضاة فيدخل الموظفون؟ وأي إعمار لأي مستقبل نعد به أنفسنا وأولادنا والعالم من حولنا في وطن لا قضاة فيه؟

إن معنويات القضاء عبثاً صنعها إلا القضاة. إن وضع القضاء اليوم يمنعني من إكمال الرسالة وأنا على الإيمان نفسه”.

في الاتجاه نفسه، ذهب رئيس محكمة الجنايات في بيروت القاضي منيف حمدان في كتاب استقالته: 

“القضاة بأكثريتهم قد جاعوا. إلى الرغيف جاعوا وإلى الكتاب جاعوا. وإلى الاستقرار جاعوا. وإلى النهوض من كبواتهم جاعوا“. 

ولحقه رئيس محكمة الاستئناف في بيروت القاضي مارون عزيز فوجّه كتاباً إلى وزارة العدل رأى فيه أن “أدنى حقوق القاضي من الطمأنينة والكرامة وصفاء العيش لم يعد متوافراً في الزمن الراهن” ليعلن أن أحواله الشخصية وظروفه الخاصة “لا تمكنني من الاستمرار في تأدية رسالتي القضائية على الوجه الذي يرضي الله، وبالشكل الذي أريده لنفسي“. 

كذلك اعتبر القاضي جوزيف جريصاتي أن “الوضع المأساوي الذي آلت إليه السلطة القضائية من الناحيتين المعنوية والمادية لم يعد يمكنني من الاضطلاع برسالتي القضائية”. وكذلك أعلن القضاة بيار صفا، غبريال بيضا، هنري نقاش، محمد البابا، جورج جهشان، صباح حيدر، موسى كلاس، رندى كفوري وريمون معلوف استقالاتهم ليعود من ثم بعضهم عنها كما سبق بيانه. ورغم خطورة الوضع، نقلت “النهار” عن رئيس مجلس القضاء الأعلى  القاضي فيليب خيرالله أن “لا لزوم لتوجيه دعوة إلى عقد جمعية عمومية للقضاة” للتباحث في الخطوات الواجب اتخاذها للضغط على مجلس الوزراء لإقرار تحسينات فعلية على أوضاع القضاة المادية”.

وقد تطورت ذيول هذه القضية إلى حدّ تناولها من قبل النواب خلال جلسات المناقشات النيابية. فعلّق النائب محمود طبو على الأمر قائلاً: “وكيف يمكننا ألا ننتبه إلى هذا الخلل والخطأ في الجسم القضائي خاصة وأنه لا يمرّ أسبوع واحد بدون أن يتقدّم أحد القضاة المشهود لهم بالكفاءة والنزاهة والإقتدار باستقالته بدءاً من القاضي منيف حمدان ومروراً بالقاضي كلاس والقاضي صباح حيدر. ثم توّجت هذه الاستقالات باستقالة القاضي جوزيف غمرون المعروف باقتداره ونزاهته. هل هذا الأمر عادي حتى تعامل السلطة القضائية بهذا الاستخفاف واللامبالاة؟ أليس تقديم الاستقالات المعللة يوجب توجيه الأنظار إلى معالجة الخلل في هذا الجسم القضائي؟ إني أقول: إن القضاة ليسوا موظفين ولكنهم سلطة. فإذا ما تخلى القضاة عن رسالتهم، فإنني أدقّ ناقوس الخطر لأننا نؤسس في هذه الحالة لثورة جديدة“.

انشر المقال

متوفر من خلال:

قضاء ، المرصد القضائي ، محاكم مدنية ، محاكم جزائية ، حركات اجتماعية ، استقلال القضاء ، لبنان ، مقالات ، دولة القانون والمحاسبة ومكافحة الفساد



اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشوراتنا
لائحتنا البريدية
اشترك في
احصل على تحديثات دورية وآخر منشورات المفكرة القانونية
لائحتنا البريدية
زوروا موقع المرصد البرلماني